المصطلح الصوفي بقلم:د.جميل حمداوي
تاريخ النشر : 2007-07-25
المصطلح الصوفي بقلم:د.جميل حمداوي


المصطلح الصـــوفي

الدكتور جميل حمداوي

تمهيــــــد:

لايمكن الحديث عن التجربة الصوفية أو الممارسة العرفانية الذوقية إلا بتحديد المصطلحات التي تصف مايجده الصوفي السالك في حضرته اللدنية، وسفره الروحاني، ومايعيشه من مجاهدات ورياضات قلبية، وما يسلكه من مدارج على مستوى المقامات والأحوال.

ولايمكن للسالك المريد أيضا أن يسافر في تعرجاه الصوفي من أجل امتلاك حقيقة الإنسان الكامل أو الوصول إلى حقيقة القطب إلا بمعرفة المفاهيم والمصطلحات الصوفية التي قد ترشده وتهديه في سفره الوجداني وترحاله الروحاني ، والتي ستساعده بلا ريب على امتلاك قبس المعرفة الإشراقية، والسيطرة على مفاتيح الحضرة اللدنية، والقدرة على استكناه التجليات الربانية ، والارتشاف من معين الإشراق الإلهي والكشف النوراني.

ومن المعروف أن استيعاب المصطلح الصوفي وتمثله خطوة أساسية ومرحلة عملية مهمة لفهم التجربة الصوفية وتفسيرها. ولكن هذا الاصطلاح العرفاني ليس مثل غيره من الاصطلاحات العلمية والفنية المقننة بدلالات حرفية معينة ، وإنما هو اصطلاح زئبقي تتغير دلالاته المفهومية والتصورية حسب كل صوفي ومقام سلوكي وتجربة عرفانية . وبالتالي، تدخل الكتابة الصوفية والاصطلاحية ضمن عالم مجرد مغلف بالمجاز، ومسيج بنسق مكثف من الإشارات والعلامات الرمزية. كما تتخذ هذه الكتابة أبعادا سيميائية إيحائية تنزاح عن الدلالات اللغوية والمعجمية الحرفية.

هذا، وقد ظهرت عدة كتب ومعاجم خاصة بالمصطلحات الصوفية تسهل على القارىء العادي أو السالك المريد معاني الممارسة الصوفية وتغوص به في أعماقها الروحانية كشفا وتأويلا. ولقد تعددت الاصطلاحات وتجاوزت أكثر من تسعين مصطلحا صوفيا ، بل تجاوزت المائة أو الألف، ورتبت إما بطريقة ألفبائية و إما بحسب الموضوعات وإما بحسب المقامات والأحوال.

1- مفهوم المصطلح الصوفي:

المصطلح الصوفي هو عبارة عن مفهوم تصوري يعكس مضمون التجربة الذوقية الوجدانية التي يعيشها المريد السالك في رحلته الروحانية من أجل تحقيق الوصال أو اللقاء الرباني عبر محطات ثلاث، وهي: التحلية والتخلية والوصال.

وينقسم المصطلح الصوفي إلى دال ومدلول ومرجع، فالدال عبارة عن فونيمات صوتية ، أما المدلول فهو المعنى الذي تعنيه هذه الأصوات. وإذا انتقلنا إلى المرجع فهو الموضوع الحسي الذي تحيل عليه الكلمات. ولكن الكلمة الصوفية تتجاوز المعنى الظاهري الأول إلى المعنى الكنائي أو الانزياحي. فكلمة "الخمرة " في المفهوم الصوفي تتعدى الدلالة الحرفية القدحية في الخطاب الديني الفقهي التي تتمثل في السكر والخبث والرجس لتأخذ دلالة إيجابية رمزية تحيل على الصفاء والانتشاء الرباني والامتزاج الوجداني والاتحاد بين الذاتين: العاشقة والمعشوقة داخل بوتقة عرفانية واحدة.

ويقصد بالمصطلح الصوفي أيضا تلك الألفاظ التي :" جرت على ألسنة الصوفية من باب التواطؤ...". ويعني هذا أن العلاقة بين الدال والمدلول علاقة اصطلاحية تعود إلى نوع الصوفي وطبيعة الممارسة الذوقية وصنف الرحلة اللدنية الحدسية التي تنقطع فيها الوساطات وتكون العلاقة فيها مباشرة بين المتصوف وربه. ومن ثم، تصبح مصطلحات التصوف علامات سيميولوجية وإشارات رمزية دالة وموحية لايفهمها إلا السالكون المريدون والأقطاب الشيوخ والدارسون المتخصصون الذين مارسوا ومازالوا يمارسون التصوف عن قرب أو بعد.

وعليه، فهذه الألفاظ الصوفية لايمكن إدراكها عن طريق العقل أو الاستدلال أو البرهان أو عن طريق التجريد التأملي، وإنما هي مصطلحات لايمكن استيعابها أو التحقق منها إلا عن طريق الذوق والقلب والوجدان والحدس وتأويل الممارسة الروحانية وتحويل تجربتها السلوكية والعملية إلى دوال رمزية تقارب التجربة اللدنية بشكل نسبي ليس إلا. وفي هذا الصدد يقول الأستاذ حسن الشرقاوي:" إن هذه الألفاظ لاتعرف عن طريق منطق العقل والنظر بقدر ما تفهم عن طريق الذوق والكشف، ولايتأتى ذلك إلا لسالك يداوم على مخالفة الأهواء، وتجنب الآثام، والبعد عن الشهوات، وإخلاص العبادات، والسير في طريق الله (...) حتى تتكشف لهذا المريد الصادق غوامضها، وتتجلى له معانيها".

ومن هنا، فالمصطلح الصوفي له ظاهر خاص بعامة الناس، وباطن لايدرك إلا بالكشف والذوق وهو خاص بالأولياء والمريدين ولايفهمه سوى الخاصة الذين تركوا الدنيا وزهدوا في الحياة وأقبلوا على الخلوة والتفكير في الذات الربانية عشقا وانصهارا.

وللمصطلح الصوفي أبعاد ثلاثة: بعد عملي يتمثل في الممارسة السلوكية الذوقية، والبعد الوجداني الذي يتعلق بطبيعة التجربة الصوفية، والبعد النظري أو الفكري أو المعرفي الذي يقترن بالمذهب. وهذا مايؤكده الدكتورمحمد كمال إبراهيم جعفر محقق كتاب "اصطلاحات الصوفية" للقاشاني عندما أشار في مقدمة الكتاب المحقق أن للمصطلح الصوفي ثلاثة جوانب أساسية:" أولها الجانب العملي وهو الطريق، وثانيها الجانب النفسي أو الشعوري أو الوجداني أو العاطفي وهو التجربة، وثالثها الجانب النظري أو الفكري أو التعبيري وهو المذهب.".

ويعني هذا أن المصطلحات الصوفية تصف لنا بشكل بارز ثلاثة موضوعات أسياسة في مجال التصوف ألاوهي: الطريق، و التجربة، والمذهب. فالطريق يحيل على الرحلة والانتقال من عالم الحس والظاهر المادي المقترن بالدنيا إلى عالم التجريد النوراني والوصال الأخروي. في حين تشير التجربة إلى الممارسة الصوفية في شكل مجاهدات ورياضات ومقامات وأحوال. أما المذهب فيشير إلى التوجه النظري وتأسيس النسق المعرفي والنظري العرفاني الذي يتكون من المريد، والشيخ/ القطب، والدروس التي تكمن في مجموعة من المقامات والأحوال يتدرج فيها السالك حسب قدراته الاكتسابية وما يسبغ عليه الله من فيوضات أخلاقية ومواهب ربانية .

2- الكتابات في المصطلح الصوفي:

ظهرت مجموعة من الكتابات المعجمية في مجال الاصطلاح الصوفي تقوم بتفكيك المصطلحات وشرحها عرفانيا ورمزيا واستقراء دلالاتها السياقية داخل الممارسات الصوفية والتجارب الذوقية. كما ظهرت كتابات نظرية حول الاصطلاح الصوفي تحاول دراسة المصطلح دراسة نقدية وتأويلية وتفكيكية، الهدف منها دراسة منابع المصطلح الصوفي وطبيعته ومفهومه ومرجعياته ومستوياته التواصلية.

ومن المعاجم الصوفية نستحضر كتاب"اصطلاحات الصوفية" لعبد الرزاق القاشاني ،و" معجم الكلمات الصوفية" لأحمد النقشبندي الخالدي، ، و" المعجم الصوفي" للدكتورة سعاد الحكيم ، وكتاب" معجم ألفاظ الصوفية"لحسن الشرقاوي،، وكتاب" المصطلح الصوفي بين التجربة والتأويل" لمحمد المصطفى عزام ، وكتاب ماسينيون Massignon" بحث حول جذورالمعجم التقني للتصوف الإسلامي/essai sur les origines du lexique technique de la mystique musulmane" .

ويلاحظ أن هناك كتبا تفردت بالمعجم الصوفي وتخصصت فيه بشكل محدد ومستقل، وفي المقابل هناك كتب تناولت المصطلح الصوفي مع باقي المصطلحات المعرفية الأخرى التي تنتمي إلى الفلسفة واللغة والشريعة والآداب والعلوم والفنون والحرف الأخرى ككتاب "كشاف اصطلاحات الفنون" لمحمد علي التهانوي، و"المصطلح الفلسفي عند العرب" للدكتور عبد الأمير الأعسم، و"المعجم الفلسفي" لجميل صليبا...

3- منابع الكتابة الاصطلاحية الصوفية:

تعددت المصطلحات الصوفية بتعدد جوانب الحياة العرفانية التي تتمثل في الطريق والارتحال، والممارسة الوجدانية، والمذهب، والمقامات والأحوال.

فمن المصطلحات التي تنتمي إلى حقل الطريق نذكر: السفر، والرحلة، والحج، والسلوك، و السالك، والمقامات، و الأحوال، و المجاهدة، والوصول، و الواصل، و الغاية،و المعراج، والسائر...

ومن المصطلحات التي تحيل على حقل التجربة الصوفية نلفي: التجربة، والرؤيا، و الكشف، و المشاهدة، و الوارد، و النقر، و الهواجم، والهواجس....

ومن المصطلحات الدالة على حقل المذهب: الإحسان، و الإرادة، والحضرة، و الفيض، و الجذبة، و الولاية، و حقيقة الحقائق، و أمهات السماء، والشيخ، و المريد، و القطب، و الولاية، و الإنسان الكامل، والغوث، وقطب الأقطاب، الطريقة...

أما المصطلحات التي تنتمي إلى حقل المقامات فنذكر: التوبة، والورع، والزهد، والفقر، والصبر، والتوكل، والرضى.

ومن مصطلحات الأحوال نجد:التأمل، والقرب، والمحبة، والخوف، والرجاء، والشوق، والأنس، والطمأنينة، والمشاهدة، والتعين.

أما عن مصادر المصطلح الصوفي ومرجعياته الاشتقاقية والمناصية فهي عديدة تتمثل: في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وعلوم اللغة وعلوم الشريعة وعلم الكلام والفلسفة والآداب والعلوم التجريبية والعلوم الحقة.

فمن المصطلحات التي نهلها المتصوفة من القرآن الكريم نذكر: الذكر، والسر، والقلب، والتجلي، والاستمتاع، والاستقامة، والاستواء، والاصطناع، والاصطفاء، والإخلاص، والرياء، والرضى، والخلق، والعلم، والنفس المطمئنة، والسكينة، والتوبة، والدعوة، واليقين، والله، والنور، والحق...

ومن المصطلحات التي أخذت من الحديث النبوي الشريف نستحضر:الجلال، والخضر، والخوف، وأهل الذكر، والرداء، والأبدال، والأوتاد، والغوث، والنجباء، والنقباء...

ومن المفاهيم الصوفية التي استلهمت من النحو: الغياب، والحضور، والمعرفة، والاسم، والحال، والمعرفة، والرسم، والعلة، والصفة، والشاهد، والإشارة، والواحد، والجمع، والوصل والفصل...

ومن المصطلحات التي أخذت من علم الكلام كما لدى المعتزلة والأشاعرة والمرجئة والماتريدية نذكر: التوحيد، والعقل، والعدل، والعرض، والجوهر، والذات، والصورة، والتنزيه، والقديم، والثبوت، والوجود، والأزل،...

كما استفاد المعجم الصوفي من بعض المصطلحات الدخيلة منذ العصر الجاهلي كالأفلاك والأزياج والمهرجان والدستور والترياق والديوان...

ومن المصطلحات الصوفية التي تنتمي إلى المرجعية الفقهية: الصلاة والوضوء والطهارة والزكاة والحج...

ومن المصطلحات التي أخذت من المرجعية الفلسفية نذكر: العقل والنفس والحس والهيولى والعقل الأول والفيض والنفس الكلية والنظر...

ومن مصطلحات المرجعية الكيميائية نستحضر: الكيمياء، وكيمياء السعادة، وكيمياءالعوام، وكيمياء الخواص، والإكسير، والعقاقير، والتدابير...

ولا ننسى كذلك المرجعية الفلكية وألفاظ علم التنجيم ككوكب الصبح، وكون الفطور غير مشتت للشمل، واللوامع، وليلة القدر...بله عن ألفاظ الطبيعة والأدب والعروض( الأوتاد).

3- طبيعة المصطلح الصوفي:

من المعروف أن الفلاسفة يعتمدون كثيرا على النظر العقلي والاستدلال البرهاني والمنطقي ويرون أن العقل هو السبيل الوحيد للوصول إلى الحقيقة اليقينية الصادقة، أما علماء الكلام فيرون أن الجدل الافتراضي هو المسلك الوحيد للوصول إلى الحقيقة، في حين يذهب الفقهاء إلى أن ظاهر النص هو مشكاة اليقين و نواة الحقيقة الربانية. بيد أن المتصوفة هم على العكس يعتمدون على الذوق والقلب في الوصول إلى الحقيقة الربانية عن طريق الحدس والكشف العرفاني.

ومن هنا، فالمصطلح الصوفي له وجهان: وجه ظاهري سطحي يدركه عامة الناس عن طريق النص أو النظر العقلي، ووجه باطني لايدركه سوى الخاصة من علماء الباطن والسلوك الذوقي اعتمادا على العرفان والقلب والحدس. وينتج عن هذا أن للمصطلح الصوفي دلالتين: دلالة حرفية لغوية ظاهرية، ودلالة إيحائية رمزية قائمة على الانزياح والمجاز، وتستوجب هذه الدلالة الرمزية استخدام التأويل لشرح المعاني وتفكيكها.

زد على ذلك أن الصوفي يستخدم في بوحه وكشفه وكتاباته الوجدانية وتجلياته وشطحاته وكراماته مجموعة من الخطابات التعبيرية منها: الكتابة الشعرية ، و الكتابة النثرية ، والكتابة المقطعية الشذرية ، والكتابة السردية المناقبية، والكتابة الفلسفية ، وقد يختار كذلك ضمن وسائل الكتابة إما الكتابة الدينية وإما الكتابة الجدلية. كما ينوع المتصوف من أساليبه في التعبير والتصريح والكشف ، وغالبا ما يختار أسلوب التلميح والإضمار والإبهام والإغراب والغموض والإيجاز والإشارات بدلا من أسلوب الوضوح والبيان والإظهار. لذلك يجد الصوفي صعوبة كبيرة في إيصال الرسالة إلى المتلقي البسيط ، ويفشل في عملية التبليغ وتوصيل التجربة العرفانية الذوقية إلى عموم الناس بسبب عجز اللغة التواصلية التي تمتاز بالمفارقة التعبيرية الناتجة عن قلة الألفاظ وكثرة المعاني. لذلك يلتجىء المتصوف في كتابته التعبيرية إلى الانزياح اللغوي والخرق الشاعري واستخدام اللغة الرمزية المجردة والإكثار من الاشتقاق اللغوي وتوظيف طاقة التوليد وتقنية التوسع والتصرف.

4- مشاكل المصطلح الصوفي:


من المشاكل التي يثيرها المصطلح الصوفي هو تعدد المعاني الصوفية بسبب تعدد التجارب الذوقية الفردية والجماعية، واختلاف المصطلح الصوفي على المستوى الدلالي من متصوف إلى آخر تبعا لاختلاف الممارسة ومدارج المجاهدة المقامية والحالية.

ولاينتج هذا التعدد في المعنى إلا عن طريق اللفظ المشترك واستخدام التضاد والترادف والمجاز. ويعني هذا أن هناك توسعا دلاليا بدلا من التخصيص والتضييق الدلالي.أي إن الانزياح يغلب كثيرا على المصطلح الصوفي؛ مما يجعل المعجم الصوفي يعاني من التسيب والمرونة الموسعة في الاصطلاح والتأويل. كما يعود هذا المشكل إلى اللغة الإنسانية في تعبيرها عما هو وجداني وحدسي وفني فتجد نفسها قاصرة وعاجزة عن التبليغ والتعبير وتحقيق الوظيفة التواصلية. لذا يعمد المتصوف إلى استخدام لغة الرموز والإشارات والعلامات. وهذا ما يجعل الخطاب الصوفي خطابا غير منجز وغير كامل بسبب الإضمار والحذف والإيجاز والتكثيف الدلالي. وكل هذا يستوجب من الباحث الدارس أو المتلقي الواعي التسلح بتقنية التأويل والتفكيك السيميائي أواللجوء إلى القراءة الهرمونيطيقية في التفاعل مع النص العرفاني.

ومن المشاكل التي تترتب عن توسيع نطاق المصطلح الصوفي خاصية التجريد ، واختلاف المصطلح من حقل إلى آخر، وتطوره عبر مساره الدياكروني ( التطوري التاريخي) الذي ۥيحمله دلالات جديدة بسبب احتكاكه بالمؤثرات الذاتية الداخلية أو الخارجية كما هو حال الصلاة والزكاة و القلب والحس والنفس والعقل والروح...

وعلى أي، نجمل مشاكل المصطلح الصوفي في تعدد المعنى واستعمال اللفظ المشترك واختلاف التجارب الصوفية العامة والخاصة واختلاف المفهوم من صوفي إلى آخر. ويعني هذا حسب الأستاذ محمد المصطفى عزام أن" المصطلح عرف التعدد والاختلاف أيضا في صور محدودة من حيث صيغه اللفظية، ولكن في معان غير محدودة بسبب تنوع التجارب الروحية وتفاوتها، وهذا التفاوت وذاك التنوع هما اللذان يتحكمان في مضامين المعجم الصوفي، بحيث إنهما ينشئان علائق خاصة بين الدوال ومدلولاتها من جهة، وبينها وبين مصطلحات أخرى في المنظومة الاصطلاحية للسلوك الصوفي، وتلك العلائق تختلف أحيانا كثيرة عن علائق نفس الألفاظ في المعجم اللغوي أو في الحقول الدلالية لتلك الألفاظ...أما اختلاف التعاريف للمصطلح الواحد فهو بحسب الذوق( أو المشرب أو المقام أو الوقت) عند كل صوفي،هذا الذوق الذي يحكم عليه عادة من وجهة النظر العامة بأنه ذاتي(غير موضوعي)، ولكنه عند الصوفية عين"الموضوعية الروحية" التي يعتبرونها أوسع من كل موضوعية وضعية، ذلك أن كل صوفي يسلم للآخر فهمه أو ذوقه باعتبار مقامه أو وقته(حاله)،وفي ذات الوقت فإن الصوفية أكثر من غيرهم إدراكا للطبيعة المجازية والتحكمية(الاعتباطية) للغة، ذلك أن انفصال تجربتهم الروحية عن العرف العام يجعلهم يحبون انفصالا حقيقيا بين مدلول اللفظ بحسب العرف العام، ومدلوله بحسب العرف الخاص الذي يشعر به الصوفي ولايدرك منه غيره إلا المعنى العرفي العام، ومن ثم فإنهم اعتبروا اصطلاحاتهم وتعاريفها مجرد إشارات إلى معان هم أدرى بحقيقتها، وهذه الحقيقة ليست هي المصطلح المشير إليها، كما أن اللفظ اللغوي ليس هو ما يدل عليه".

ونشير في الأخير إلى أن المصطلح الصوفي مازال في حاجة إلى دراسة معمقة في أبعادها اللغوية والاشتقاقية على المستويين: الوصفي التزامني والتاريخي. وما أشد حاجتنا أيضا إلى معاجم صوفية مبسطة! معاجم مرتبة ومنظمة بدقة تصنف المادة الصوفية حسب الرحلة والسلوك والمذهب والمقامات والأحوال دون الانسياق وراء التجريد الفلسفي والتنظير الصوفي الخيالي المجنح. فلابد من التبسيط في التبويب والتدقيق في التعاريف والتكثيف في الشروح وتسهيلها بالشواهد وتدعيمها بالأمثلة المحددة بالسياقات السلوكية القريبة من التجريب الحسي ليفهمها الإنسان العادي والسالك المريد والباحث المتمرس.

خاتمـــة:

ويتبين لنا بعد هذا العرض الوجيز أن التمكن من المصطلح الصوفي مسلك ضروري وخطوة أساسية لفهم التجربة العرفانية ومعايشة الرحلة الوجدانية والاطلاع على النسق المذهبي على مستوى التنظير والتأطير والتكوين. كما أن المريد السالك لا يستطيع الوصول إلى الحقيقة المحمدية والولاية القطبية إلا عن طريق التدرج في مجموعة من المقامات والأحوال التي تستوجب من المريد أن يفهم مصطلحاتها وأن يتمثلها سلوكا وتجربة ومذهبا.

وإذا كان الفلاسفة يستخدمون العقل النظري في اكتشاف الحقيقة، فإن الصوفية يستعملون القلب في ذلك، ويعني هذا أن المصطلح الصوفي ينقسم إلى ظاهر له دلالة سطحية حرفية ، وباطن يتسم بلغة انزياحية رمزية مجردة.

ويلاحظ كذلك أن المصطلح الصوفي قد خضع لجدلية التأثر والتأثير على حد سواء؛ مما جعل لهذا الاصطلاح منابع داخلية وخارجية ومرجعيات متعددة.

بالإضافة إلى ذلك، نجد أن هذا المصطلح الصوفي قد أثار بسبب مجازيته واتساع نطاقه التجريدي مجموعة من المشاكل على مستوى التلقي والتمثل والشرح والتفسير والتأويل، و تعود هذه المشاكل الاصطلاحية في مجال التسمية الصوفية إلى اختلاف المعاني وكثرة اللفظ المشترك وتعدد الألفاظ المترادفة واختلاف التجربة الوجدانية من صوفي إلى آخر، ومن مذهب سلوكي إلى آخر، والانتقال من ممارسة خاصة إلى ممارسة عامة.

ملاحظة:

جميل حمداوي،صندوق البريد 5021 أولاد ميمون، الناظور، المغرب

[email protected]

WWW.JAMILHAMDAOUI.NET

الهوامش:

- إن عدد المصطلحات التي جمعها جابر بن حيان 90 مصطلحا، وفيها ما يفوق الثلاثين مصطلحا مزدوج التعريف،وقد أثبت الأعسم 92 مصطلحا صوفيا لجابر.انظر محمد المصطفى عزام: المصطلح الصوفي بين التجربة والتأويل، نداكوم للصحافة والطباعة،ط1،2000م،ص:178؛

- عاطف جودة نصر: شعر عمر بن الفارض، دراسة في فن الشعر الصوفي، دار الأندلس، بيروت، لبنان، ط 1982 ، ص:174؛

- حسن الشرقاوي (مقدمة) ، معجم ألفاظ الصوفية، مؤسسة مختار للنشر، القاهرة، ط الأولى،1987م،ص:7؛

- الشيخ كمال الدين عبد الرزاق القاشاني: اصطلاحات الصوفية،تحقيق: محمد كمال إبراهيم جعفر،الهيئة المصرية العامة للكتاب،1981،ص:5؛

- عبد الرزاق القاشاني: اصطلاحات الصوفية، تحقيق: محمد كمال إبراهيم جعفر، الهيئة المصرية العامة، 1981م؛

- انظر أحمد النقشبندي الخالدي: معجم الكلمات الصوفية، مطبعة الانتشار العربي، الطبعة الأولى 1997م؛

- سعاد الحكيم: المعجم الصوفي، دار ندرة، بيروت، لبنان،1981م؛

- محمد المصطفى عزام: المصطلح الصوفي بين التجربة والتأويل،مطبعة نداكوم ، الطبعة1، 1999م؛

-L.Massignon : Essai sur les origines du lexique technique de la mystique musulmane, Paris, 1968 ;

- محمد المصطفى عزام: المصطلح الصوفي بين التجربة والتأويل،مطبعة نداكوم ، الطبعة1، 1999م، ص:140-141.