الأخبار
"عملية بطيئة وتدريجية".. تفاصيل اجتماع أميركي إسرائيلي بشأن اجتياح رفحالولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدةقطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيرانمؤسسة أممية: إسرائيل تواصل فرض قيود غير قانونية على دخول المساعدات الإنسانية لغزةوزير الخارجية السعودي: هناك كيل بمكياليين بمأساة غزةتعرف على أفضل خدمات موقع حلم العربغالانت: إسرائيل ليس أمامها خيار سوى الرد على الهجوم الإيراني غير المسبوقلماذا أخرت إسرائيل إجراءات العملية العسكرية في رفح؟شاهد: الاحتلال يمنع عودة النازحين إلى شمال غزة ويطلق النار على الآلاف بشارع الرشيدجيش الاحتلال يستدعي لواءين احتياطيين للقتال في غزةالكشف عن تفاصيل رد حماس على المقترح الأخير بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرىإيران: إذا واصلت إسرائيل عملياتها فستتلقى ردّاً أقوى بعشرات المرّات
2024/4/20
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

إذا ما الحقيقة كُتِمت أنفاسُها، صارَ الصمت كذباً ترجمة: عبود كاسوحة

تاريخ النشر : 2009-03-02
آلان مينارغ – خاص بمجلة أبيض وأسود
ترجمة: عبود كاسوحة

يُعتبَر قطاع غزة المكان الأكثر كثافة سكانية في العالم: مليون ونصف المليون من السكان، فوق مساحة تبلغ (360كم2) مما يعني كثافة تبلغ (4166) نسمة في الـ (كم2) ولو طبّقنا هذه النسبة من الامتلاء على عدد من البلدان، لبلغ عدد سكان سوريا (772) مليوناً ونصف، ولبنان (43) مليوناً ونصف، و(فرنسا) مليارين و(290) مليوناً ولبلغت مصر (4) مليارات و(170) مليوناً، فغزة تعني شخصاً واحداً فوق كل (240 م2) من أرضها، وهذا يعني وجود شخص واحد فوق كل مربع طول ضلعه من(15) إلى (16) متراً، وتعني شخصاً واحداً كلما قطعت (240) متراً في الأرياف، وشخصاً واحداً كل ثلاثة أمتار في المناطق المدنية، هذا، وإنّ استخدام قنابل جوية ذات قوة تدميرية قطرها (600) متراً فوق مثل تلك الكثافة السكانية، إنّما يعني إطلاق النار على الحشود، وهذا ما يُطلقون عليه باللغة العسكرية عبارة (رميٌ للقتل).
ذلك هو المعطى الذي ينبغي أن يضعه نصب عينيه، كلّ صحفي يقوم بتغطية الحدث، وهو يعي مسؤولياته، ذلك أنّ هذه الكثافة ينجم عنها بالضرورة الحقيقة التالية: لا يمكن لكثافة الرمي الإسرائيلي من الجو والبحر إلا أن تتسبّب في عدد كبير من الضحايا المدنيين.
يعرف المسؤولون الإسرائيليون هذه المعطيات حقّ المعرفة، بدءاً من رئيس أركان الجيش وحتى مجموع أعضاء الحكومة، فهذه الأرقام المتعلقة بسكان غزة مثبتة، مع المعطيات الجغرافية في النقطة (1- قرينة عامة - وسط ومحيط) من المخطط العملياتي لـ (الرصاص المنصهر) الذي وضعه قسم التخطيط الاستراتيجي والعمليات في هيئة الأركان في تل أبيب.
وقد درس هذا المخطط وحفظه رئيس الأركان الجنرال (غابي أشكينازي) ومعاونوه المباشرون، وقُدِّمت هذه الوثيقة بعدئذ في (18) تشرين الثاني (2008) للحصول على موافقة وزير الدفاع (إيهود باراك) قبل تقديمها إلى مجلس الأمن الوطني، وبعد شهر من ذلك التاريخ، أحيطت وزيرة الخارجية تسيبي ليفني بالأمر علماً، وعلى الفور، أضحى الشغل الشاغل لهذه الأخيرة، كما الحال أثناء حرب لبنان الثانية، استباق ردود الأفعال لدى الأسرة الدولية، ومن المؤكّد، أنّ هذه الأسرة لم تقِمْ كبير اعتبار من قبل، للنتائج الإنسانية، الثقيلة أحياناً، والناجمة عن العمليات الإسرائيلية في غزة، لكن كان ينبغي في نظرها استباق كل شيء، ووفقاً لكافة مخططات الحملات الإعلامية الإسرائيلية، تمثل العملُ الأول في إنشاء وتطوير أحكام مسبقة مؤيدة لـ (إسرائيل) في الرأي العام الدولي، من أجل تمرير الأضرار الجانبية القادمة، فينبغي الإيحاء بذاك المنطق الشائع في (إسرائيل) والقائل: (ما دام المعسكر الآخر متخلّفاً ثقافياً وسياسياً، فإنّ «التفوّق الأخلاقي» لـ «إسرائيل» ليس موضع أدنى شك) وقد بعثت ليفني ببرقية صُنِّفت سرّاً دفاعياً، تطلب فيها من دبلوماسييها المنتشرين عبر العالم، أن يبدؤوا على الفور بحملات من العلاقات العامة، خصوصاً مع وسائل الإعلام المحلية والرسميين العامين.
فمن الضرورة بمكان أن تكسب (إسرائيل) سريعاً الشرعية الدولية المتمثلة في الردّ على العدوان، فجرى تقديم (حماس) خلافاً للوقائع، مسؤولة عن وقف العمل بالتهدئة، لاسيّما رفضها إعادة تجديدها.
وجرى التغاضي عن القصف الإسرائيلي لغزة في (4 ت2) (2008) الذي خرق التهدئة ضمن قرينة من التهميش السياسي والحصار غير المحتمل، وقد وُصِف كذلك في تقارير الأمم المتحدة، بالنسبة للشعب الغزاوي، وخاصيته الإعلام المضاد هي ليست التعبير عن حقيقة ما إنما تحويل إثبات ما إلى حقيقة من خلال التكرار فصار لهذه الكذبة كيانُها بكل يسر في وسائل الإعلام الدولية التي قلّما تواجه بالنقد كلّ ما يتعلّق بالدولة العبرية.
تمّ في (21ك1) تقديم المخطط العملياتي (الرصاص المنصهر) بالتفصيل، للحكومة بكل أعضائها، في جلسة دامت خمس ساعات كاملة، ولقد أُقِرَّ تنفيذه بالإجماع، من ثمّة أضحى كافة الوزراء يعرفون الوثيقة (1- قرينة عامة - وسط ومحيط ) وكان كثيرون يعرفون ذلك من قبل، إذ كانوا قد صدّقوا على المخططات العملية التي سبقته، ولدى نهاية ذلك الاجتماع، أكّد أحد الوزراء، وقد أوردت (هاآرتس) تصريحه،قائلاً: (لا يسع أحداً أن يقول إنّه لم يكن يعلم، على أيّ شيء كان يصوّت) وبينما كان (إيهود باراك) يضع مع الضباط المسؤولين عن العملية اللمسات الأخيرة على تفاصيلها، كانت ليفني تغدو إلى القاهرة وتروح، لإحاطة الرئيس المصري حسني مبارك بأنّ إنزال الضربة بغزة على وشك الوقوع، ولقد بدأت في (27 ك1)

رقابة ذات وجوه نسائية:
أوقفت وزارتـُها كافة شؤونها، لتركّز جهود اتصالاتها على خمسة عشر بلداً هي الأكبر أهمية بالنسبة لـ (إسرائيل) كانت البلدان المستهدفة بالحملة الإعلامية، بالإضافة إلى الولايات المتحدة، كلّ من (فرنسا وبريطانيا وألمانيا والصين وروسيا وتركيا) أي البلدان الأعضاء في مجلس الأمن بالإضافة إلى حليفتها في المفاوضات مع العالم العربي، أما الشعاران الأكثر شهرة: (الحرب ضد الإرهاب) و لـ («إسرائيل» الحق في الدفاع عن نفسها) فقد جرى عزفهما بكافة النغمات مع الاستعانة بالعديد من الدبلوماسيين الذين جرى تجنيدهم من قبل (الهاسبارا) الدعاية لتنسيق الرسائل ما بين وزارتي الخارجية والدفاع ومكتب رئيس الوزراء وقيادة الشرطة، فأطلقت (الهاسبارا) الدعاية، في الوقت نفسه، عدّة إسهامات نفسية، والمقصود بذلك كافة الأفعال الإعلامية والدعاية المعاكسة والألاعيب المنظمة لصالح المدنيين، بأدوات إعلامية أُنشئت بعد خسارة الحرب مع حزب الله في عام (2006).
كانت الأداة الأولى، وهي الأرفع شأناً في الشتات بنظر الاتحاد العالمي للطلاب اليهود،هي الـ (ميغافون ديسكتوب تول Megaphone desktop tool ) وهي حبكة إعلامية تحمل اسم (جيوس Giyus) (هو اختصار لشعار: (امنح «إسرائيل» دعمك وتضامنك) وتعمل على نافذة و(ندوز ميكروسوفت) ويتيح لــ (لهاسبارا) الدعاية، أن ترسل مباشرة إلى حواسب المؤيدين، الأنباء التي ستوضع بالتناوب على شبكة الإنترنت، مع الأجوبة المكتوبة حول مقالات إشكالية، وردود أفعال مدعّمة بالحجج، وهجمات تُشَنّ على صحفيين أو رجالات سياسة يعارضون الدولة العبرية، ونشرات مُعَدّة مسبقاً حول استفتاءات جارية، ورسائل إلكترونية مكتوبة وموجّهة مسبقاً، أما الهدف الموضوع فهو معارضة المواقع التي تنتقد (إسرائيل) وسياستها وأفعالها العسكرية، أو تشهّر بها أو تدينها، وأيضاً من أجل التسبب باختناقات في تلك المواقع، كلّ ذلك من غير أن يتسرّب ما يدلّ على أي تورّط من جانب (الجيوس) أو (الهاسبارا).
لقد كانت شبكة الانترنت منذ زمن طويل، حقل معركة اقتصادياً وأمنياً بالنسبة لإسرائيل، التي صارت أحد أول البلدان المنتجة للحبكات الإعلامية في العالم، لقد أقامت تل أبيب فوق القارات الخمس، شبكة تتألّف من عدة مئات من المواقع المستقلة لمراقبة وسائل الإعلام، والتحليلات الاستراتيجية، وحتى الداعية للسلام، وغالباً ما تكون بإدارة ضباط استخبارات، يقومون بعملية تقطير للخبر، ثم يُعيدون تدويره، فيستشهد كلٌ منهم بالطرف الآخر لزيادة مصداقيته، ويحتلّون بشكل منظّم المرجعيات الأولى من محرّكات البحث على الشبكة، لقد قام جهاز الأمن الإسرائيلي المضاد للتجسس (الشين بيت) بتقديم عروض مذهلة من أجل تجنيد عبقريات شابة وتوظيفها في التقنيات الحديثة، أما سيّدُهُ (يوفال ديسكين) والذي ظلّ اسمه ووجهه لأعوام، كما حال رأس جهاز الموساد، من أسرار الدولة، فلم يتردّد أمام الظهور شخصياً على موقع الإنترنت لإقناع المجنّدين الجدد، ولقد عرضت جامعة بئر السبع في صحراء النقب، شروطاً استثنائية على الطلاب والباحثين في ميدان المعلوماتية، ليَقبلوا بالعمل لصالح الجيش أو الأجهزة، إنّما تمّ ضمن هذا الإطار وضع أداتين أخريين للتدليس وخداع الرأي العام، تمثّلت الأداة الأولى في ما قام به على أوسع نطاق (ديفيد سارانغا) القنصل الإسرائيلي في (نيويورك) لقد سعى هذا الدبلوماسي إلى تحريك اليهود المقيمين في (نيويورك) بعد أن لاحظ قلّة اهتمامهم بالوضع في (إسرائيل) فعمد إلى إنشاء نوع من مؤتمر صحفي دائم، على موقع (تويتر Twitter) إنّ (تويتر) جهاز يسمح للمستخدمين بالتراسل بفضل رسائل فائقة الصغر بحيث لا تزيد في حجمها الأقصى عن (140) حرفاً، وكانت هذه الرسائل تُرسَل، في أوج الحرب على غزة، بمعدل (70) رسالة في الدقيقة، والرسائل كلها دعائية وموالية لـ (إسرائيل) وتتولى إرسالها أجهزة روبوت، رجل آلي، أما الأداة الثانية فهي موقع نوعي أُقيم داخل (اليو تيوب YouTube) والمخدّم موجود في الولايات المتحدة، ومهمته تطويق التلفزيونات الأجنبية التي تُعتَبَر في الغالب انتقادية حيال تل أبيب، ولقد جرى تكليف جهاز صحافة الجيش بنشر صور وعرضها مباشرة على الجمهور الواسع عبر الإنترنت.
فكان أن وُضِعت على الشبكة أفلامُ فيديو مخصّصة لإظهار كثافة النيران والإشادة بالجيش الإسرائيلي، وهي تصف استعدادات الجنود وهم على وشك الدخول إلى غزة، كما تُظهر عمليات القصف الجوي، وهجمات المروحيات الميدانية وعمليات القصف المدفعي، وكانت تلك، للوهلة الأولى، البيانات العسكرية الوحيدة التي بثتها (إسرائيل).
لقد أمر الجنرال (أشكينازي) ضمن استراتيجيته العملياتية، بفرض صمت إعلامي تام عليه هو وعلى قناة (القيادة) وقد انتُزِعَت من الجنود هواتفُهم المحمولة، فليس هنالك من مجال لأنّ تحتلّ الحالات النفسية لدى هؤلاء، والأحاديث القصيرة مع الوالدين لدى أولئك، ناهيك بأحاديث مع الصحفيين، مكاناً على صفحات الجرائد، وأن تـُثير مناقشات ومجادلات بين صفوف الرأي العام، وحين أعطى (إيهود أولمرت) موافقته على تلك الإجراءات، كان يطبّق الدروس التي تلقّنها من حرب عام (2006) يوم ألحقت تلك المكالمات الخزي والعار باستراتيجيته العسكرية ففضحتها، لكنّ ذلك كان يعني أيضاً، بالنسبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي، أنّ آلاف القتلى والجرحى والمشرّدين في غزة، الواقعة على بعد ساعة بالسيارة من تل أبيب، لا ينبغي أن يكونوا موضوعاً لأية مناقشة.
إنّ الرقابة العسكرية هي التي كـُلـِِّفت بفرض الصمت، ولقد تجسّدت في وجهين نسائيين، السيدة (الكولونيل سيما فاكنين) الكاهنة الكبرى للمقص (مقص الرقابة) وذات السلطات الخارقة للعادة، وفقاً لأقوالها الخاصة، فقد كانت، وما تزال، تتمتّع بالقدرة على خنق الخبر وسجن الصحفيين وسحب التفويض من الصحفيين الأجانب، وإغلاق صحيفة ما أو محطة إذاعية أو قناة تلفزيونية، وتصرّح قائلة بابتسامة: (أكاد أكون قادرة على فعل أي شيء) وتضيف مكررة اللازمة إياها في كل مناسبة: (حين يكون الأمر حيوياً بالنسبة لأمننا) ولقد ثبت بالتجربة أنّ كل شيء حيوي.
أما الوجه الثاني فهو وجه الشقراء (جوليا سترايشر) المعروفة أكثر باسم (أفيتال لايبوفيتش) الناطقة باسم الجيش والملقّبة بـ (الآنسة حماس) كانت تتقدّم على الدوام مؤكّدة أنّها مدنية رغم لباسها العسكري وشارات الرتب على كتفيها، ومن الصعب وضع هذا التأكيد موضع الشك، لأنّ جهلها المعلن بالشؤون العسكرية، مقصوداً كان أم غير مقصود، كان لا يقاس، وعلى ذلك فقد برّرت موت (43) فلسطينياً، لجؤوا إلى مدرسة الأونروا (UNRWA) في جباليا، و قُتِلوا بقذيفتي دبابة، فأكّدت أنّ ذلك جاء رداً على الإرهابيين الذين أطلقوا صواريخ وقذائف (هاون) من داخل المدرسة، وهذه الحجة مدحوضة تقنياً وكاذبة إلى حدّ المهزلة، فاللهيب الذي يحدثه إطلاق صاروخ وحرارته تتجاوز (200) درجة، سوف يحرق حتى التفحّم كلّ ما في المكان وما يحيط به، وكان سيخلّف آثاراً يمكن التحقق منها بكل يسر، وهي آثار لم يكن لها من وجود قطعياً في المكان، هذا ناهيك باستحالة استخدام (هاون) وهو سلاح ذو إطلاقٍ منحنٍ، من داخل حجرة، لكنّ أي واحد من الصحفيين المستمعين لم يدحض أو حتى قابل بالشك، ذلك التبرير المهزلة، فهل يرجع ذلك النقص في ردّة الفعل لدى الصحافة الدولية إلى جهلٍ في ميدان الثقافة العسكرية؟ إنّه لأمرٌ مدهش في حدّه الأدنى ويقلل من مصداقية الصحفيين الذين يغطون أنباء الحرب، أم أنّ ضغط الرقابة هو إلي يدفع بهم نحو الرقابة الذاتية؟ أما الحال مع الصحافة الإسرائيلية فمختلفة، إذا ما صدّقنا ما يقول (تامار لابز) مدير معهد (سمارت للاتصالات) في الجامعة العبرية: (يتصوّر الصحفيون أنفسهم ممثلين داخل الحركة الصهيونية) وليس من يضع مستواهم المهني موضع شك، فهم يعالجون بعناد شرس، مظاهر الضرر الاجتماعي والفساد حين تقع في مجتمعهم، فقد احتلّت التحرّشات الجنسية للرئيس (كاتساف) بسكرتيراته، والتمويل المشبوه المتعلق بشراء رئيس الوزراء (إيهود أولمرت) لشقته، والشؤون العاطفية السرية لـ (بنيامين نتانياهو) الصفحات الأولى في وسائل الإعلام الإسرائيلية، وقد عادت هذه اللهجة بسمعة حسنة على هذه الصحافة التي لا تعرف المجاملة، إلى حد أنّ الصحفيين الأجانب صاروا يستلهمونها، متجاهلين، أو متظاهرين بتجاهل الأمر، الذي يغدو مغايراً تماماً حين يكون المراد هو الأمن، لكن هنالك استثناءات يميّز الصحفيون الإسرائيليون فيها ما بين نحن وبين هم، أي بين الجيش الإسرائيلي والعدو، فالجيش الإسرائيلي يؤكّد أو الجيش يقول، في حين أنّ الفلسطينيين يزعمون، هذا، ويقطع الخطاب العسكري، وهو الوحيد المسموح به، الطريق على كل ما خلاه، فالجيش الإسرائيلي لا يقتل سوى الإرهابيين الخطرين والذين هم دائماً موضع ملاحقة حثيثة، وحين اغتيل رياض أبو زيد عام (2003) نشرت وسائل الإعلام، من غير أن يرف لها جفن، التبرير الذي قدّمه الجيش، فوصفه بأنه: (زعيم الجناح المسلّح لحركة حماس في غزة) لكنّ تحقيقاً قام به صحفي إسرائيلي، وهو الوحيد في ذلك النوع من الإعلام، برهن على أنّ الرجل القتيل كان أمين النادي المحلي للسجناء القدماء، وعلينا أن نلاحظ أيضاً أن كافة الذين يجري اغتيالهم يوصفون بشكل منهجي بأنهم إرهابيون، كانوا يستعدون لإطلاق صواريخ أو قذائف (هاون) أو يُعِدّون لتنفيذ هجوم ما، أما المدهش في الأمر فهو أنّ هذه التأكيدات تُنقّل مثلما هي من قبل وسائل الإعلام الأجنبية التي تنسى حتى أن ترفقها بكلمة (قد) أو بصيغة الاحتمال.

من جانب المدفع:
لم يستطع الصحفيون، بأمر من السلطة العسكرية، أن يصلوا إلى غزة، وقيل رسمياً لأسباب أمنية، وذلك على الرغم من أمر صدر عن المحكمة العليا الإسرائيلية بإلغاء ذلك المنع الصادر عن الجيش، فجرى تجميعهم في (سديروت) وهي أقرب مدينة إسرائيلية إلى القطاع، ومعرّضة لصواريخ (حماس) كي يضعوا في اعتبارهم مدى الرعب الذي يشعر به الضحايا الإسرائيليون، وقد تولى أمرهم تنظيمٌ خاص يموّله يهود الشتات الأميركيون، واسمه (المشروع الإسرائيليThe Israel Project ) فكان يزوّدهم بكل شيء، بما في ذلك ضحايا صواريخ (حماس) وبأرقام هواتفهم المحمولة وكذلك اللغة التي يتكلّمون، وتبرّعت يدٌ فَكِهة فألصقت على باب الدخول، إعلاناً صغيراً دوّنت عليه عبارة (رحلة سياحية إلى حدود غزة).
وواقع الأمر أنّ كلّ شيء كان يساهم، تحت غطاء الخدمات المقدّمة للصحافة، في نشر الأخبار التي تلمّع صورة الحكومة، وقد اعترف أحد الصحفيين قائلاً: (إنّما نحن صحفيون أسرى، ففي حين يتعرّض صغار الصبية في معسكر جباليا للذبح، تتحدّث وسائل الإعلام عن صبية «سديروت» الذين يقومون بتجميع أجزاء من صواريخ «القسّام» وكل هذا كجائزة لـ«إسرائيل» لمصلحة «إسرائيل»)
وقد أدى ذلك، علماً بأنه لم يكن الهدف المقصود، إلى معرض إعلامي إضافي يتحدّث عن حال المواطنين الإسرائيليين المعرّضين لإطلاق النار المتفرّق الذي يقوم به مقاتلو (حماس) على حساب التركيز على عمليات القصف الجوي على غزة.
لكنّ صور الفلسطينيين، والأخبار المتعلقة بهم، ما لبثت خرقت الحصار بسرعة كبيرة بفضل النظام الرقمي وبعض الكاميرات القائمة في القطاع نفسه، وحاولت تل أبيب دونما طائل أن تزرع الشك في عمل المصوّرين أو المراسلين الفلسطينيين لأنّهم (موالون) ثم أُصيب الاستراتيجيون الإسرائيليون في ميدان الاتصالات بالدهشة حين رأوا الفلسطينيين يردّون لهم الصاع صاعين عبر (بال تيوب PalTube) وهو موقع لتوزيع الصور، يقوم مركز مخدّمه في (موسكو) لقد أدان الغزاويون، بواسطة صور أقل مهنية، التقطت بالهواتف المحمولة، ما أطلقوا عليه اسم (المحرقة الصهيونية) بعرضهم أفلام فيديو تُظهر أجساداً متناثرة لنساء وأطفال وشيوخ، وبنايات ومدارس ومشافي منهارة، إنّه اجتياح بالحديد والنار، لقد تردد على ذلك الموقع في الأسبوعين الأولين من الحرب ما يقارب المليون وأربع مئة ألف زائر، لقد كانت المجابهة بين الـ (يوتيوب) والـ (بال تيوب) ذات نتائج كارثية على صورة الدولة العبرية، إنّ صور الفيديو المأخوذة من جانب المدفع، جعلت من (إسرائيل) الضحية، البلد المعتدي، وتلك التي أُخِذت "من جانب القنبلة" جعلت الفلسطيني الإرهابي هو الضحية، لقد غير المعتدون والضحايا مواقعهم في غضون بضعة أيام، وجرى ذلك بسرعة كبرى حتى أنّ أية صورة لمقاتل فلسطيني وهو يقاتل لم تُنشر، في حين أنّ الدولة العبرية قامت باستعراض قوتها العسكرية ذات التقنية العالية، مع توالي أسراب من المقاتلات القاذفة والمروحيات المقاتلة والانفجارات فائقة القوة والأمطار المضيئة من الفوسفور الأبيض، ولقد فقدت (إسرائيل) مع مرّ الأيام الشرعية الدولية لتدخّلها العسكري.

استبعاد كل قرينة واقعية:
جرى بمبادرة من السفارات الإسرائيلية، تحريك يهود الشتات على صعيد العالم، سعياً وراء سدّ الطريق أمام ذلك الانحدار الذي لحق بصورة (إسرائيل) وكان الأمر المفروض هو ممارسة الضغط على وسائل الإعلام وعلى رجالات السياسة، أما صيغة الضغط فهي التالية: (وسائل إعلامكم تكذب وتثير الحقد ومعاداة السامية) فكان على الجالية اليهودية المنظمة في (فرنسا) أن تتصرّف بوصفها ممثلة لدولة أجنبية وشعرت بأنّها ملزمة بالدفاع عن مواقف (إسرائيل) الأشدّ أصولية، فكان أول من رفع الصوت عالياً هم عملاء النفوذ والتأثير، سواء كانت تموّلهم تل أبيب أم لا، أما دورهم فهو، تمرير الرسالة الإسرائيلية عبر شبكاتهم الشخصية، التي يمكن استخدام أعضائها أحياناً، على غير علم منهم، لنشر الكلمة الطيبة، والمتعصّبون الفرنسيون معروفون، لكنّ الأشهر بينهم هو المليونير (برنار هنري ليفي) فهو يثير الضحك الصاخب لمظهره الكاريكاتوري في الدفاع عن تل أبيب، التي اخترع من أجلها الصحافة عبر التحقيق الرواية، حيث الخيال يحتل غالباً المصاف الأول وقبل الوقائع، لكنّ البطل الأكبر في السعي القائم على استبعاد كل قرينة واقعية في سبيل منفعة (إسرائيل) إنما هو (آلان فينكلكراوت) ويرى هؤلاء المتعصّبون، على وجه العموم، أنّ من الأفضل خوض حرب دينية على حرب استعمارية، فالحرب الدينية حرب لا نهاية لها: وهي تتجاهل الحق وتتجاهل الحدود، ويمكن لها أن تظلّ بلا حلّ إلى الأبد، فتعود بالنفع من ناحية لا زمانيتها وعدم حلها على ذاك الذي يجدُ منفعته في الإبقاء على الوضع الراهن.
أما سلاحهم العدائي والمنهجي فهو الاتهام باللاسامية، ولقد استخدم هذا السلاح ضد المثقّفين الذين يدينون باليهودية، كما الحال مع عالم الإنسانيات (الأنسنة) الفرنسي (إدغار موران) والفيلسوف (دانييل بن سعيد) أو مراسل (فرانس2) المحترم على الصعيد العالمي (شارل أندرلين) لقد نشر هذا الأخير في بداية الانتفاضة الثانية، مشهد مصرع الطفل الفلسطيني محمد الدرّة، الذي اغتاله الجيش الإسرائيلي، فعلى طول أعوام، والمسبّحون بحمد (إسرائيل) ينشرون ضده آلاف المقالات التي تدمج الشتائم بالتخرّصات والتهجّمات الشخصية والأكاذيب والتحقيقات المبتورة، ويتبادل هؤلاء المفرطون في التعصب الأدوار، مستبعدين كل جدل فكري، فهم عاجزون في الأصل عن الخوض فيه حيال الحقائق الدامغة، في سبيل تدمير الإنسان، من حيث قدراته الفكرية وسمعته ورفعة أخلاقه. وكان آخر من جرى التصدي له، ضمن هذه الخطة، هو الصحفي (بيير بـيان Péan) الذي تهكّم في كتاب نشره، على النشاطات المجزية التي يمارسها في إفريقيا، وزير الخارجية الفرنسي، (الكوسموبوليتي) (الكوني) (برنار كوشنر) القريب جداً إلى تل أبيب، والذي يقول عنه البعض إنّه مفرط في القرب إلى تل أبيب، لقد هبّ هؤلاء المتعصّبون ليؤكدوا أنّ نعت (كوسموبوليتي) إنّما هو شتيمة لاسامية! ولقد جرى قبل ذلك بوقت قصير، تسريح (ريشار لابيفيير) الكاتب والصحفي في إذاعة فرنسا الدولية (RFI) تسريحاً تعسفياً، لقيامه بإجراء مقابلة متلفزة مع الرئيس بشار الأسد، عشية زيارته التاريخية إلى (باريس) في (14) تموز (2008) والواقع أنّ (لابيفيير) كان يضع على الدوام مسافة بينه وبين الطروحات الإسرائيلية، مما كان يجعله موضع نقد دائم من قبل مؤيدي (إسرائيل) داخل مؤسسة إذاعة (فرنسا) الدولية (RFI) وجرى في كانون الأول الماضي، أن دُعي إلى (باريس) (ستيفان هيسيل) المقاوم القديم، والمرَحّل السابق، والمشترك في صياغة الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، بمناسبة إحياء ذكرى المحرقة اليهودية، وليرأس الاحتفال بالذكرى الستين لإقرار الشرعة المذكورة، فمارست عدة منظمات يهودية ضغوطاً للتنديد بوقوع خطأ في توزيع الأدوار، مردّه الانتقادات التي وجهها (ستيفان هيسيل) للسياسة الراهنة التي تنتهجها الحكومة الإسرائيلية، وارتأت تلك المنظمات أنّ حضور (هيسيل) سوف يلطّخ ذكرى ضحايا المحرقة، أما الخارق للمألوف في المسألة فهو أنّ المنظمات قد ربحت الجولة من غير أن تصرح الصحافة ببنت شفة،
إنّ المعادلة التي تقول إنّ معاداة الصهيونية هي معاداة للسامية، إنما هي معادلة عبثية ولا يسعها الصمود فكرياً، فإدانة الاستعمار والتنديد بسياسة الفصل العنصري الإسرائيلية وانتقاد الفلسفة السياسية الصهيونية، لا علاقة لها مطلقاً بأيّ عداء للسامية، حتى حين تُعلن تل أبيب، وحدها، إنّ (إسرائيل) دولة يهودية، مما يتيح لها، في جملة ما يتيح: كتحصيل حاصل (إذا ما انتقدتم اليهود، فانتم لا ساميون) متجاهلة، أو متظاهرة بتجاهل، أنّ الانتقادات والإدانات لا تستهدف من هم، بل ماذا يفعلون.
أمّا الجدوى التي تحققها (إسرائيل) من اتصالاتها فناجمة أساساً عن أنها لا تجد من ضغط معاكس أبداً، حتى من جانب العرب، فزعماء الشرق الوسط غائبون عن هذا الميدان غياباً تاماً، فهم ينددون بواقع أنّ (وسائل الإعلام الغربية تميل إلى تفهّم الرؤية الإسرائيلية أكثر من الرؤية العربية، وإلى التعاطف مع الإسرائيليين أكثر من تعاطفها مع العرب) إلا أنّهم لا يفعلون شيئاً من أجل أن يفهمهم الآخرون، فالرؤية العربية، لم يجرِ التعبير عنها قط، والعالم العربي، لا يرفع عالياً سوى راية انقسامات غير مفهومة من قبل الغرب، وحتى التضامن العربي حيال الفلسطينيين في غزة، إن كان هنالك حقاً من تضامن، يظل غير مقروء، ولا يسعنا سوى التأكيد على أنّ البلدان العربية، على الرغم من قوتها بالبترودولار، لم تتوصّل قط إلى إفهام وجهة نظرها لأوروبا أو للولايات المتحدة، ولقد أنشأت أدوات إعلامية ذات قيمة كبرى مثل الأقنية الفضائية، لكنها كلّها أشبه بالمرايا، فهي أساساً موجّهة صوبهم هم فلا تعكس لهم سوى صورتهم نفسها.
وفي حين طلبت الأمم المتحدة إلى المحكمة الجنائية الدولية إجراء تحقيق من أجل تحديد ما إذا كان الزعماء السياسيون والعسكريون الإسرائيليون المسؤولون عن حصار غزة، ينبغي تجريمهم وملاحقتهم بسبب خرق القانون الجنائي الدولي، فإنّ العرب قد سكتوا، إنّ الرئيس المصري حسني مبارك وملك السعودية عبد الله وشيوخ أمارات الخليج والجامعة العربية التي لا تلمسها الأيدي، هؤلاء الغائصين في لجّة شؤونهم وصفقاتهم المالية، وغالباً مع (إسرائيل) قد التزموا صمتاً يصمّ الآذان. ولقد أعلن الصحفي العربي المستقل راني أميري قائلاً: (لقد التقينا بالعدو، فكنا نحن العدو).

دروع بشرية:
أما الإسرائيليون، فهم يستخدمون، بخلاف ذلك، بل يُفرطون في استخدام العرض والشرح والتواصل وهم يخلطون بها، وبكل اغتباط، التدليس والأنباء المغلوطة والحقائق المعكوسة، أما المثال الصارخ على ذلك فهو السبب الذي ساقته الدولة العبرية لتفسير العدد الهائل من الضحايا المدنيين في غزة، فتقول إنّ حركة (حماس) مثلها في ذلك مثل (حزب الله) تستخدم المواطنين دروعاً بشرية، هذه خطة يطبقها الإسلاميون مستلهمين الأمثلة من (أفغانستان) والعراق، فالمدارس تُستخدم منصاتٍ لإطلاق الصواريخ كما تُستخدَم المساجد مستودعاتٍ لتخزين الأسلحة، فـ (حماس) تختبىء وراء أطفال تستخدمهم دروعاً بشرية، وهذا شيء غير مقبول، فكلما وقع قتلى كانوا هم المسؤولين عنهم، ذلك ما أكده، من غير أن يرف له جفن، العقيد (أوليفييه رافوفيتش) وهو احد الناطقين باسم الجيش الإسرائيلي، في حديث مباشر أدلى به للقناة (24 الفرنسية France 24) من غير أن تجرؤ المذيعة اللبنانية ليا سلامة، التي كانت تجري المقابلة معه، على معارضته.
إنّ هذه الحجة التي لاكتها الألسن مراراً وتكراراً وبلا نهاية، منذ عام (2006) حتى تحوّلت بذاتها إلى حجة بلاغية، لم تُرفَق قط بإثباتات، على الرغم من أنّ (إسرائيل) تمتلك القدرات التقنية، قد ابتعدت هذه الحجة منذ زمن عن كل واقع لدى مجابهتها بالوقائع،
تعتمد الاستراتيجية الإعلامية الإسرائيلية على الإلحاح وتكرار الحجّة إلى حين أن تترسّخ واقعاً في الأذهان، لقد قامت الأمم المتحدة بالتحقيق في جنوب لبنان بعد حرب (2006) لكنّ القبعات الزرق لم يعثروا قط على مخابىء لـ (حزب الله) في منطقة سكنية. أما صحيفة (هاآرتس) في اعتمادها على مصادر عسكرية إسرائيلية، فقد قالت: (إنّ معظم الصواريخ التي أطلقها «حزب الله» على «إسرائيل» إنّما كانت من محميات طبيعية) وينبغي أن نفهم من هذه التورية، أنها من خارج المناطق السكنية، لقد نشرت منظمة (هيومن رايت ووتش HRW) في (7) أيلول (2007) تقريراً من (247) صفحة، يخلص إلى اللامبالاة غير المسؤولة، التي أظهرها الجيش الإسرائيلي في لبنان، وإنّ العدد المرتفع للقتلى في صفوف المدنيين مردّه بشكل رئيس عدم الاحترام السائد لدى (إسرائيل) للالتزام السياسي بقوانين الحرب: (هناك واجب في التمييز بين الأهداف العسكرية التي يمكن مهاجمتها شرعاً، والأهداف المدنية التي ينبغي عدم استهدافها) وفقاً لتأكيدات النص، أما معهد استراتيجية الجيش الأمريكي، فأكد في دراسة نُشرت في (5 ت1/أكتوبر 2007) على أنّ (حزب الله) لم يستخدم المواطنين المدنيين قط ليحتمي بهم من الجيش الإسرائيلي، لكنّ هذه المعطيات وصلت بعد الحرب بعام كامل، أي متأخرة جداً لتكون مجدية في تصويب خطأ ورد في تضليل إعلامي، ولقد كانت مسيرة التدليس في غزة هي نفسها، مع بعض التنويعات الشيطانية الهادفة إلى نزع الروح الإنسانية عن الخصم، ولم يتوانَ الجنرال (أشكينازي) عن التأكيد، أمام أعضاء اللجنة البرلمانية للشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست، لعلمه أن الصحافة سوف تتولى تكرارها (أنّ «حماس» كانت تستخدم الفلسطينيين بشكل مشين، فتمنعهم من دخول الملاجئ أثناء القصف ومن مغادرة مناطق القتال، وأنّ المدارس قد بُثّت فيها الألغام على يد «حماس» وأنّ بعض التلاميذ قد أُرغِموا على البقاء في المكان) ثم أضاف من غير أن يطرف له جفن أنه: (وفقاً لشهادة جنود إسرائيليين، فإنّ قنابل كانت موضوعة فوق بعض البيوت وإنّ سكانها كانوا ممنوعين من الخروج) إنّ جانب التدليس في هذا التصريح جدير بالكشف عنه، فالأمر يتعلّق بادئ ذي بدء بمصدر الخبر: (جنود إسرائيليين) أين؟ ومتى؟ وكيف لم يلتقطوا صوراً تجعل الأمر جلياً ساطعاً؟ وكيف أمكن لهم التأكّد من تلك التصرّفات؟ وما داموا (جنوداً على مستوى عالٍ من الأخلاقية) وفقاً لأقوال (إيهود باراك) فكيف لم يتدخّلوا لإنقاذ أولئك المدنيين؟ يبقى أن نتساءل هل يمكن أن نصدّق قيام مقاتلين عرب، أياً تكن درجة عنفهم، باستخدام أهلهم وذويهم دروعاً في وجه جنود لا يتردّدون في إطلاق النار؟ وهل (حماس) منظمة جهنّمية إلى هذا الحد كي تقوم عن عمد بتعريض أبنائها للإصابات، وهي في مجتمع عائلي وعشائري كالمجتمع الفلسطيني؟
يبقى أنّ الجنرال (أشكينازي) أغفل في مداخلته الكلام عن استخدام الدروع البشرية من قبل (الهاغانا) كما حصل في (ت2/نوفمبر عام 1945) في تل أبيب، أثناء مظاهرات اليهود الذين خرجوا يحتجون على التضييقات التي وضعتها لندن في وجه الهجرة إلى فلسطين، وقد فتح البريطانيون النار فأُصيب عدة أطفال، وقد ندّدت الصحف في اليوم التالي باستخدامهم دروعاً بشرية، ولم يذكر رئيس أركان الجيش الإسرائيلي أنّ جنوده قد لجؤوا في أغلب الأحيان، في هذه الأعوام الثمانية الأخيرة، إلى استخدام الأبنية السكنية مراكز لإطلاق النار في قطاع غزة والضفة الغربية، واستخدام سكانها المدنيين دروعاً بشرية، وأنهم أرغموا مدنيين فلسطينيين على السير أمامهم، والبنادق في ظهورهم، للدخول إلى مباني يخشون على أنفسهم من دخولها، ولم يشر إلى الأطفال الفلسطينيين الذين رُبطوا إلى مقدّمة سيارات الجيب العسكرية لتفادي رميها بالحجارة، ولا الوضع النفسي لجنوده الذي يجعل واحداً من الرماة المهرة يقول معلّقاً على الأوامر العليا: (إنهم يمنعوننا من قتل الأطفال الذين تبلغ أعمارهم «12» عاماً على الأقل، أما الذين يتجاوزون الـ «12» عاماً فقتلهم مباح، أما رفض الجيش القيام بفتح تحقيقات، فقد شجّع من ناحيته على هذا النوع من التجاوزات، وهكذا فقد بلغ عدد الأطفال الذين قُتِلوا حتى منتصف حزيران «2002» في غزة «116» طفلاً أما في الضفة الغربية فبلغ (253) طفلاً، ولئن كان رئيس الأركان الإسرائيلي قد نسي كل ذلك، فإنّ من واجب الصحفيين أن يتذكّروه، وأن يضعوا في اعتبارهم على الأقل الإدانات التي صدرت عن المحكمة العليا بحق الجيش الإسرائيلي، وذلك عشية تصويت الكنيسيت على قانون يحظر على الفلسطينيين رفع شكوى ضد تجاوزات الجيش الإسرائيلي، ومن بعده لم يعد بوسع أي، درع بشري، أن يرفع شكوى أمام المحاكم الإسرائيلية).

الحرب المقدسة الدينية الإسرائيلية الفلسطينية:
توضع الأصولية الفلسطينية في أغلب الأحيان في مقدّمة التفسيرات والتعليقات الإسرائيلية التي تدور حول الإرهاب الفلسطيني، ويبدو من الملائم جداً الآن التعرّض للأصولية اليهودية شبه الرسمية إذا ما اعتمدنا الكرّاس الموزّع على الجنود الإسرائيليين لدى بدء المعارك في غزة، لقد صِيغ هذا النص عام (2003) في الخليل، بين المستعمِرين (المستوطنين) المتشدّدين والمفرطين في التطرّف، وقد دُعيَ باسم (هيّا خُضْ معركتي: كرّاس دراسة يومية للجندي والقائد في زمن الحرب) ويقارن الفلسطينيين في واحد من مقاطعه بـ (الفلثيين) وهم الشعب الذي يوصف في التوراة بأنّه تهديد حربي وحياتي بالنسبة لـ (إسرائيل) ثم يلي ذلك حثّ الجنود الإسرائيليين على تجاهل القوانين الدولية للحرب، المخصصة لحماية المدنيين (لا ينبغي الانسياق وراء حماقة الوثنيين الذين يتسامحون مع الأجلاف... إنّ الإحساس بالرأفة تجاه العدو إنما يغدو التصرّف بعنف مع جنودنا العادلين... نحن نخوض حرباً ضدّ القـَتـَلة، فأنت في الحرب كما في الحرب... وتحظّر علينا التوراة تسليم ملمتر واحد من أرض «إسرائيل» إلى غير اليهود، سواء كان ذلك عبر قطاعات، أو مناطق حكم ذاتي أو تنازلات أخرى تنمّ على ضعفنا الوطني).
لم يثر هذا النص أيّ تعليقات في الصحافة، ولا أي ردّ فعل ساخط في صفوف جمعيات الكفاح ضدّ العنصرية، على الرغم من أنّه يقطر عنصرية، ولم يصدر في الوهلة أي رد عن القيادة العليا للجيش الإسرائيلي، أما الأسباب فوجيهة، فقد حظي الكراس بإجازة طباعة من الحاخام الأكبر للجيش، الجنرال (أفيشاي رونسكي) والحاخام الأكبر هو نفسه من غلاة المستعمرين (المستوطنين) المتطرفين من جماعة (إيتامار) في الضفة الغربية قرب نابلس، واشتُهِر بأنه قدّم بيته علناً لأحد المستوطنين، حين وُضع قيد الإقامة الجبرية لأنه جرح أحد الفلسطينيين. ونظراً لأنّ تلك الفترة واقعة قبل الانتخابات، وأن التهديدات في الخارج بدأت تتراكم لاتخاذ إجراءات ضدّ جرائم حرب، فإنّ هيئة الأركان قد "شجبت" في بيان قصير جداً صدر في (27ك2/يناير) ووعدت بمعاقبة الضابط المسؤول عن نشر ذلك النص لأنّ (تلك الانحرافات يمكن أن تخلق انقسامات داخل الجيش)
إلا أنّ الصحافة لم تـُقِم أي رابط بين هذا الكرّاس والإعلانات المقلقة عن إعدامات جماعية للمدنيين ارتـُكِبت في (4ك2/يناير) على يد وحدات من لواء جعفاتي في (21) منزلاً في حي الزيتون، بضاحية من مدينة غزة، حيث اكتشفت (22) جثة لمدنيين من عائلة سمّوني، بعد خروج الجنود منها، وفي واحد من تلك البيوت النادرة التي ظلّت واقفة، كانت الجدران مغطاة بكتابات بالحوّار، تقول: (مكان العرب تحت التراب) (إنْ تكنْ جعفاتي «وحدة النخبة» حقاً، فعليك أن تقتل العرب) (القدس الشرقية لـ«إسرائيل») لم يكن من شأن الرد المتأخر الصادر عن هيئة الأركان سوى التصديق على عنصر جديد وهام في الواقع الإسرائيلي، أكّده الصحفي البريطاني (جوناثان كوك) حين كتب يقول: (إنّ الحاخامات المتطرّفين ومريديهم، الراغبين في خوض حربهم المقدسة ضد الفلسطينيين، يستولون خلسة على الحكم داخل الجيش الإسرائيلي).
سبق (لبن غوريون) وهو يرفض ارتداء المتدينين المتشددين البزّة العسكرية، لدى تشكيل الجيش الإسرائيلي، أن هتف قائلاً: (لا أريد غرباناً في الجيش) وقد جرى إعفاؤهم من الخدمة العسكرية، أما في عام (1973) فقد غيّر المتدينون رأيهم، وعملوا على تصويت الكنيست على قرار يتيح لهم أداء الخدمة العسكرية، مع مواصلتهم دروسهم التلمودية، فانخرطوا بشكل خاص في صفوف الوحدات المقاتلة.
ويتحدث اليوم، الخبير العسكري الإسرائيلي (ياغيل ليفي) عن (التلمدة) (التفقيه أو اللهْوَتة) السريعة للجيش الإسرائيلي: (هنالك اليوم وحدات نخبة مؤلفة بكاملها من الجنود المتدينين المقاتلين، ويتمركز عدد كبير منها في المستعمرات في الضفة الغربية، وهؤلاء هم الجواب على الخط المتشدد للحاخامات الذين يدعون إلى إنشاء «إسرائيل» الكبرى التي تضم الأراضي الفلسطينية المحتلة) ولقد بدأ يظهر بكل وضوح تأثيرهم على صياغة أهداف الجيش وطرائقه، كما كانت الحال في غزة، وكما هي عليه الحال اليومية حين يفسح الجنود، المكلّفون بالحفاظ على الأمن في الضفة الغربية، المجال أمام المستعمرين (المستوطنين) لاقتراف كافة أشكال القمع ضد المواطنين المدنيين الفلسطينيين، وهنالك عدد متزايد من الخريجين من كليات الضباط ممن جاؤوا من صفوف المتدينين المتطرّفين، يقول (إيغال ليفي): (بلغنا مرحلة يسعى فيها عدد حاسم من الجنود المتدينين إلى التفاوض مع الجيش حول الكيفية والغايات التي ينبغي من أجلها استخدام القوة العسكرية فوق أرض المعركة) وقد ذكرت صحيفة (هاآرتس) في (ت1/اكتوبر 2008) أنّ ضابطاً رفيع المستوى، لم تذكر اسمه، يتّهم الحاخامية بإجراء عمليات (غسل دماغ) للجنود على الصعيدين الديني والسياسي، والمدهش في الأمر أنّ أية وسيلة إعلامية أجنبية لم تتوقف عند هذه الظاهرة المقلقة من الأصولية الدينية والقومية المتطرفة للجيش الإسرائيلي، ولا يسعنا سوى الاستنتاج أنّ المتطرفين المتدينين اليهود والإسلاميين هم الذين يتولون سلطة اتخاذ قرارات الحرب والسلام في هذه المنطقة من الشرق الأوسط.

رؤى حربية:
شاهد العالم أجمع في غزة صوراً رهيبة في عنفها، وقد كتب واحد من أكبر حملة الأقلام في الدولة العبرية يقول: ( لقد سببت الصور صدمة، وخلُص كثيرون منها إلى نتيجة أنّ «إسرائيل» دولة عنيفة وخطرة، تستهتر علناً بقرارات مجلس الأمن للأمم المتحدة الداعي إلى وقف إطلاق النار، من غير أن تحترم بأي شكل من الأشكال القانون الدولي، إنّ تدفـق التعليقات على المقالات التي تناولت الهجوم على غزة، والتي كتبها «مغاوير الإنترنت» قد بلغت ذرى لم يبلغها أحد من قبل، وكانت محمّلة بأشكال من الحقد ما بين مؤيدي «إسرائيل» ومؤيدي الفلسطينيين، حتى أنّ منابر النقاش في الصحف أضحت عاجزة عن السيطرة على ذلك التدفق الهائل، مما دعاها لإغلاق منافذها).
لم يحصل قط من قبل، أن كانت (إسرائيل) طول (60) عاماً من تاريخها، هدفاً لإدانات بمثل تلك الكثافة وتلك الشدّة، أما الاتهامات فهي جادة وقانونية، جرائم حرب، جرائم ضد الإنسانية، وحتى المحرقة، ومنذ وقف العمليات العسكرية، طالبت ثماني منظّمات إسرائيلية، للدفاع عن حقوق الإنسان، المدعي العام للدولة العبرية بفتح تحقيق حول سلوك الجيش في غزة، نظراً لضخامة الأضرار التي لحقت بالمدنين، كذلك فإنّ وفداً يمثّل (350) منظّمة مؤيدة للفلسطينيين قد جرى استقبالها من قِبَل رئيس وحدة البيّنات في مكتب المدعي العام لدى محكمة الجزاء الدولية في (لاهاي)، وهنالك بلدان تدرس الالتزام بفتح قضايا ضد (إسرائيل) بارتكاب جرائم حرب بوصفها بلداً وقّع على اتفاقيات (جنيف) وقد قبل (فرناندو أندرو) القاضي في مدريد، تلقي شكوى على وزير الحرب الإسرائيلي السابق (بنيامين بن أليعازر) وستة من كبار الضباط بتهمة (جرائم ضد الإنسانية) بعد القصف الذي جرى في (22) تموز (2002) فأدى لمصرع أحد زعماء (حماس) صلاح شحادة، و(14) مدنياً فلسطينياً معه، وغالبيتهم من الأطفال والرضّع، وذلك بموجب السلطة القضائية الدولية المطبّقة في (إسبانيا) وقد أثار هذا الإعلان غضب (إسرائيل) فعلّق وزير خارجية (إسبانيا) (ميغيل أنخل موراتينوس) على ذلك بقوله: (إن ردّ فعل «إسرائيل» هو ردّ فعل «إسرائيل» أما ردّ الحكومة الإسبانية فهو احترام العدالة).
ولقد أعلن (إيهود أولمرت) في (26 ك2) لدى افتتاح إحدى آخر جلسات مجلس الوزراء: (على الضباط والجنود الذي أُرسِلوا إلى غزة أن يعلموا أنهم يتمتعون بالحماية الكلّية حيال كافة المحاكم وأنّ «إسرائيل» سوف تساعدهم) كما طلب إلى وزير العدل (دانييل فريدمان) أن يشكّل فريقاً من عدد من الوزراء وأن يستشير كبار القانونيين في البلاد من أجل إعداد، الأجوبة على أسئلة محتملة، أما الرقابة العسكرية الإسرائيلية فقد حظرت الكشف عن هوية رؤساء الوحدات التي تورّطت في غزة، خشية أن يُصار إلى ملاحقتهم بصورة إفرادية، وسوف يتوجّب عليهم الحصول على الضوء الخضر من قيادة الأركان من أجل تنقلاتهم الخاصة في أوروبا، أما وجوه الجنود فلن تظهر إلا مموّهة في المقابلات والتحقيقات التلفزيونية.
وإنّه لمن الصعب، أمام الوقائع المثبتة التي جرت في غزة، وأمام نتائجها، التزام الصمت حيال التفهّم، الإلزامي أو المتسامح، الذي استفادت منه الحملة الإسرائيلية لدى بعض رؤساء التحرير الفرنسيين. وقد بلغ الأمر (بكريستوف باربييه) كاتب افتتاحية الإكسبريس، أن قال: (إنّ «إسرائيل» على حق في خوض هذه الحرب ولقد فعلت ذلك من أجل طمأنينتنا أيضاً) من غير أن يوضح كيف أنّ طمأنينتنا كانت مهددة، تبقى الأمنية، حفاظاً على صيته، ألا يكون السبب الكامن وراء ما قال، وقوفَ (برنار هنري ليفي) شاهداً على زواجه مؤخراً، وهنالك أيضاً أمر غير مفهوم حول وسائل الإعلام التي لم تتساءل البتة حول الطريقة المتوازنة التي عالجت بها ذلك الرد غير المتكافئ، وكيف لعدم تناظر الوقائع أن يوصف عبر تناظر في المصادر وفي زمن الكلام؟ وهل كانت النزاهة حقاً، لعدم توفّر الموضوعية، هي المحرّك، أم أنّ رأي أرباب الصحافة قد صيغ مرة أخرى أيضاً بعيداً عن الغبار وعن الدم؟ إنّ تغطية الحرب في غزة قد خلّفت طعماً مريراً في أفواه الصحفيين الذين تذكّروا عبارة (ألبير كامو): (إنّ في عدم تسمية الأشياء بأسمائها، زيادة في شقاء العالم).
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف