الأخبار
مع بدء ترحيل السكان.. تصاعد التحذيرات الدولية من اجتياح رفحمجلس الحرب الإسرائيلي يُقرر المضي في عملية رفحطالع: تفاصيل مقترح وقف إطلاق النار الذي وافقت عليه حماسحماس تُبلغ قطر ومصر موافقتها على مقترحهم لوقف إطلاق النارممثل عشائر المحافظات الجنوبية يحذر من خطورة اجتياح الاحتلال الإسرائيلي لمدينة رفححماس: انتهاء جولة المفاوضات الحالية ووفدنا يغادر القاهرة للتشاور مع قيادة الحركةهنية يكشف أهم شروط حركة حماس للتواصل لاتفاق مع إسرائيلمقتل أربعة جنود إسرائيليين بقصف المقاومة الفلسطينية لمعبر (كرم أبو سالم) العسكريالحكومة الإسرائيلية تغلق مكتب الجزيرة تحت ذريعة أنها "قناة تحريضية"الخزانة الأمريكية : بيانات الاقتصاد تؤكد وجود تباطؤ بالتضخممسؤولون أمريكيون: التوصل إلى اتفاق نهائي بغزة قد يستغرق عدة أيام من المفاوضاتالمستشفى الأوروبي بغزة يجري عملية إنقاذ حياة لطبيب أردنيتحذيرات أممية من "حمام دم" في رفحالمقاومة الفلسطينية تكثف من قصفها لمحور (نتساريم)غارات إسرائيلية مكثفة على عدة مناطق في قطاع غزة
2024/5/11
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

من يوميات إعلامي مصري: دماء في بلاط الحرم! بقلم:محمد سعيد محفوظ

تاريخ النشر : 2005-11-09
من يوميات إعلامي مصري: دماء في بلاط الحرم! بقلم:محمد سعيد محفوظ
السبت 15 يوليو 2000:

قبل العاشرة صباحاً قطعت الطريق الرئيسى بين نابلس والقدس.. بمحاذاة مطار قلنديا الفلسطينى غير المأهول.. حتى وصلت إلى مدينة البيرة التى تقع على الشريان الممتد بين شمال فلسطين وجنوبها، على بعد تسعة أميال فقط من مدينة القدس..

مررت على مكتب تليفزيون الشرق فى رام الله لتحية الزميلة هبة الطحان مقدمة برامج الأطفال، والتى كنت قد التقيتها فى جامعة بيرزيت قبل أربعة أيام.. وأوصيتها بتدبير نسخة من شريط خطاب الرئيس ياسر عرفات الذى ألقاه فى خريف عام 1988 أمام الدورة الثامنة عشر للمجلس الوطنى الفلسطينى فى الجزائر بمناسبة تأسيس الدولة الفلسطينية، وهو الخطاب الذى تعهد فيه بصيانة حرية الرأى والتعبير... ثم غادرت بعد ذلك مدينة رام الله فى طريقى إلى سفح جبلى الرميدة والرأس، حيث تقع مدينة الخليل، التى كنت على موعد فيها مع الصحفية المشاغبة كوثر سلام مراسلة صحيفة الحياة الجديدة.. وواحدة من ضحايا التحرش اليومى والمضايقات المستمرة من قبل جنود الاحتلال الإسرائيلى..

.....................

ـ أنا صحفية، لا دخل لى بالجيش ولا بالمستوطنين، فأنا هنا لكى أؤدى عملى، وأسجل ما أرى بمنتهى الدقة والموضوعية.. وإذا رأيت جندياً إسرائيلياً يهدى وردة لأحد المواطنين الفلسطينيين، فسوف أسجل ذلك بالتأكيد..!!

.. هكذا قالت لى كوثر، فيما كنا نمضى بحسم فى شوارع وميادين الخليل، وفى أعقابنا ـ خطوة بخطوة ـ طاقم أمنى من جنود الاحتلال يتألف من خمسة أفراد..

طفت فى ذلك النهار بمعظم أحياء الخليل القديمة والجديدة: الشيخ على بكار، القزازين، قبطون، المشاقة التحتا، المشاقة الفوقا، عين مارة، واد التفاح، وادى الحربة، بئر المحجر، الجلة، دويريان وعيصى... كما تجولت فى بعض الأسواق الشعبية والتاريخية، مثل: القزازين، سوق اللبن، سوق خزق الفار، وخان شاهين...

وأمام إحدى القواعد العسكرية الإسرائيلية استوقفتنى كوثر سلام، قائلة:

ـ هذه الساحة كانت فى يوم ما سوقاً فلسطينياً للخضروات، قبل أن يطلق فيه أحد الجنود الإسرائيليين الرصاص على تسعة فلسطينيين دفعة واحدة فيصيبهم جميعاً، وبررت أجهزة الأمن الإسرائيلية هذه الجريمة فى ذلك الوقت بأن الفاعل "مجنون"!! ثم قامت سلطات الاحتلال بضم الساحة إلى مستوطنة إبراهام أبينوف، وبمرور الوقت تحول هذا السوق إلى ملعب لأبناء المستوطنين، الذين علقوا على ناصيته لافتة تقول: هذا المكان أرض إسرائيلية سرقها العرب!!

.....................

مرق من أمام الكاميرا طفل فلسطينى، يدعى جواد المحتسب.. روى لى كيف كان يلعب الكرة ذات يوم فى حوش منزله، عندما طلب منه الجندى الإسرائيلى بعنف أن يعطيه الكرة، لكنه رفض.. فما كان من الجندى إلا أن أطلق عليه النار فى وحشية مطلقة ، وأصابه بجرح غائر فى ساقه ترك أثراً حتى اليوم.. كما أصاب معه شقيقته!!

.....................

واصلت طريقى مع كوثر فى شوارع الخليل الواسعة، كان الطقس الحار قد أنهكنى، لكننى كنت فى ذروة غضبى إزاء ما أرى وأسمع.. كنت أستبق خطواتى فى تحد إلى ساحة الحرم الإبراهيمى جنوب شرقى المدينة، ومضت تداعب وجدانى ذكرى أكبر مظاهرة أهتف فيها من أجل فلسطين قبل تخرجى بشهور قليلة فى الجامعة.. كانت المظاهرة تستنكر المذبحة التى راح ضحيتها 42 من المصلين فى صحن الحرم الإبراهيمى فجر يوم الثلاثاء 25 فبراير من عام 1994 ـ الموافق ليلة النصف من رمضان ـ على يد ضابط احتياط فى الجيش الإسرائيلى يدعى باروخ جولدشتين من مستوطنة كريات أربع الواقعة على حافة الخليل...

سرت فى ذلك اليوم مع نحو عشرة آلاف من طلاب الجامعة ـ مدفوعين بفورة حماس وغضب ـ حتى طريق (الحرية) بالإسكندرية.. حيث اعترضت المسـيرة صـفوف من مدرعات الأمن المركزى والقوات الخاصة.. وأبى الشباب والفتيات إلا أن يتشبثوا بمواقعهم حتى تطرد الحكومة المصرية سفير الكيان الإسرائيلى من القاهرة احتجاجاً على المذبحة.. ولن تغادر خلدى ما حييت صورة المتظاهرين إذ طرحوا أجسادهم النحيلة على الأسفلت.. غير مكترثين بالمصفحات العملاقة التى هددت بسحقهم ما لم ينصرفوا فى الحال!!

تفرق المتظاهرون ليلتها.. بعضهم شغله عرض الدنيا، والقليل منهم ظل يتابع سيره على نفس الطريق.. لكننى وحدى ظللت أمشى وأمشى.. إلى أن بلغت منه حداً فاصلاً، حين وطئت قدماى ساحة الحرم الإبراهيمى.. ليداهمنى مجدداً ذات الشعور بالنقمة ، وسطوة الغضب.. وخيبة الأمل!

.....................

وقفت ممتثلاً أمام البناء الجليل للمسجد الإبراهيمى.. شارد اللب فى أغوار التاريخ، يحملنى السور الشاهق الذى يعانق الحرم، إلى العام السابع والثلاثين قبل الميلاد عندما حكم المدينة هيرودوس الأدومى، وشيد فيها القلاع التى أبيدت واندثرت إلا هذا السور العتيق.. كيف يتحدى اليهود هذه الأحجار التى يبلغ طول بعضها نحو سبعة أمتار ويزيد؟ كم تمنيت على هذا الصحن المهيب أن يبتعث الراقدين تحته: الأنبياء ابراهيم ويعقوب وإسحاق ويوسف وزوجاتهم عليهم جميعاً السلام.. ربما استحال علينا استرداد مقدساتهم تلك، إلا بزهو صعود أجسادهم من تحت الأرض، أو نزول أرواحهم النقية من السماء!!

كنت أتأمل مشدوهاً صدر الرواق المقابل لبناء المسجد.. كأنما تكلمنى الحجارة بلسان مبين! وفكرت فيما قد يتراءى للزائر حين تفضح اللافتات العبرية على أضرحة الأنبياء جرم التعدى على التاريخ الإسلامى للمدينة من قبل اليهود.. فى تلك اللحظة ضرب على منكبى بعنف أحد الجنود الإسرائيليين، صائحاً بغلظة:

ـ هنا.. ممنوع!!

... أفقت من غيبوبتى، والتفتت إلى ذلك الشئ الذى يحدثنى، كان صبياً أمرداً ملفوفاً بوزنه من السلاح، سألته ببرود:

ـ لماذا؟

أجاب بحسم:

ـ بدون أسئلة.. عليك أن تنفذ الأوامر، هذه منطقة عسكرية!!

كان فريق من الشباب الفلسطينيين يحملون جنسيات مختلفة (أمريكية، كندية، استرالية...) قد وصلوا لتوهم إلى المكان بغرض السياحة.. لكنهم ـ مثلى ـ أوقفوا أمام المتاريس المعدنية، التى توحى بأن مقراً لإدارة حرب أو مخزناً للأسلحة قد احتل المسجد وحوّله إلى ما يشبه الثكنة العسكرية!!

أثارنى المشهد، وقررت أن أبالغ فى التحدى.. طلبت من المصور أن يضع الكاميرا استعداداً لتصوير المقابلة مع الصحفية كوثر سلام، فى نفس الموقع الذى حاول الجندى الإسرائيلى دفعى بعيداً عنه!!

وسرعان ما عاد الجندى فزعاً!! وتطوع زملاؤه بحصارنا!! تشبثت بموقفى.. وهددت بنقل كل ما يجرى هنا إلى العالم عبر التليفزيون، وشجعنى التفاف الشبان الفلسطينيين حولى، وكانت كوثر تلتقط صوراً فوتوغرافية للمشه ، ويبدو أن الكاميرا الصحفية لا تفارقها هى الأخرى!!

اندفع أحد الجنود الإسرائيليين نحو كاميرا التليفزيون، وصوب قبضته الثقيلة نحو العدسة.. كان كمن ينوى تحطيمها !! وأسقط فى يد المصور، فنزعها من فوق الحامل على الفور، وبدا صوته فيما بعد على شريط التصوير يطلب منى الانسحاب وإنهاء الموقف!

لكننى فى الواقع لم أكن لأستسلم بهذه السرعة، فقد اندفعنا على عجل إلى الجهة المقابلة من الرواق المقدس للحرم، وفى لمح البصر.. كان المصور يثبت الكاميرا صوب المسجد الإبراهيمى، وكوثر تقف أمامى فى ذهول، وأنا أستهل المشهد الجديد بعبارة قصيرة تصف ما وقع، ثم ألتفت ناحية الجنود مستخفاً.. لكن أحداً منهم لم يكن فى مكانه.. كما لو كانوا فئراناً أوت إلى جحورها خشية السقوط فى مصيدة (الكاميرا).. وهكذا يفعل الإعلام فى الميدان فعل السلاح!!

.....................

عقدت كوثر ما بين حاجبيها الكثيفين، واتجه بصرها نحو المسجد الكبير.. الذى لاح عن بعد هائلاً مهيباً، ثم قالت وعلى وجهها إمارات الاحتجاج:

ـ معاناة الصحفى الفلسطينى كما رأيتم فى مدينة الخليل غير محدودة، وهى تتمثل فى الاعتقال والضرب وتكسير الكاميرات.. لقد تم إيقافى أنا شخصياً فى مقر الشرطة الإسرائيلية أكثر من مرة.. وتعرضت للضرب المباشر، وكسر لى جندى إسرائيلى ذراعى اليمنى! ناهيك عن الاعتداءات البذيئة، والعبارات السافلة التى يلقيها جنود الاحتلال والمستوطنين على مسامع الصحفيات ليلاً ونهاراً!!

وأضافت:

ـ إن الصحفى الفلسطينى يعمل هنا وفقاً لأهواء سلطات الاحتلال، فكل المواقع ممنوعة وليس للصحفى الحق فى دخولها أو المرور من أمامها.. وعندما يبدأ المستوطنون فاصل اعتداءاتهم اليومية على الفلسطينيين، ينبرى جنود الاحتلال ليس بحماية المستوطنين وممارسة "الفرجة" على ما يحدث فقط.. وإنما بالصياح فى وجوه الصحفيين "هذه منطقة عسكرية، ممنوع الاقتراب"!

سألتها:

ـ لماذا لا يلجأ الصحفيون الفلسطينيون إلى القضاء الإسرائيلى لرفع دعاوى ضد من يقوم بهذه الانتهاكات؟!

أجابت فى تبرم:

ـ عندما كسر أحد جنود الاحتلال ذراعى لجأت إلى محكمة العدل العليا الإسرائيلية، وذلك بعد أن كنت قد توجهت بالشكوى إلى كبار القادة العسكريين الإسرائيليين، ومنهم الميجور بوبى ياعرون، ونائب وزير الدفاع، ووزير العدل يوسى بيلين.. إلا أن هيئة المحكمة أصدرت حكماً ببراءة الجندى الإسرائيلى الذى كسر ذراعى ، وقالت: إنه فعل ذلك بدافع الخوف علىّ!!

قلت باستنكار:

ـ لقد رأيت فرقاً من المراقبين الدوليين، التابعين للأمم المتحدة بالمدينة.. فما هو رد فعلهم إزاء ما يجرى؟

أجابت بتفاؤل حذر:

ـ فى الحقيقة لقد خفف وجود المراقبين كثيراً من المضايقات التى يتعرض لها الفلسطينيون هنا، فالجندى الإسرائيلى يحسب ألف حساب للمراقب..

هززت رأسى فى ضيق، وأنا أسألها:

ـ لماذا لا تتعامل سلطات الأمن الفلسطينية مع الصحفى الإسرائيلى بنفس الأسلوب الذى تعامل به سلطات الأمن الإسرائيلية الصحفى الفلسطينى؟

سرت رعدة فى جسدها النحيف، وصاحت غاضبة:

ـ اتفاقية أوسلو للسلام أعطت صلاحيات محدودة للسلطة الفلسطينية، فلا تستطيع أن تمنع مواطناً إسرائيلياً مثلاً من دخول مناطق السلطة الفلسطينية.. ولكننى أنا ـ كمواطنة فلسطينية ناهيك عن كونى صحفية ـ ممنوعة من دخول أى مكان!!

تظاهرت بعدم الفهم، وأنا أسألها:

ـ هل إسرائيل تطبق الحرية داخل حدودها مع الإسرائيليين؟

قالت باستخفاف:

ـ هذا الكلام للدعاية فقط، فالصحفى الإسرائيلى أيضا يتعرض للرقيب العسكرى.. يوم 25 أبريل الماضى ( 2000 ) تعرضت للاعتداء من جنديين إسرائيليين، ونجحت صحفية إسرائيلية فى تصوير الواقعة، وقررت عرضها على شاشة التليفزيون الإسرائيلى.. لكنها منعت من ذلك وتعرضت للعقاب بحجة أنها تسعى لتشويه صورة إسرائيل.. فأية ديمقراطية هذه التى يدعونها؟!

وأخيراً سألتها:

ـ ما هى الخطوط الحمراء الأخرى التى تفرضها السلطات الإسرائيلية على الصحفيين الفلسطينيين؟

فأجابت بتأثر:

ـ ليست هناك حرية حركة لأى صحفى لا يحمل بطاقة هوية إسرائيلية، فأنا مثلاً أحمل بطاقة دولية تعترف بها 120 دولة بالإضافة للأمم المتحدة ـ أما إسرائيل فلا تعترف بها، وهذه إحدى العقبات.. الحكومة الإسرائيلية مصابة بالهوس الأمنى!!

.....................

عند مدخل سوق السهلة المحيط بالحرم الإبراهيمى، كانت نظرات المستوطنين الحانقة تطاردنا عن كثب.. وكان ثلاثة من الجنود الإسرائيليين مازالوا يتبعوننا كالظل، وكوثر توغل بنا فى مناطق الخطر من دون اكتراث...

كان السوق مزهواً بزبائنه، وكان الزحام مبشراً بالرزق الوفير، والحانات مزدانة ببضائعها كما لو كانت عروساً ليلة الحناء، وفيما لم يبق من ضوء النهار إلا النزر اليسير، وتوثب الظلام إلى النهوض بعمله.. كان أحد المستوطنين اليهود يغادر معبده فى مستوطنة كريات أربع بعد أداء صلاة السـبت، مشحوناً بأسباب الكراهية والبغضاء لكل ما عداه.. لم يتردد، وسدد حجراً ثقيلاً نحو صبى فلسطينى لم يأبه بنصيحة ذويه ألا يقترب من مناطق اليهود المستوطنين بعد صلاتهم، إذ يستحيلون شططاً يستبيحون معه السفك والأذى!!

ندت عن الصبى صيحة ألم، استدعت حتى ملائكة السماء.. وفى لمح البصر كانت جموع المصلين اليهود تلتف حول بطلهم لحمايته.. أما الجريح الصغير فكادت تسحقه الأقدام، واستحال الميدان إلى ساحة معركة بين اليهود والفلسطينيين.. واختلطت صيحات الغضب بأصوات تحطيم البضائع وتكسير النوافذ، وخرج أفراد الجيش الإسرائيلى من جحورهم قبل أن يفوتهم العرض المثير.. ووقفوا كالأصنام يتابعون ما يجرى كما لو كان مباراة لكرة قدم!! لكن البعض منهم أبى إلا أن يلعب دوراً.. فاصطف على قارعة الطريق الأسفلتى المؤدى إلى مسرح الأحداث، ناهياً كل من يسعى إليه من الصحفيين أو رجال الإسعاف...

وتدافع مراسلو وكالات الأنباء والمصورون نحو المكان، لا أمل ولا عمل لهم سوى تصوير ما يجرى لنقله إلى العالم، لكن متاريس الجيش الإسرائيلى كانت فى استقبالهم، محصنة بترسانة من الأسلحة لا أول لها ولا آخر...

وكنت أنا من بين هؤلاء الصحفيين، الذين قاوموا الجنود فى غضب وإصرار.. كنت مدفوعاً بحماس مطلق، مستعيداً إلى البال كل ما رأته عينىّ وسمعته أذنىّ من جراح وآلام يغرسها الاحتلال فى قلوبنا يوماً بعد يوم.. كنت أتقدم للأمام خطوة بخطوة كمن يحاول استرداد أرضه، مفعماً بخليط من حب الوطن والمهنة.. تتجسد أمامى فى تتابع كل أحلامى الصغيرة: أول مجلة أصدرتها في المدرسة قبل خمسة عشر عاماً، أمى التى تمنت علىّ أن أكون طبيباً، أبى الذى وضعنى على بوابة (أخبار اليوم) وقال لى: هذا طريقك! ثم مصطفى أمين.. الذى قال لى: النجاح فى الحياة قصة حب! ها أنا أقاوم يا أستاذى من أجل حبى.. لكنه هذه المرة ليس حباً للحياة، وإنما للشهادة فى سبيل الله!

.....................

سألنى أحد الأصدقاء فيما بعد: ألم تكن خائفاً؟

أجبته: لقد تعطلت لدىّ حينها كل الحواس، ولو أعملت عقلى لحظة ما تقدمت شبراً.. لكننى كنت أفكر بقلبى، الذى كان نبضه يعلو على صوت الرصاص!!

.....................

استفزت كاميرا ناجى دعنا مصور التليفزيون الفرنسى فيما يبدو غضب البلطجية اليهود، فاجتمعوا عليه وأوسعوه ضرباً حتى غاب عن الوعى، وظل ملقى تحت إحدى السيارات يسبح فى دمائه.. وكلما حاول أحد الفلسطينيين إنقاذه تعرض هو الآخر للإيذاء، وعلى بعد أمتار كانت تقف سيارة الإسعاف عاجزة عن ممارسة عملها!!

عامر الجعبرى مصور التليفزيون الأمريكىABC كان الأوفر حظاً من الضرب والإهانة، فقد اندفعت نحوه نخبة من المستوطنين السفلة.. يركلونه بأقدامهم، ويرمونه بالحجارة، ويتشبثون بالكاميرا التى احتضنها فى فزع خشية تحطيمها.. سقط على الأرض.. وأصيب فى مؤخرة رأسه.. وتمزقت ملابسه.. ولم يحرك الجنود الإسرائيليون ساكناً..

.....................

نهرنى الجندى الإسرائيلى كى أرحل.. لكزنى على صدرى ببندقيته، فرددته عنى بعنف.. كان الميكروفون فى يدى، وكان مطوقاً بشعار قناة أبو ظبى، ولم يكن صعباً على الجندى أن يدرك أننى عربى.. وبرغم ذلك كان يصيح فى وجهى باللغة العبرية، وإزاء ذلك فقد زجرته مدعياً عدم الفهم.. مطالباً إياه بالتحدث بإحدى اللغتين العربية أو الإنجليزية..

كان هياجى ملفتاً لزملائى الصحفيين، إذ لم يتوقعوا منى هذا القدر من العناد ، وقد استبق البعض منهم لتصويرى فى لقطات فوتوغرافية، كان أقل ما تجسده هو التحدى فى سبيل ما يقتضيه الواجب المهنى!

ويبدو أننى ابتعثت الضيق أكثر مما ينبغى لدى الجنود الإسرائيليين، فتقدم منى قائد الشرطة الإسرائيلية فى الخليل، وطلب منى إبراز هويتى.. فلم أتمالك نفسى، ووجدتنى أصيح فى وجهه محتداً، فيما كانت الكاميرا تسجل الموقف دون أن أدري:

ـ أنا مصرى.. هل تفهم؟ أنا مصرى!!

..........................

والواقع أننى ترددت كثيراً أثناء عملية المونتاج فيما إذا كان من الصواب أن أحذف هذه العبارة من المشهد أم لا.. وكانت تتبادر إلى ذهنى تلك الحساسيات التى قد تصيب البعض من الإخوة العرب.. عندما يتحيز المرء إلى بلده، بصرف النظر عما قد يتعلق بالموقف من خلفيات أو دوافع.. وأعترف أننى كنت أحمل هذا الهاجس معى فى كل حلقات برنامج (مقص الرقيب) خشية أن تلتبس على أحد من المشاهدين إشارة أو عبارة..

لكننى فى هذه المرة نزلت على رغبة "المونتير".. الذى ألح فى عدم حذف عبارة (أنا مصرى!).. نظراً لما تجسده من مشاعر الاعتداد بالهوية العربية أمام عدو إسرائيلى، فهى لم تكن على الإطلاق ضرباً من المباهاة إزاء بلد عربى آخر..

وبعد شهور من إذاعة الحلقة في سبتمبر من عام 2000، متضمنة تلك العبارة بدون حذف.. صادفنى أحد المشاهدين فى البحرين، وقال لى بالحرف الواحد:

ـ لقد اقشعرت أبداننا وأنت تصرخ فى وجه الإسرائيليين بأعلى صوتك قائلاً (أنا مصرى!).. لقد شعرنا فى تلك اللحظة كما لو كنا جميعاً مصريين!

... وكان ذلك الكلام لى ولبلدى، بمثابة شهادة تقدير!

.....................

فى غضون لحظات كانت أفواج هادرة من المستوطنين اليهود تلتف حول سور الحرم الإبراهيمى، زاحفة عبر منعطفاته الضيقة فى جنون نحو سوق السهلة العامر بالأبرياء، قررت ملاحقتهم على الفور.. وتلفتت بحثاً عن رفاقى فلم أجد لهم أثراً، كأن الزحام قد ابتلعهم..

كمن يحمله الشلال سرت مدفوعاً بين فلول الثائرين، تلتوى بنا الحارات المظلمة يميناً ويساراً، فيما يتردد صدى الصياح كالبوق يوم الحشر.. حتى انبلج مجدداً ضوء النهار عن الساحة المقدسة، التى كانت قد استحالت هى الأخرى ميداناً للاقتتال..

وفجأة.. أصابتنى لطمة، هوت على مؤخرة رأسى كالصاعقة، ولم أتبين من صاحبها سوى معطفه الأسود الحالك، وضفيرتيه المتدليتين على وجنتيه.. كان مستوطناً شاباً لم يتجاوز عقده الثانى، ساءته ـ فيما بدا ـ رؤيتى، فطرحنى أرضاً على الممر الحجرى، ثم أخذ منى الميكروفون بعنف.. وواصل اندفاعه خطوات.. ثم توقف، وعاد يلتفت إلىّ بنظرة محمومة، وكمن أفاق من سكرته، اتسعت حدقتاه.. وبرزت أنيابه الحادة، وتقلصت قبضته حول الميكروفون.. ألقى عليه نظرة استعلاء.. ثم بصق عليه، واستنفر كل ما لديه من حقد وبغضاء، وألقى به بعيداً.. حتى ارتد إلىّ صدى ارتطامه بالأرض!!

انفلق الحشد عن مواطن فلسطينى، كنت قد ابتعت من حانته خلال الساعات الأولى من النهار بعض التحف التقليدية التى تشتهر بها مدينة الخليل، هب كالإعصار، وسدد لكمة قوية إلى وجه المستوطن الشاب، جعلته ينكفئ على ظهره.. ثم انحنى عليه وداهمه بلكمة أخرى غيبته عن الوعى، فيما كان المواطن الشجاع يصيح فى نوبة غضب محتدم:

ـ ليش؟! ليش؟! شو عمل لك؟!!

وكان ذلك المواطن الفلسطينى واحداً من اثنين اعتقلتهم السلطات الإسرائيلية يومها بتهمة إثارة الشغب والاعتداء على المستوطنين، ولم أعلم عن مصيره الغامض حتى الآن أكثر من ذلك!!

.....................

جمعتنى الساحة الغبراء برفاقى مجدداً.. كنت قد حللت رابطة عنقى، وحررت أزرار القميص، وبدا شعرى أشعثاً، وبعض آثار الدماء على رأسى.. لقد كنت كمن ابتعث لتوه من الموت!!

بحثت طويلاً عن الميكروفون حتى عثرت عليه.. تتقاذفه الأقدام فى استخفاف على الأرض، وقام زميلى المصور بإصلاحه على نحو مؤقت فى مهارة وسرعة، وعلى الفور طلبت منه أن يدير الكاميرا، ووقفت على ذلك النحو من مظهرى البائس.. أصف للمشاهد ما يجرى، ثم أصيح فى نبرات يفتك بها الغضب:

ـ ... إن هذا المشهد نقدمه للعالم!!

أرشدنى أحدهم إلى مسئول بالجيش الإسرائيلى فى الخليل، كان واقفاً فى خيلاء، يراقب متبلداً ما يجرى بالساحة.. ذهبت إليه بصحبة الرفاق، سألته:

ـ هل تتحدث العربية؟

فلم يرد، وظل عاقداً ذراعيه حول صدره، شاخصاً نحوى فى تأفف ونفور!! عاودت سؤاله:

ـ هل تتحدث الإنجليزية؟

فأشاح ببصره، وكأننى دون البشر!! فصحت بموجة من العنف:

ـ إننى أتقدم إليك بشكوى رسمية.. لقد قام أحد المستوطنين بإصابتى وكسر ميكروفونى تحت سمع وبصر جنودكم.. فماذا ستفعل؟

تابع صمته.. ثم ولى بعيداً!!

.....................

وائل الشيوخى، صحفى فلسطينى يعمل مراسلاً للتليفزيون الأمريكى، ومحطة تليفزيون خليجية، قال لى:

ـ ليس هناك صحفى فى مدينة الخليل لم يتعرض للأذى والإصابة.. كما أن التعامل مع الصحفى الإسرائيلى ينطوى على قدر كبير من المعاناة.. لأن هذا الصحفى إما أنه كان قبل ذلك ضابطاً فى المخابرات الإسرائيلية، أو أنه ما زال ضابطاً فى الخدمة، وعمله فى الصحافة هو جزء من خدمته العسكرية!!

.....................

صحفى أخر لم يذكر اسمه، روى لى كيف تم اعتقاله لمدة 6 أشهر فى صحراء النقب ـ وهو من أشد المعتقلات الإسرائيلية قسوة ـ من دون أية تهمة، فيما يعرف بالسجن الإدارى.. وقال فى أسى:

ـ لحظة اعتقالى رأيت أخى الصحفى بوكالة رويترز يتعرض لإطلاق النار من قبل جنود الاحتلال، لم يكن باستطاعتى عمل شئ.. كنت أتمنى بالفعل أن أكون مكانه!

سألته:

ـ بماذا تطالب السلطات الإسرائيلية؟

صاح بعصبية :

ـ أقول لهم: اتركونا نعمل.. لكى يعرف العالم كل شئ..! ستطلقون علينا الرصاص.. سنواصل العمل! ستقتلونا.. سيجئ من بعدنا من يكمل الطريق! إننا شعب له حقوق، وهذه أرضنا، وأنتم مغتصبون!

.....................

مصور صحفى فلسطينى، يعمل بوكالة الأنباء الأمريكية أسوشيتد برس، قال:

ـ نعانى غطرسة الجنود والمستوطنين الإسرائيليين، وتتراوح الانتهاكات بين الضرب، إطلاق النار، الاعتقالات، ومنعنا عن التصوير.. لقد أصبت ثلاث مرات على أيدى جنود الاحتلال، وتعرضت مراراً لاعتداءات المستوطنين الذين يمارسون البلطجة فى مدينة الخليل.. إن عبارة (منطقة عسكرية مغلقة) صارت هى الساتر الذى يحتمون وراءه، والصحفى فى حال مخالفته لهذه التعليمات قد يتعرض للاعتقال بتهم مختلفة، منها: إعاقة عمل الشرطة أو الجيش.. وتنظيم المسيرات!! وعندما يسمحون لنا بالتصوير، فإنهم يشترطون الابتعاد 100 متر عن المكان!!

.....................

أصبحت أنباء المصابين أكثر دقة.. فقد علمت أن أربعة مصابين تم نقلهم إلى مستشفى عالية الحكومى فى حالة خطيرة، هم مازن دعنا مصور وكالة رويترز (38 عاماً)، وشقيقه المصور ناجى دعنا (26 عاماً)، عبد الغفار أبو شرخ (33 عاماً)، وشادى جابر (14 عاماً).. وكان قد اشتد بى أيضاً ألم الإصابة فى مؤخرة رأسى، فتهيأت أنا ورفاقى للتوجه على الفور إلى هناك..

كان المستشفى أشبه ما يكون بعيادة متوسطة الحال فى قرية صغيرة، لقد أنشئ قبل ثلاثين عاماً، وظلت تدعمه الحكومة الأردنية حتى دخلت السلطة الفلسطينية المدينة فقطع الأردن تمويله، وبدأت السلطة فى دفع معاشات الموظفين والأطباء..

أساءتنى معاملة فريق الاستقبال على البوابة الرئيسية للمرضى والزائرين على نحو من الفوضى وعدم الاكتراث، فقد كانوا يدققون فى بطاقات الهوية ويطردون البعض مهما بلغت خطورة حالته.. كما لو كانوا فى حراسة معتقل إسرائيلى!!

التقيت هناك بالمصور الصحفى لوكالة رويترز مازن دعنا، الذى كان يتلقي العلاج نتيجة إصابته بكدمات فى مختلف أنحاء جسمه، قال لى:

ـ لقد كنت فى منزلى عندما علمت بأن المستوطنين يقومون بتكسير البيوت الفلسطينية وتحطيم المحال التجارية، فذهبت.. وبمجرد أن فتحت الكاميرا، هاجمونى وأوسعونى ضرباً، فيما كان جنود الجيش الإسرائيلى يتفرجون فى صمت، لكننا كصحفيين تبادلنا تصوير بعضنا البعض، بينما نتعرض لهذه الاعتداءات!

وأضاف:

ـ إن جنود الاحتلال لا يضربون بأيديهم.. لكنهم يقيدونك ليمكنوا منك المستوطنين!!

وفيما كنت أغادر غرفة الطبيب المناوب بعد أن ضمد لى جرحى.. استوقفنى شيخ فلسطينى عجوز من سكان الخليل.. والتمس منى أن أسأله أمام الكاميرا عن رأيه فيما حدث ، وقد نزلت على رغبته مرحباً.. فقال لى بصوت حكيم:

ـ إننى أتساءل عن موقع مدينة الخليل فى كل الاتفاقيات المبرمة.. إن كل التركيز ينحصر فى مشكلتى القدس واللاجئين، برغم أن اليهود يعتبرون الخليل أشد المدن قداسة على الأراضى المحتلة، يا حكام العرب.. ما هو مصير مدينة الخليل؟!

.....................

وكانت لجنة حماية الصحفيين فى نيويورك قد رصدت قبل ذلك اليوم ـ 15 يوليو ـ خمس حالات انتهاك اقترفتها سلطات الاحتلال الإسرائيلى بحق الصحفيين الفلسطينيين خلال عام 2000:

ـ فى 3 يناير تعرض عطا عويسات مصور وكالة (زوم 77) الإسرائيلية إلى اعتداء وحشى من قبل قوات الاحتلال أثناء قيامه بتغطية اضطرابات فى القدس الشرقية.

ـ وفى 15 فبراير ألقت السلطات الإسرائيلية القبض على الصحفى خالد عمايرة (مجلة أخبار الخليل) بتهمة نشر مقالات تساند حركة حماس وتدعو السلطة الفلسطينية لاتخاذ مواقف أكثر تشدداً بشأن عودة اللاجئين فى المفاوضات مع إسرائيل.

ـ وفى 15 مايو أصابت رصاصة مطاطية ساق مازن دعنا مصور وكالة رويترز، أطلقتها القوات الإسرائيلية عليه فيما كان يغطى اشتباكات بين متظاهرين فلسطينيين وجنود الاحتلال فى مدينة الخليل، وفى اليوم التالى أصيب زميله المصور شمس عودة فى خصيتيه برصاص الاحتلال فى قطاع غزة أثناء قيامه بتغطية اشتباكات بين الفلسطينيين والإسرائيليين بجانب مستوطنة نتساريم، وفى نفس الموقع بعد يوم واحد أصيب طلال أبو رحمة مصور قناة فرانس 2 بطلقة مطاطية كسرت أصبعه وأدت إلى حرق من الدرجة الثانية، وأبو رحمة هو الذى اشتهر فيما بعد بلقطته التاريخية لاستشهاد الطفل الفلسطينى محمد الدرة.

.....................

عندما عدت إلى القدس قبل منتصف الليل، ووقفت إلى جوار رفاقى نؤدى صلاة العشاء فى غرفتنا بالفندق.. كنت أشعر بأن جسدى قد صار مضطرماً، وأن قلبى يسفك دمعاً.. وأن وجدانى لن يقوى على النسيان...

وأطللت من النافذة نحو المسجد الأقصى، مبتهلاً إليه كى يرسل عاصفة الحرية التى طال أمد انتظارها، وقد سألته: هل ما زال علينا أن ننتظر؟ فلم يرد!

محمد سعيد محفوظ

إعلامي مصري

[email protected]
*اهدي مقالي للزميل الراحل مازن دعنا
 
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف