الأخبار
حماس: انتهاء جولة المفاوضات الحالية ووفدنا يغادر القاهرة للتشاور مع قيادة الحركةهنية يكشف أهم شروط حركة حماس للتواصل لاتفاق مع إسرائيلمقتل ثلاثة جنود إسرائيليين بقصف المقاومة الفلسطينية لمعبر (كرم أبو سالم) العسكريالحكومة الإسرائيلية تغلق مكتب الجزيرة تحت ذريعة أنها "قناة تحريضية"الخزانة الأمريكية : بيانات الاقتصاد تؤكد وجود تباطؤ بالتضخممسؤولون أمريكيون: التوصل إلى اتفاق نهائي بغزة قد يستغرق عدة أيام من المفاوضاتالمستشفى الأوروبي بغزة يجري عملية إنقاذ حياة لطبيب أردنيتحذيرات أممية من "حمام دم" في رفحالمقاومة الفلسطينية تكثف من قصفها لمحور (نتساريم)غارات إسرائيلية مكثفة على عدة مناطق في قطاع غزةحماس تتمسك بوقف إطلاق النار وضغوط أميركية على نتنياهو للمشاركة بالمفاوضاتمسؤول ملف الأسرى الإسرائيليين السابق: حماس جادة بالتوصل لاتفاق وإسرائيل لا تريدإعلام إسرائيلي: نتنياهو يصدر بيانات ضد إبرام الصفقة تحت مسمى مسؤول دبلوماسيحماس: ذاهبون إلى القاهرة بروح إيجابية للتوصل إلى اتفاقإعلام إسرائيلي: جيشنا انهار في 7 أكتوبر رغم تدريباته لمنع هجوم مماثل
2024/5/6
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

ابراهيم جادالله يبحث عن المرأة فى الإبداع الشعبى العربى الجماعى

تاريخ النشر : 2006-12-05
ابراهيم جادالله يبحث عن المرأة فى الإبداع الشعبى العربى الجماعى
الإبداع الشعبى العربى الجماعى

يصوغ المرأة سيدة له

ابراهيم جادالله


6 صور مختلفة لنماذج نسائية في الفلكلور العربي تكشف عن تنوع الرؤية الشعبية للمرأة

*المرأة في الوجدان الشعبي تجمع بين الأم الرؤوم وأمنا الغولة.. بين الحبيبة الرقيقة والغانية اللعوب، وبين البريئة الساذجة وذات المكر والحيلة

*المرأة تعمل في مجال الثقافة الشعبية كل الوقت.. تحافظ علي نصوصها.. وتروج لقيمها ومعاييرها.. وتنقلها إلي الأجيال

*فاطمة ذات الهمة مثقفة وفقيهة ومقاتلة وامرأة فاتنة ومناضلة ضد الأجانب

*الصخرة التي كان يلتقي عندها «عنتر» و«عبلة» تحولت إلي أحد المزارات السياحية في السعودية

*الفارسة «غمرة» تقود الرجال وتحكم فيما بينهم وتبارز أقوي فرسانهم فتهزمهم

*جمال بطلة السيرة الهلالية يشعل الصراع بين «أبي زيد» و«دياب».. ولكن ذلك لا يفقدها مكانتها باعتبارها عمود بني هلال

*المصريون أعادوا صياغة قصة «النبي أيوب» الواردة في أسفار العهد القديم.. لتكون مثالاً لوفاء المرأة لزوجها

*قصة «فاطمة بنت بري» أكثر القصص شيوعاً في سيرة معجزات وعجائب السيد البدوي

***

كان سؤال إبنتنا الرائعة فاطمة الزهراء المرابط لى .فى حلقة ضيف تحت المجهر.عن المرأة المبدعة فى المسرح العربى قد فجر أشجانا كثيرة داخلى ، لأنى وجدت ضرورة منح ذاتى فترة كافية لإعمال منهج بحثى حول هذا السؤال التأريخى العلمى المهم / ولكنى وجدتنى بعيدا عن البحث عن دورها ( المرأة) مستغرقا فى صورتها فى الإبداع ، وقابلتنى ابتهاجات معرفية كثيرة 0 منها تلك الابتهاجات التى أعرضها عليكم هنا ، ومرجعا هذا التحفيز المعرفى وفضله لصاحبته .فاطمة الزهراء المرابط بأصيلة المغربية



سيدة المأثور الشعبي ليست شخصاً واحداً، وإنما هي شخصيات عديدة، وليست ذات وجه واحد، وإنما ذات وجوه كثيرة. ولا يرجع ذلك التعدد إلي أنها متناقضة أو «عندها شيزوفرانيا»، أ لأنها مضطربة الشخصية أو «بوشين» كما يقال، وبما يبرر ما يتداوله الرجال من النصيحة الذكورية المنتقصة من النساء «شاوروهم.. وخالفوا شورهم»! وإنما يأتي هذا التعدد نتيجة لأن المأثور الشعبي إبداع جمعي ينطق باسم الجماعة الشعبية ويتداول بينها، ولذا فإنه يجسد أحوالاً ومواقف ووقائع متعددة بتعدد جوانب الحياة عند هذه الجماعة الشعبية واختلاف مواقفها، ويمثلها في شخصيات متعددة ومختلفة بقدر تعدد مواقف حياة تلك الجماعة الشعبية واختلاف تجلياتها.

وهكذا يظهر في المأثور الشعبي شخصيات تتجلي فيها الأم الرؤوم كما توجد «أمنا الغولة»، وسنجد الحبيبة الرقيقة كما سنجد الأمازونات العنيفت، وسنجد المرأة عمود الأسرة والعشيرة كما سنجد الأخري التي لا تستجيب إلا لأهوائها، وسنجد ست الحسن والجمال كما سنجد الدميمات والشمطاوات، وسنجد ذوات السذاجة كما سنجد ذوات المكر والحيلة، وهكذا مما تتباين فيه الطباع والأشكال والقدرات.

وسيدة المأثور الشعبي عاملة في مجال الثقافة الشعبية عملاً كاملاً لكل الوقت «فول تايم» لمدة أربع وعشرين ساعة في كل يوم من أيام العمر، فهي التي تحافظ علي منتجات الثقافة الشعبية وتصونها، وهي التي تروج لقيم هذه الثقافة الشعبية ومعاييرها ومثلها، وهي التي تواكب بتطبيقاتها مراحل حياة أبناء المجتمع الشعبي منذ ميلادهم حتي يوافيهم الأجل، وترافق تبدلات أحوالهم وعوارضها، في الصحة وفي المرض، في الفرح وفي الحزن، في العمل وفي الترويح.. إلخ. وهي بهذا تعمل ـ بالفعل ـ في تداول المأثور الشعبي وحفظه وصونه مادامت هي تعيش وتزاول مناشط حياتها وتتفاعل مع محيطها الاجتماعي. وكل هذا ينعكس في التمثيلات المتخيلة للشخصيات النسوية التي تصورها الأعمال الإبداعية الشعبية، وبالتالي يزيد من تعدد هذه الشخصيات النسوية ويزيدها تركيباً وثراءً.

وسيدة المأثور الشعبي ليست مجرد ناقلة للمأثور الشعبي أو مرددة له ومتابعة فحسب، بل هي ـ أيضاً ـ مبدعة، لها دورها الرئيسي في إنتاج هذا المأثور وإعادة إنتاجه وفق تصوراتها ورؤاها هي، وتبعاً لما تمارسه في حياتها من تجارب وأحداث وما تتبناه من آراء وأفكار وتصورات وقيم. ونتيجة لهذا سنجد أن المأثور الشعبي يتميز عن الإبداع في الثقافة الرسمية، أو في الفنون والآداب «العالمة» بأنه يوجد بالمأثور الشعبي، بالإضافة إلي الأشكال الفنية التي تشترك فيها النساء مع الرجال، أشكال أخري خاصة بالنساء، حيث تنفرد المرأة بأداء أشكال خاصة بها في الفنون التشكيلية والموسيقية والحركية والدرامية، ناهيك عن التعبيرات الأدبية الشعبية، كما يتسع إسهام المرأة في جوانب الثقافة الشعبية المتعددة الأخري، فيمتد إلي العناصر الخاصة بالمعارف والمعتقدات والتصورات الشعبية، كما يمتد إلي الممارسات الخاصة بالعادات والتقاليد والأعراف والآداب والمراسيم التي تتبعها الجماعة الشعبية التي تنتمي إليها.

وهذه الأشكال التي استقلت المرأة بأدائها أتاحت لها التعبير عن رؤيتها لنفسها وعن مدي وعيها بذاتها وبحدودها داخل الأوضاع التي تكتنف حياتها، خاصة عند مناظرتها مع حقوق الرجال في مجتمعها من ناحية، ومع رضوخها لمقولات السيادة الذكورية من ناحية أخري. وصحيح أن الصوت الذكوري هو الصوت العالي الذي يفرض نفسه في أغلب الوقت في منتجات الثقافة الشعبية، غير أن الرؤية النسوية تجد لنفسها وسائل للحضور وتوصيل صوتها أو تسريبه بواسطة هذه التعبيرات والتمثيلات النسوية، مستخدمة استراتيجيات النقض والمفارقة، ومستفيدة من الوسائل البلاغية الاحتجاجية القائمة علي المبالغة والسخرية ونحوهما. وتعبر هذه التمثيلات عن «وعي رافض» كامن يسعي نحو تجاوز الهيمنة الذكورية القائمة وخلق وضع بديل تحقق فيه المرأة وجودها المستقل وتصبح إنسانة كاملة الأهلية قادرة علي إنشاء حياة أسعد تسودها الحرية والعدالة والمساواة والكرامة لنفسها ولأهلها ولمجتمعها.

علي أي الأحوال، نؤجل الآن الحديث عن المرأة بوصفها مبدعة في المأثور الشعبي، سواء بإسهامها في الإنتاج والأداء الإبداعي، أو في الصور والتمثيلات التي تقدمها المنتجات الشعبية نفسها. ونركز حديثنا التالي علي صور المرأة وتمثيلاتها التي تشيع في المنتجات الشعبية السائرة، وهي وإن ترددت بواسطة الصوت المهيمن المتبع للمواضعات الذكورية، فإنها تظل تعرض لنا معالم من حيوية الوجود النسوي وثرائه، وتبين لنا الإمكانات المتجددة لهذا الوجود في بعث متعة الفن وإثارة التفكر في دراما الوجود البشري.

لكل هذا ما كان يجوز أن أكتفي بتقديم صورة قلمية لواحدة من شخصيات المأثور الشعبي النسوية واعتبارها ممثلة لهن، وأجتزئ بها الحديث عن المرأة في المأثور الشعبي. ومن هذه الزاوية، فإن فاطمة بنت مظلوم في سيرة ذات الهمة، وعبلة في سيرة عنترة، وغمرة في سيرة عنترة أيضاً، والجازية في سيرة بني هلال، ورحمة في قصة أيوب، وفاطمة بنت بري في قصتها مع السيد البدوي، وكل منهن تتراسل مع أخريات لا يتسع المقال لذكرهن، ويكون جميعاً لوحة متسعة من تصاوير المرأة وتمثيلاتها في المأثور الشعبي، فسيدة المأثور الشعبي هي كلهن جميعاً.


فاطمة ذات الهمة:

فاطمة هو اسمها الشخصي الذي أطلقه علماً عليها أهلها، ولأن أباها كان قد اتفق مع عمها أن من ينجب منهما ذكراً ينفرد بالحكم وزعامة قبيلتهما بني كلاب، التي كانت من كبري القبائل العربية، فإن أباها يخفي أمرها ويتظاهر بأنه أنجب ولداً مات عند الولادة. ومن ثم يسلمها إلي جارية لكي تربيها بعيداً عنه، ويتم أسر الجارية ومعها ربيبتها فاطمة ويسوقونهما إلي قبيلة طئ، وتصارع فاطمة لتجاوز وضعها الذليل بالعمل علي محورين: التعلم والتفقه، والمران علي القتال والنزال، وهكذا تتمكن بفضل ما أتقنته من معرفة وفروسية أن تسترد حريتها، ولما رأي الناس مآثرها وعلو همتها أطلقوا عليها «ذات الهمة» الاسم الذي عرفت به واشتهرت.

وتشارك «ذات الهمة» قبيلة طئ في إغارة جديدة علي قبيلة بني كلاب، وفي المعركة يتعرض لها أبوها فتبارزه وتأسره، وهنا تتدخل مربيتها وتعرفها بأبيها، وتطلق ذات الهمة سراح أبيها، ويعلن الأب اعترافه بابنته، ومن ثم تصبح ذات الهمة فارسة بني كلاب، غير أن فاطمة ذات الهمة تمر بمحنة جديدة بإصرار عمها علي تزويجها من ابنه، رغم رفضها البات، ولكن عمها كان يلح علي زواجها من ابنه لكي يضمن الاستحواذ علي جمالها من جهة، وعملاً علي كسر شوكتها والتحكم في مصيرها من جهة ثانية ولكي يضمن عدم مطالبتها بزعامة القبيلة من ناحية ثالثة وبتوسط من الخليفة، ثم بالتحايل استطاع ابن عمها الدخول بها. وقد نتج عن هذا الاغتصاب إنجابها ابنها عبدالوهاب.

وتتمرد ذات الهمة علي عالم القبيلة ومكائده الأسرية والقبلية ضيقة الأفق وتقرر الانتقال إلي منطقة الثغور، حيث المواجهة مع الدولة البيزنطية.

وهناك توحدت مطالبها مع مطالب المجتمع العربي الواسع واندمجت مشاغلها مع مشاغله. وهناك استطاعت استقطاب المجاهدين إلي أن ولوها القيادة، ومنذ ذاك دخلت في سلسلة من المغامرات والمؤامرات الناتجة لا عن المواجهة مع العدو البيزنطي وحده، وإنما أيضاً بسبب المنافقين والمفسدين الذين كانوا يتواطأون مع القوي المعادية ويخربون الموارد الداخلية.

غير أن مواجهات ذات الهمة وفروسيتها لم تشغلها عن رعاية ابنها عبدالوهاب وإحسان تربيته وحمايته ودفعه إلي التفوق والبروز، وهي أمومة امتدت لتشمل المجاهدين الذين التفوا حولها وأسهموا معها في نصرة الحق. وقد فصلت السيرة في وصف المواقف والأحداث التي تجسد جمع ذات الهمة بين الفروسية والأمومة، فضلاً عن إعلائها لحق المرأة في دور اجتماعي مساو لدور الرجل بوصفها كائناً إنسانياً كامل الأهلية والقدرات. وقد استغرق تفصيل وقائع سيرة ذات الهمة تدوينها وطباعتها في ستة أجزاء، كل جزء يحتوي علي ستمائة صفحة. وقد كان لسيرة ذات الهمة امتدادها في المأثور الشعبي التركي، حيث يصبح ابنها البطل عبدالوهاب ورفيقه السيد البطال شخصيتين محوريتين في الملاحم التركية.


عبلة في سيرة عنترة:

في بادية نجد، بالقرب من عنيزة بمنطقة القصيم، مازال أبناء المنطقة ـ حتي يومنا هذا ـ يصحبون زوارهم إلي واد به صخرتان متقابلتان، ويشيرون إليهما علي أنهما الصخرتان اللتان كانتا يجلس عليهما عبلة وعنتر ويتناجيان. وهو ما يؤكد كيف أن قصة الحب بين عنتر وعبلة مازالت محفورة في الوجدان العربي وحاضرة حتي اليوم.

وإذا كانت بعض ألوان القص الشعبي قد ركزت علي شجاعة عنتر وقوته وفروسيته، فأنا سنجد غيرها من أشكال التعبير، مثل «صندوق الدنيا» والرسوم التي تعلق علي الجدران تركز علي عبلة.

والبادي أن شخصية عبلة المحبة المحبوبة، والتي رعت حبها وحافظت علي عهده وآمنت بحبيبها وأيدته، كما ناصرته وواجهت معه العقبات التي تحول دون التقائهما. وحبيبها عنتر لم يكن أسود البشرة فحسب، بل كان ـ أيضاً ـ عبداً ابن أمة سوداء، كما كان راعياً للإبل، بينما كانت هي ابنة زعامة القبيلة وقيادتها. وهي لم تكن تملك المكانة الاجتماعية فحسب، بل كانت ـ أيضاً ـ تملك الجمال ومهارات ركوب الخيل والطراد. ولهذا كثر طلاب الزواج منها، رغم تكرار رفضها لهم. وهو ما يدعو أهلها إلي العنف معها بعد ما كانت تحظي به من إعزاز وتكريم، وعندما يتخطي عنترة العقبات المتوالية ويزيل الحوائل التي وضعت في سبيله للالتقاء بعبلة في زواج سعيد، فإن الصراع لا يتوقف حيث كان عليهما أن يواجها مغامرات الفرسان الذين يسمعون بأمر جمال عبلة الذي جعله شعر عنترة حلماً يصبو إليه فتيان العرب وفرسانهم، وهم يحاولون أسرها والفوز بها، وهو يعمل علي حمايتها ماضياً في مغامرات طويلة يتجول فيها في الجزيرة العربية مناصراً للضعفاء والمظلومين، وكان أثناء ذلك يهب كل مآثره إلي اسم عبلة ممجداً فضائلها.

وبعد أن يستقر زواج عبلة وعنتر يستمر الحب قائماً ترعاه عبلة بصبر وتفهم وثقة في حب عنتر لها، رغم تعدد زيجاته بعد أن تكشف كونها عقيماً. وهو الأمر الذي تؤكده مشاهد نهاية السيرة، حيث يموت عنتر فوق حصانه وهو يحمي هودج عبلة من اعتداء الأعداء المتكاثرين عليهما، ولا يسقط عن جواده ـ بعد موته ـ إلا بعد أن تكون عبلة قد وصلت إلي بر الأمان.


غمرة في سيرة عنترة:

وهي فارسة ملونة البشرة استطاعت أن تجمع حولها مجموعة من العبيد الهاربين ذوي الشجاعة والقدرات القتالية، وكانت غمرة وعصابتها يتجولون في البادية يقطعون الطريق علي القوافل ويغزون مضارب العشائر ومراعيهم فقد كانت العصابة علي دراية بالمسارب والشعاب والدروب غير المطروقة والتي تمكنهم من الكر والفر بسهولة. وكانت غمرة، بتحريرها للعبيد وبإعادتها لتوزيع الثروة تزداد قوة ومهابة. وكانت مهاراتها في ركوب الخيل وإصابة الهدف بالسهام واستخدام الحربة والسيف تزيد من قوتها ومهابتها حتي أصبح يخاف من ذكرها رجال العشائر، وأصبحت عصابتها أحد هموم شيوخ القبائل الذين أخذوا في تجميع القادرين علي حمل السلاح لمواجهة خطرها.

وكانت غمرة دائماً علي رأس الرجال، تقود وتخطط ويحتكمون إليها إذا نشب بينهم خلاف. وهي التي تتقدم لتبارز الفرسان المشهورين بقوتهم وشدة بأسهم، وهي عادة إما تنهي المبارزة بقتل الخصم أو أسره لكي تحصل علي الفدية التي تحددها مقابل إطلاق سراحه، وبهذه الكيفية أسرت عدداً لا بأس به من مشاهير فرسان العرب، تأكيداً لأنها لا تتساوي فقط مع سائر الرجال في الإمكانات وفي المكانة، بل إنها ـ أيضاً تتفوق علي فرسانهم وقوادهم، وهي بفعلها هذا تنقض المواضعات التي جرت مجري المسلمات من أن المرأة «شيء» للتملك والحفظ، وفي أفضل تقدير أنها تابعة ولا تحتل من حياة عشيرتها أو أهلها إلا المحل الثاني.

وتنهي السيرة قصة غمرة بأن تجعلها تسعي للقاء عنتر الذي بلغتها شهرته فارساً لا يضارع، فقد أرادت أن تواجه هذا التحدي الأقصي وأن تختبر قوتها بالقياس إلي قوته، ولأنها فارسة وتعرف أن علي الفارسة المهزومة الزواج ممن يهزمها في ميدان النزال، لذا فإنها تسلم بنبالة بهزيمتها من عنتر، وتتزوج منه وتنجب ابنها غصوب الذي سيرث فروسية والديه.


الجازية الهلالية

في حوادث سيرة بني هلال المبكرة نجد إشارات إلي أن اسمها الشخصي هو «نوربارق» كما هو مكتوب في السيرة المدونة والمطبوعة، غير أن تنويعات السيرة التي تروي شفاهة تشير إليها عادت علي أنها «الجازية» أو بالترخيم «الجاز». ويبدو أن كلا الاسمين هما صفات تحولت إلي أسماء لكي تبرز جانباً من جوانب شخصيتها. فـ «نوربارق» يشير إلي جمالها فائق الحد، وجمالها سمة أساسية في بناء شخصيتها وما يتعلق بها من أحداث ومواقف. أما «الجازية» فيشير إلي دورها المركزي في حياة قبيلتها وما يرتبط به من كونها عمود العشيرة وركيزتها، وأنها كانت محوراً في أحداثها المصيرية من ناحية، وربطتها وحافظت عليها كلما آذنت عراها بالتفكك. وهي في هذا تماثل «جازية» الساقية التي تعد محوراً رابطاً لأجزائها ودافعاً لتساوق حركتها.

أما عن جمالها فقد بالغ الرواة في وصفها وصفاً حسياً يتابع أعضاء جسدها عضواً عضواً مبرزاً تناسقه واكتماله. وفي هذا السياق فقد وصفت بعض الروايات في الصعيد الأعلي حتي مشيتها وأنها تسير وكأنها تلاعب ظلها «ماشية تلاعب ضراها»، أو أنها «كأنها مركب معاندها التيار». وهذا الجمال هو الذي سيؤلف عدداً من زعماء القبائل وقياداتها ويستقطبهم فيصبحوا أحلافاً ومناصرين لبني هلال. كما أن هذا الجمال هو الذي سيثير النزاع بين غير قليل من الرجال، بل هو الذي يؤكد الشقاق بين بطلي الهلالية: أبي زيد ودياب. وهذا الجمال هو الذي ستستغله هي وقيادة القبيلة في حيل تسهم في انتهاء بعض المعارك المنهكة، مثلما فعلت في إغواء حارس بوابة تونس لكي تمرر أبا زيد ورفاقه، يتسللون إلي حصونها من الداخل بعد أن عز عليهم اقتحامها من الخارج.

كما يبدو أن هذا الجمال نفسه كان سبباً في عدم انتظام حياتها الأسرية، واضطراب زيجاتها التي كان يحكمها الصراع بين الواجب العشائري ورغباتها الخاصة وميولها الذاتية، فقد أحبت زوجها الأول «الأمير شكر» أمير مكة، ولكنها تحايلت عليه مع قبيلتها إلي أن اضطر إلي فراقها مصطحباً معه ولدها منه.

ويتكرر النزاع بين العاطفتين عندما تتزوج من أبي زيد ترضية له حتي لا يفارق قومه، ويقال إنها فعلت نفس الفعلة مع دياب، وكما فعلت مع الماضي بن مقرب حاكم مصر في تصور السيرة.

في كل الأحوال، فإن جانب الجمال من شخصية الجازية لا يطغي علي مكانتها أو سمتها باعتبارها عمود بني هلال الذي يحافظ علي وحدة القيادة وتماسكها، بل ويحفظ وجودها ذاته من التآكل. وفي التمثيلات تتساوق السمتان وتصبحان متكاملتين، بحيث تكون شهرة الجازية هي أنها صاحبة «ربع المشورة» عند انعقاد ديوان قيادة القبيلة، بمعني أن صوتها وحدها يقدر بربع مجموع أصوات رجال القيادة وزعماء عشائر القبيلة، فضلاً أن هذا يعني ـ بداية ـ أنها تحضر الديوان بوصفها شريكة فعالة في القيادة.

ويبرز دور الجازية في وقائع السيرة وأحداثها عندما يتحزب الأمر وتضيق علي أبطال الهلالية السبل وتصبح القبيلة مهددة بالاندحار أو التبدد. عندئذ تتزعم الجازية عمليات الاستنفار للقتال والتشجيع عليه، وتسعي لرأب الصدع ومصالحة العناصر المتخاصمة ولم شمل المتفرقين، والإسهام بالرأي في استراتيجية المعركة واقتراح الحيل الخداعية للعدو. وربما كان من أبرز المواقف الأخيرة في السيرة ما قامت به الجازية من جمع الأطفال الصغار، بعد المذبحة التي أجراها دياب في أبطال الهلالية وأبنائهم، وفرارها بهؤلاء الأطفال الذين سموا «جيل الأيتام» ونشأتهم ودربتهم حتي شبوا عن الطوق وأصبحوا قادرين علي الانتقام للمذبحة التي جرت علي آبائهم وأجدادهم، واستعادة حقوقهم المغتصبة.

والواقع، أن تقدير شخصية الجازية ومدي ثراء تمثيلاتها، وحسن فهم دلالات مواقفها وتصرفاتها، لا يتحقق دون الوضع في الاعتبار الشخصيات النسوية الأخري التي تعج بها سيرة بني هلال، سواء في تنويعاتها المكتوبة أو الشفهية، والتي تتراسل معها وتتناقض في الآن ذاته، والتي قد تنتمي إلي معسكر الهلالية أو التي تنتمي إلي خصومهم. فكيف نفهم الجازية دون أن نضع في الاعتبار خضرة أم أبي زيد وعالية زوجته ورية ابنته مثلاً من المعسكر الهلالي؟

وبالمثل كيف نحسن إدراك سلوك الجازية دون أن نضع في الاعتبار شخصيات مثل عزيزة أو سعدي الزناتية؟


رحمة في قصة أيوب:

في أحد أشكال إنشاد القصص الديني، الذي كان يغنيه طائفة من المداحات الجوالات، تروي قصة أيوب الذي ابتلي بمرض يبدو أنه جلدي، ولكن المرض أزمن معه واستفحل حتي تهرأ جلده ولحمه وتعفن. ويبدو أنه، بالإضافة إلي المرض، فقد ثروته ومصدر معاشه، وبعد مرور سبع سنوات، ورأي أهله وجيرانه تدهور حالته لم يجدوا مفراً من عزله وإبعاده، ولذا أمروا زوجته بحمله والخروج به من البلد، بعد أن حاول بعضهم إغواءها بهجره وتزويجها زيجة أفضل. ولكن الزوجة الوفية تحمله وتدور به في البلاد لتجد مأوي، ولكن الجميع يطردونهما. ولا تجد مأوي إلا في الخلاء بعيداً عن العمران، ولا تجد طعاماً إلا بالتسول. وحتي التسول تأباه عليها النسوة الغياري من جمالها من ناحية، ومن نموذج التفاني في الوفاء والتساند مع الزوج الذي تضربه هذه الزوجة، ولا تجد حلاً إلا أن تبيع جدائل شعرها الجميل ثمناً لكسرات يتزود بها زوجها، وتتم المعجزة ويشفي الزوج عندما يغتسل بماء العرعر، بل ويصبح أجمل مما كان قبل المرض، وبالمثل يرتد للزوجة شعرها، ويعودان إلي حياتهما الهانئة.

ومن الواضح أن القصة فيها عروق من قصة النبي أيوب الواردة ضمن أسفار العهد القديم، والتي يعتقد غير قليل من الباحثين أنها تنويعة علي حكاية عربية قديمة انتقلت إلي الأدب المروي بالعبرية فيما بعد. والقصد من هذه الإشارة التاريخية ليس التأصيل وتحديد المصدر والنشأة، وإنما القصد التنبيه إلي عملية التحويل التي قام بها القصاصون الشعبيون المصريون، إذ أصبح بؤرة الحكاية هو وفاء الزوجة وصمودها وليس صبر أيوب علي ابتلائه. ولهذا أعطت القصة المغناة اسماً لهذه الزوجة، واختارت من بين الأسماء اسماً موحياً ومحملاً بالدلالات والظلال وهو اسم «رحمة». وجعلت رحمة هي الشخصية الإيجابية الفاعلة والمعززة للقيم النبيلة الفاضلة، وهكذا صنعت منها مثالاً لتحمل المعاناة من جهة، وممارسة الوفاء والتساند مع الزوج المريض من جهة أخري. ولهذا يجسد الإنشاد المواقف والأحداث حتي التفصيلي والجزئي واليومي منها لكي يكثف مشاعر التعاطف مع رحمة ويبرز ما واجهته.

قالوا لها: سيبيه ـ يا رحمة ـ واطلعي

ونجوزك غيره من الشباب الصغيرة

تقول لهم: يا لايمين خفوا الملام

أسيب ابن عمي مربيني وأنا صغيرة

قالت لهم: يا لايمين خفوا الملام

بس سواد الليل وآخره مبدرة

قامت علي حيلها عملت مقطف حصير

وشالته علي راسها وتنها مسافرة

شالت أيوب وطلعت به الجبل

لا مية معاها ولا زاد ولكن صابرة

....

«وحطت أيوب فوق قش الجبال / من بعد نومه ع الحرير العنبرة / وقامت علي حيلها نزلت ع البلد / تشحت علي أيوب من البيوت العامرة. تقف علي الأبواب تقول يا محسنين / حنوا علي العيان حالاته مغيرة / أول نهار وتاني نهار وتالت نهار / وربنا عالم بأسرار القلوب الناظرة. رابع نهار غاروا منها نسوان البلد / وقالوا ماتجيش بلدنا تاني يا مرة / يا رحمة أنتي سبيتي عقول الرجال / ياللي علي خدودك وردة منورة / يا رحمة سبيتي رجال بلدنا بشعرك / اللي علي كتافك نازل جدايل عنبرة / بيعي جدايلك لحلاق البلد / قالت لهم رحمة: مابعشي شعري بالدهب / قالت لهم رحمة: أبيع شعري بعيش للعليل / رغيفين علامة م العلامة النيرة».


فاطمة بنت بري:

هناك ألوان من التعبيرات الغنائية الشعبية ترتبط بالقصص الدائر حول السيد البدوي وكراماته، وبهذا اللون من الأداء الأحمدي تروي قصة فاطمة بنت بري مع السيد أحمد البدوي وتنشد في المناسبات ذات الطابع الديني الشعبي. وفاطمة بنت بري امرأة حازت الثروة والجمال والعزوة، وكانت تنفرد بالسلطة في إقليم وحدها، قيل إنه في شمال العراق في أرض العشائر. ويبدو أنها امتلكت بجانب سطوة جمالها ونفوذها قوي روحية أيضاً، فقد أخذ كثير من الأولياء ورجال الطريق ينجذبون إلي ديارها ويسعون للقرب منها، فكانت تخضع كل واحد منهم لاختبار إذا أخفق فيه تسلبه «شربته»، أي قواه الروحية. وكان ذلك الاختبار هو مجرد المثول في حضرتها والتطلع إلي بهائها، والبادي أن كل أولياء المنطقة وعبادها رسبوا في الاختبار، الأمر الذي ضج منه الجميع، ومن ثم لجأوا إلي السيد أحمد البدوي واستنجدوا به ليرفع عنهم هذا الامتحان. وعندما يتوجه السيد البدوي إلي ديار فاطمة بنت بري، فإنه يلجأ إلي عدة إجراءات وقائية حتي يتجنب مواجهتها واتبع استراتيجية الانزواء والتخفي إلي أن تمكن من سحبها إلي المرعي الذي يقيم به وأبعدها عن قصرها وعالمها، إذ ذاك تمكن من الانتصار عليها وجعلها تعيد «شرب» الأولياء إليهم، الذين قيل إنهم تجاوزوا الأربعين.

وتلخص الأبيات المغناة التالية أزمة القصة:

«وقال له رح لفاطمة بنت بري / جمالها خلته يفتن ويغري / بنظرة أبهة في القلب تسري / وتأسر كل من شاهدها دوغري / وعمره يوهبه عشان رضاها / رجال أحوال بهرهم نور جبينها / وقعوا في الهوي عشان عيونها / وسقطوا لما سقطوا في امتحانها / ودي خصلة علي الأيام تشيلها / حرام تفضل كده علي هواها / مفيش غيرك حايتولي أدبها / يرجع عقلها ويعيد صوابها / ويبعد عن غواية الخلق بابها / ويمكن أنت في إيدك دواها».

غير أن هذا المظهر الخارجي الذي يبدو بسيطاً، إلا أنه مكتظ بالدلالات والإيماءات التي توحي بعالم ينتمي إلي تدين أقدم وشعائر أبعد غوراً لسيدة البرية التي تقيم في الأعراف بين عالم الغيب والشهادة. وقد لا يحقق جمهور الإنشاد السبب، ولكني عاينت كيف يؤخذ الجمهور ويظل حابس الأنفاس طوال جلسة الإنشاد. وليس لدون سبب ظلت قصة فاطمة بنت بري من أكثر القصص سيرورة بين القصص الإعجازي والعجائبي الذي يدور حول السيد البدوي.

ونأمل من خلال عرض هذه الصور والتمثيلات المتخيلة للشخصيات النسوية في الإبداع الشعبي أن يكون قد اتضح ما أشرنا إليه في بداية المقال من تعدد هذه الصور والتمثيلات بشكل يؤكد تركيبها وثراءها، من ناحية، كما يؤكد ضرورة عدم الاجتزاء منها بالاكتفاء بواحدة أو أخري ثم الانطلاق إلي تعميمات غير مؤسسة
 
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف