الأخبار
بلومبرغ: إسرائيل تطلب المزيد من المركبات القتالية وقذائف الدبابات من الولايات المتحدةانفجارات ضخمة جراء هجوم مجهول على قاعدة للحشد الشعبي جنوب بغدادالإمارات تطلق عملية إغاثة واسعة في ثاني أكبر مدن قطاع غزةوفاة الفنان صلاح السعدني عمدة الدراما المصريةشهداء في عدوان إسرائيلي مستمر على مخيم نور شمس بطولكرمجمهورية بربادوس تعترف رسمياً بدولة فلسطينإسرائيل تبحث عن طوق نجاة لنتنياهو من تهمة ارتكاب جرائم حرب بغزةصحيفة أمريكية: حماس تبحث نقل قيادتها السياسية إلى خارج قطرعشرة شهداء بينهم أطفال في عدة استهدافات بمدينة رفح"عملية بطيئة وتدريجية".. تفاصيل اجتماع أميركي إسرائيلي بشأن اجتياح رفحالولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدةقطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيران
2024/4/20
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

التعريب انفتاحٌ على اللغات بقلم:محمد الحمّار

تاريخ النشر : 2010-04-12
التعريب انفتاحٌ على اللغات بقلم:محمد الحمّار
جيلُ اليوم لا يُجيد لا اللغة العربية ولا اللغات الأجنبية. ذلك ما ألاحظه من يوم إلى آخر وما يدركه الأخصائيون. وإذا سألتَ طالبا عن شعوره إزاء اللغة العربية سوف تندهش من قسوة الجواب، حيث أنّ عشرات الآلاف من طلبتنا يعتقدون أنّ اللغة العربية عفا عنها الزمن وباتوا يحلمون بلغات أخرى.

فهل من عمل استعلاجي ينجزه المثقف العربي ليعطي لقيصر ما لقيصر، حيث أنه من غير المعقول أن ترى اليوم غير العرب هم الذين يتهافتون على تعلّم العربية؟ وهل المشكل من أساسه في العربية أم في واجهات أخرى متعلقة بها وربما باللغة الأجنبية ؟ وإن كان الأمر كذلك فما هو المشكل الأساسي وما هي تلك الواجهات، إن وُجدت، وكيف يتم التوصل إلى تنقية بؤر التوتّر اللغوي حتى نأمل أن تستعيد لغة الضاد بريقا أرقى من ذاك الذي عُرفت به؟

إنّ العربية التي لا تستهوي الشباب هي دون شك العربية المدرسية قبل سواها. وقد يكون هؤلاء مبهورين بالعربية المُدبلجة في المسلسلات المكسيكية وغيرها. ولكي لا نتيهَ في أسباب ومسببات الفشل في ربط أواصر قوية بين الطالب والعربية في برامج التدريس الرسمية، لننظر إلى المشكلة من الزاوية الأخرى: ما الذي يشدّ المُشاهد في برنامج مثل المسلسل المكسيكي أو المسلسل التركي المُدبلجَين؟ طبعا هنالك في تلك المسلسلات مادة دسمة يسيل لرؤيتها ولسماعها لُعاب المتفرج العربي، من حب وغرام وأناقة ورشاقة وجمال ومال وترفيه وغيرها ممّا تتباهى به وتعرضه إيقونات الإغراء في الحياة المدنية. وهذا التزاوج المثير للمشاعر والناجح في كسب عقول الشباب وتوضيب ميولاتهم، وهو تزاوج بين رنّة عربية جميلة وصورة، للأسف الشديد، غير عربية مع أنها جميلة، بل الخطر في كونها جميلة. وهنا يكمن المشكل.

فيا ليتَ الصورة كانت عربية بالإضافة إلى الصوت العربي. ولكن هذا ليس متوفّرا لا أثناء الدراسة ولا في الصحافة المكتوبة ولا حتّى في التلفزيون. وعدم توفّره دليل كافٍ على تأخر اللغة العربية عن مواكبة الحداثة. ألا يُعتبَرُ ما يعجب شبابنا أثناء متابعتهم لـ"نور" أو لـ "ماريا كلارا" أو لكارتون "يوغي" و"دراغون بول" ذا علاقة بالحداثة؟ عندما يستهلك المشاهد العربي صورة جميلة فتؤثر فيه وفي نفسيته وفي أحلامه وفي طموحاته، أسَيترُك تلك الإغراءات الرمزية جانبا ثمّ يضم لغته إلى صدره حاميا إياها من الذوبان ومدّعيا أنها فعلا قادرة على إسعاده، أم أنه سيتشبث بالمضمون الثقافي والفكري والإيحائي للصورة الذي هو نفسه مضمون المدلول اللغوي للكلام الذي يسمعه في تلكم المسلسلات؟ طبعا الفرضية الثانية هي الأصح من الناحية العلمية.

علميا ليس هنالك شك في أنّ لكل لغة مضمونها الثقافي والحضاري. فلو أنت قمت بترجمة المضمون الدلالي للغة العربية إلى لغة أخرى، فلا خطر على عربيّتك. تبقى أنتَ الباث للرسالة الحضارية ولو تغيرت لغة تخاطبك الآنية. ولكن إن أنت صرتَ متقبّلا، بواسطة لغتك العربية، لثقافة القوم الذين تبهرك حضارتهم بما في ذلك من عادات ليست منك وإليك ومن تقاليد ليست من تراثك ولفنون ليست من بيئتك، فإنك خاسر على طول الخط، لأنّ الانبهار بالثقافة، في هاته الحالة، سابق للانبهار باللغة . أنت تُعدّ أيضا خاسرا لو تركتَ من يخاطبك بلغة غير العربية في مسائل متعلقة بتراثك وثقافتك وبيئتك الاجتماعية والدينية.

فالحل الصحي هو أن تخاطب نظيرك "في اللغة" بلُغتكما المشتركة لمّا تكون قاصدا التحدث عن نفسك وعنه هو وعمّا يتعلق بذاتكما وبثقافتكما المشتركة. والحلّ أيضا أن لا تفعل ذلك بواسطة لغة أجنبية إلاّ في حال يكون المتقبّل غير عربي وتكون أنت في وضع المُخاطب والمُروّج لفكرةٍ وليس في وضع متعلّم. وثالث الحلول أن لا تذعن لمتابعة برنامج ذي خصوصيات ثقافية وتعبيرية أجنبية تكون لغة التخاطب فيه لغتك العربية. لو اخترتَ متابعة ذلك البرنامج بلغة الثقافة الباثة "الاسبانية في "ماريا كلارا" أو التركية في "نور" أو الانكليزية في عديد الأفلام التي يتهافت عليها الشباب" يكون ذلك أفضل لصيانة لغتك من الاندثار.

فعلا، لماذا لا نشجع شبابنا على مشاهدة أو استماع مادة حاملة للثقافة الأجنبية الوافدة بلغة تلك الثقافة؟ أهو خوف من ذوبان العربية بدعوى أنّ الترجمة والدبلجة يضمنان حضور العربية لدى مسامع الإنسان العربي؟ تلك التقنيتان تسمَحان بضمان الحضور لكن الحضور الذي تسمحان به ما هو إلاّ سطحيّ وشكليّ. بل إنّه يغطّي فعلة شنيعة يقوم بها في الأثناء تدمير الموروث الثقافي والذاكرة الثقافية للمتلقّي العربي بواسطة العربية بالذات وذلك بتجريد هذه الأخيرة من مقوماتها التعبيرية الحضارية وتعويض تلكم المقومات بأخرى وافدة. ولمّا يلتقي فراغ الوعاء اللغوي العربي "من مدلوله الصلب" مع اندثار الوعاء اللغوي الأجنبي بحكم هيمنة الدبلَجة والترجمة عليه، يحق التساؤل : بماذا سنعبّر عن مقومات الثقافة الوافدة التي نصّبت نفسها واليةً على صدر المتكلم العربي منذ أن تخلّت العربية عن أداء وظيفتها وانتُزع من اللغة الأجنبية تاجُها؟ بلُغة اللالُغة إن صح التعبير؟

إنه إذن من الخطأ أن نجنّب شبابنا مشاهدة ما يروق له باللغة الأجنبية إذا كنا في المقابل سنستبدل اللغة الأجنبية بالعربية مع الإبقاء على المحتوى الثقافي الأجنبي. فالذي يخسره الشباب، بالإضافة إلى خسران العربية، هو خسران اللغة الأجنبية أيضا. فتعلّم اللغة الأجنبية والتعلّق بها رهين التعرّف على الثقافة التي تحملها وعشق تلك الثقافة وتقديرها حق قدرها.

إنّ الاعتزاز بالثقافة الأجنبية وبالتالي بلغتها أمر صحّي ولا مفرّ منه إن كنا نريد تطوير تعلّم اللغات الأجنبية. فهذا واقع مازالت تفرضه علينا الهيمنة الغربية في كافة مجالات الحياة. مع العلم أن وضعية تعليم اللغات ببلداننا العربية وضعية لا نُحسد عليها.

وإذا أضفنا ذلك إلى كون وضعية تعلّم اللغة القومية تعاني أيضا من مشاكل ما فتئنا أن وضّحنا بعض الأوجه منها، نفهم أن العلاقة بين التدهور في مستوى الكفاءة اللغوية العربية وبين التدني في مستوى الكفاءة اللغوية الخاصة باللغة الأجنبية علاقة تكاد تكون وطيدة.

الأمر يشبه لعبة القط والفأر حقّا. ولِحوصلة ما قدمناه إلى حد الآن نقول:

- إذا أردت التخلص من هيمنة اللغة الأجنبية فليس بحرمان المشاهد والطالب والقارئ منها. والتخلّص غير معقول من أساسه.

- إذا أردت إنقاذ العربية فلن يكون ذلك بدبلجة برامج أجنبية ونقل فحواها الثقافي إلى العربية، بل بإنتاج برامج ذكية ناطقة باللغة العربية ومُعبّرة عن عمق الذات العربية.

- إن كان الشباب عاشقا للغات الأجنبية فاتركه وعِشقه، بل وحاول دعم ذلك العشق بشتى الوسائل التعليمية حتى يصير اعتزازا.

- إنّ الاعتزاز باللغة الأجنبية ينمّ بالتأكيد عن اعتزاز بالثقافة التي تنطوي عليها تلك اللغة.ولكن الخطير في الأمر أنّ التبعية للثقافة الغربية المهيمنة لم تعُد اليوم تقتصر على اللغة الحاملة لها بل اكتسح مجالات مثل الصورة والفنون والرياضة والأكل والشرب واللباس، وبذلك حتى اللغة الأجنبية لم تعُد مُواكِبة للسرعة المذهلة التي تنتشر بها روافدها الثقافية.لهذا صار إغراء اللغة الأجنبية لدى الشباب العربي، من ناحية حثها إياهم على تعلّمها والتباهي بها، إغراءً سطحيّا لا يستميل الشباب إلى التعمّق في اللغة نفسها لغاية البحث عن الآثار المميزة " والتي هم مبهورون بها" لثقافة مستعمليها. فحينئذ يتولّد لديهم اعتداد باللغة فقط كمظهر من مظاهر تلك الثقافة المبهرة. وهكذا يصبح هذا الاعتداد خالٍ من كل دعمٍ للمهارة في تعلّم و أداء تلك اللغة على الوجه المرْضي.

والمسلك هنا مسلكان للخروج من الورطة:

1. لا علاقة لتدهور العربية بهيمنة اللغة الأجنبية؛ إذن فالاعتزاز بما هو وافد من الثقافة جائز و مشروع ويجب تنميته شريطة أن يتم إعادة توجيه المتقبّل العربي إلى اللغة كمصدر أساسي للثقافة الوافدة لكي لا تكون للعوامل الخارجة عن اللغة "الموضة والفنون والرياضة وغيرها" تأثير يتعدّى حدود التأثير الطبيعي بواسطة اللغة نفسها. من هنا تستعيد عملية تعريض المتعلّم العربي إلى اللغة الأجنبية "في التعليم وغيره" أصالتها ونجاعتها واستقامتها حيث أنها أصبحت تقطع السبيل أمام أي انحراف يكون مآله تثبيت التبعية.

2. ليس هنالك تباين بين الاعتزاز باللغة الأجنبية وبين الاعتزاز المرجوّ باللغة العربية؛ بل بالعكس، بواسطة الاعتزاز الأول نحقق الاعتزاز الثاني والأهم. والشرط أن يكون، مثلما رأينا، الاعتزاز الأول مُحرّرا لشخصية المتلقّي وليس مُكرسا للهيمنة.ثم فلنحاول توظيف ذلك العشق في زرع عشق مماثل إزاء اللغة العربية. وهذا ما لم يتمّ بعدُ وما لم تعره رموز تعليم اللغات أي اهتمام للأسف.

بكل تأكيد،أنت لمّا تتكلم لغة أجنبية وتربط علاقات مع من يتكلمها كلغة أُم أو تقوم برحلات سياحية إلى البلد الذي يتكلمها فيه الناس أوتتهافت على البرامج الناطقة بها، فإنك في مأمن من التيه والغموض. إنك تتصرف بعقلانية لغوية جد طبيعية. فلا أحد له الحق في الحدّ من حبك وعشقك والتزامك بتلك اللغة وعلى تلك الشاكلة.

ومشكل لغتك العربية إذن لا يكمُن هنا. بل يكمن المشكل في عدم اكتسابك للمهارة التالية : توظيف مَيلك للغة الأجنبية من أجل خلق الميل للغة العربية. المسألة تتعلّق بأنموذج يُحتذى. فأنت أنموذج صالح لنفسك. وما صلح لك في خصوص اللغة الأجنبية لا بُد لك أن تولّدَ منه صلاحية بخصوص اللغة العربية.

وكيف يتمّ اكتساب المهارة لتثبيت الَمَيل للغة الأجنبية فالاعتزاز بها ثم نقل الميل والاعتزاز من بوتقة اللغة الأجنبية إلى بوتقة اللغة العربية؟ هنالك منهجان متكاملان:

أ. العودة إلى منبع اللغة الأجنبية

لمّا تسأل طالب اللغة بعد أن قضّى مرحلة الإعدادية وقضى عاما أو عامين في المرحلة الثانوية عن رأيه في كتاب اللغة والمنهج سيقول لك من دون تردّد إنّ التكرار هو الصفة الرئيسية لهما وإنّ المَلَل هو الإفراز الطبيعي للتكرار.

أمّا التكرار الموصوف فهو لا يقتصر على تكرار المفردات اللغوية أو التراكيب النحوية أو غيرها من التظاهرات الفرعية للغة. فلو كان الأمر كذلك لَمَا كانت المسألة من الخطورة بمكان. بل بالعكس، في إعادة التدرّب على مثل تلك الجوانب تثبيت للاكتساب اللغوي وتقوية للمهارات التواصلية. ولكن المُؤلم في القضية أنّ التكرار ناتج عن تعلّم لغة أجنبية مكرّرة لنفس الواقع الذي يعيشه الطالب يوما بيوم وساعة بساعة وثانية بثانية. نحن نلقّنهم هموم الدنيا بأسرها بدعوى أننا نعلّمهم اللغة الأجنبية.

نحن نواجههم بالكوارث الطبيعية وبمخلفات الاحتباس الحراري وبالأمراض الناجمة عن الثقب في طبقة الأوزون وبالمخاوف من الجمرة الخبيثة ومن حمّى الخنازير وبما يفعله الرجل بالمرأة من استهتار بحقوقها، كمَدخلٍ لتعلّم اللغة. وهذا خطأ فادح.

كل تلك المواضيع جميلة ومن بنات عصرها شريطة أن يكون النص الذي يتناولها ليس نصّا يقدّمها للمتعلّم بل نتاجا لغويّا لتمرين قام به هذا الأخير في حصة اللغة من باب التعبير النهائي " مَخرجا" انطلاقا من موضوع مُهمّ . فعين الخطأ أن يبدأ الطالب تعلّم اللغة أين وجبَ عليه أن ينتهي.

إنّ التمادي في اعتماد نصوص و مقالات وحوارات من ذلك النمط المكرِّر للحياة كما هي عليه في واقع اليوم لتقديمها لطلاّب اللغة على أنها مطية ضرورية للتواصل باللغة الأجنبية، لا تفي بالحاجة التعليمية.فمحتوى تلك الوسائل عبارة على مادة مُستهلَكة. فلأيّ غرض نمدّ أبناءنا وبناتنا بما تمّ استهلاكه بعدُ وانتهى أمره؟

إنّ النصوص السمعية والبصرية والمكتوبة التي يعتمدها مدرسو اللغة اليوم تعبّر عن صورة الإنسان المعاصر بمشاكله أكثر ممّا تعبّر عن سعادته. والذنب يتمثل في كون هذه الصورة الرديئة تقدّم نفسها في قالب إيجاباتٍ جاهزة عن تساؤلات التلميذ والطالب وحلولٍ مجرَّبة لمشكلاته ووصفٍ ركيك لشواغله.

الذنب يتمثل بالتالي في جرّ الإنسان العربي إلى المساهمة في استهلاك نماذج من التفكير والسلوك قد تمّ بعدُ تثبيتها في الذاكرة الكونية. وهذا الإجراء الفاسد عبارة على مشاركة في جريمة غايتها عَولمة ثقافة المصائب. فالمصادر المُعتَمدة ليست فاسدة في حد ذاتها لكنّ نفعها يقتصر على صلاحيتها كأدب للمطالعة لا غير. أمّا إذا نحن اعتمدناها مقدّمة لدرس اللغة وهي على تلك الحالة من الرتابة فإنّ مآلها إمّا النسيان و التلاشي بعيدا عن ذاكرة المتعلم وإمّا تخريب ذات المتعلم من حيثُ تنميطها لنماذج من السلوك تفرضها عليه فرضا، ما يحول دونه ودون التفكير الحر والاستعمال المبدع للغة، وما قد يُصيبه بأمراض نفسية عُصابية في نهاية المطاف.

و من ناحية أخرى فالذي يحدث حين نعرّض المتقبّل/المتعلّم إلى وضعيات لغوية تُعبّر عن ظَهر اللغة وليس عن صدرها أمر معاكس تماما للتأثير المرجوّ من لدن مدرّس اللغة : سوف يصاب المتعلّم بالإحباط تجاه اللغة جرّاء المواضيع المستهلَكة التي تقدّم له الكوارث والمصائب والزوابع والحروب والأمراض والأوبئة على أنّها حلولا لتساؤلاته عن اللغة وتشوّقه لها ورغبته في تناولها. ولمّا يلتقي الإحباط مع الإغراء الذي كان الدافع الأصلي على إقدام المتعلّم على عملية التعلّم، تتعقّد الأمور وتصير مولّدة للانفصام هذه المرّة.

حتّى وإن افترضنا جدلا أنّ هذا من باب المدّ و الجزر الذي سيكون حافزا للمتعلّم على التعلّق بلغته الأمّ أكثر من تعلّقه باللغة الأجنبية لتلافي الورطة التي وجد نفسه فيها، فإنّ هذا الأخير سيصطدم بواقع جديد لا يقلّ خطورة عن الواقع الذي ينوي تلافيه: لا يمكن للغة العربية أن تنمو وتتطوّر إلاّ لمّا تستعيد قدرتها على مواكبة الحداثة وذلك باستيعابها للسمين فيها وباستبعادها للغث فيها. واستعادة القدرة لن تتمّ إلاّ لمّا تكون صورة اللغة الأجنبية، قُبالة متعلّم العربية، متماسكة ومتكاملة لكي تُتاح له فرصة مقارنة لغته الأم بها ابتغاء الاقتداء بها وإثراء العربية بما في اللغة الأخرى من عناصر إثراء، وفرصة التعامل المفيد ابتغاء الندّية وذلك بحسب قاعدة الجدلية والأخذ والرّد والمدّ والجزر.

وكيف ستستعيد اللغة العربية هذه القدرة لمّا تكون اللغة الأجنبية، في المقابل وكما فسّرنا آنفا، فاقدة لتوازنها في ذهن المتلقّي "للعربية وللغة الأجنبية في ذات الحين"؟ هكذا لمّا تمّ تدريس اللغة الأجنبية من ظهرها "صيغتها المستهلَكة" وليس من صدرها فإنّها فعلت بالمتعلّم العربي أكثر ممّا تفعل به أعتى الإيديولوجيات السياسية.

لذا فمن واجبنا تقويم النظرة إلى اللغة الأجنبية باتجاه اعتماد منبعها الأصلي، وبه نقصد المنبع الثقافي والحضاري الأمّ للّغة الأجنبية. نقصد نزع الكساء الإيديولوجي عن اللغة لكي تصبح من جديد قادرة على استمالة ذوق الآلاف من المتشوقين لاستخدامها ومساعدتهم على التفكير والتعبير عن شواغل الذات بواسطتها. ليس هنالك أجمل من تلك الصور والرسوم التي كانت تعجّ بها كتب تعليم اللغة في السنوات الستين والسبعين والتي كانت تُرجمانا صادقا لثقافة وعادات وتقاليد وفنون البلد أو البلدان الناطقة بها. ولسائل أن يسأل: لماذا صار كل ذلك التحوّل الذي لا يخدم لا العربية ولا تعلّم الشباب للغة الأجنبية؟ قد يكون لِحرب 1973 التي رفعت شيئا ما من شأن الإنسان العربي بعد ست سنوات من النكسة التي قد خلّفتها لديه هزيمة 1967، قد يكون لها أثر في زرع نوع من الاعتداد المشروع بالهوية في نفوس مثقفينا،لكنه اعتداد قد يكون أيضا سببا في إعادة ترتيب مخطئ لِلبيت اللغوي وذلك بواسطة اللجوء إلى التعريب الآلي لإضفاء شرعية تاريخية متسرّعة للّغة القومية ابتغاء تزكية شبه الانتصار العسكري والاستراتيجي.

ثم بعد ما يناهز العشرين عاما من ذلك، قد يكون للفتنة العربية المعاصرة "1991" أثر مماثل ولكن هذه المرّة باتجاه فقدان التوازن للبلدان العربية في ما بينها جرّاء الانقسامات السياسية حول قضية اجتياح العراق الشقيق للكويت الشقيق، ما قد يكون غيّر موازين القوى الثقافية أيضا وأدّى بكثير من البلدان العربية إلى النفور من اللغات الأجنبية لِما كان لهذه الأخيرة من دور في التعبير عن التفوّق السياسي الأمريكي وبالتالي في تكريس هذه الهيمنة قبل تزكيتها بواسطة أخرى:الهيمنة الثقافية.

ب. سقي المنابع بواسطة التثاقف و "التعالم"

والآن، وتمنّيًا منّا أن يُستجاب دعاء الإخوة المؤمنين بأن دفع الله ما كان أعظم وبأن يعفو الله عمّا سلف، نأمل أنه، لمّا يستعيد المواطن العربي الذي يتعلّم اللغة الأجنبية بريق تلك اللغة، وهي التي سيتعامل معها من منابعها، والتي ستربطه بها علاقة مودة واعتزاز وندّية، لن يبقى له سوى أن يتعلّم كيف يقلب، في الأثناء، حُبه للغة الأجنبية وتعلقه المتين بها واعتزازه بها إلى حب وتعلق واعتزاز بلغته العربية.

ذلك ليس بعزيز طالما أنّ المتعلّم يكون قد تخلّص بعدُ من عديد المبطلات للتعلّم. تخلّص من استبداد اللغة لمّا كان يدرسها بواسطة نسخة متهرئة. تخلَّص من عقدة مفادها أنّ خلاص العربية كامن في التخلّص من اللغة الأجنبية. تخلَّص من أسطورة مفادها أنّ التمكّن من اللغة الأجنبية يعدّ إضعافا للّغة الأُم. تخلّص من حكم مسبق يقضي بأن لن يكون للعربية إشعاع مثل إشعاع اللغة الأجنبية. حينئذ ، عندما يكون قد كسّر العديد والعديد من القيود ولن يبقى له سوى أن ينكبّ على توليد المفاهيم الجديدة والآراء السديدة والأفكار المستنيرة والمشاعر المتحررة وغيرها من المضامين الثقافية وكذلك المفاهيم العلمية والحضارية المستحدَثة "مع ما يواكبه ذلك من دعم لتعليم العلوم بأنواعها" والتي سوف تلقى طريقها بصفة طبيعية للولوج في داخل النسق اللغوي للعربية فتتحوّل مفردات دقيقة وتراكيب جميلة وغيرها من الأشكال والقوالب اللغوية المستحدثة هي بدورها.

لا خوف إذن على الذات العربية أو على الثقافة العربية أو على لغتها من الاندثار والاضمحلال طالما أنّ تطوير اللغة مرتبط أساسا ببناء الثقافة "وأشك أن يكون العكس صحيحا" من جهة وبناء العقل العلمي من جهة ثانية ""التعالم" بالمعنى الإيجابي"، وطالما أنّ همّ البناء والتطوير مؤتَمن عليه من طرف الإنسان العربي نفسه. فالذي كان يعوق التقدم الحضاري ويكرس الانحلال الثقافي ليست الثقافة الوافدة وهيمنتها، بقدر ما هو الضعف الفادح لشخصية مُتقبّل اللغة الأجنبية وانكماشه – بداعي الأصالة – في قالب محنّط أو يكاد، قالب العربية القحّة، عربية الكسائي وسيبويه ولفِّهما رحمة الله عليهم من جهة، وقالب "لغة اللغة" أوبالأحرى "لغة اللاّلغة" الأجنبية من الجهة الثانية، ما أثار رضوخه إلى حدّ التضحية بأعزّ ما لديه، كفاءته اللغوية والتواصلية في الارتقاء بما في القالب إلى مستوى اللغة المتفاعلة والفاعلة.

*** الاجتهاد الثالث، تونس
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف