الأدب المقارن بقلم:د.جميل حمداوي
تاريخ النشر : 2007-07-02
الأدب المقارن بقلم:د.جميل حمداوي


قراءة في كتاب" فضاءات الأدب المقارن" للدكتور عيسى الدودي

الدكتور جميل حمداوي

تمهيـــد:

من المعروف أن الأدب المقارن هو أدب المثاقفة ومعرفة مظاهر التأثير والتأثر بين الآداب الإنسانية العالمية ولاسيما المتجاورة منها. ويهدف هذا الأدب المقارن إلى دراسة الوقائع الأدبية و الظواهر التاريخية في بعدها الإنساني والعالمي. ومن ثم، يعمد هذا الأدب إلى تحديد المصادر وتصنيف المرجعيات والمعارف الخلفية التي تتحكم في الكتابات الفنية ولاشعور النصوص الإبداعية والأدبية.

ولا يمكن فهم الآداب العالمية إلا عبر التعريف بالأعمال الفكرية والإنتاجات الإبداعية والفنية والجمالية ومقارنة بعضها ببعض قصد تحديد السابق واللاحق ومعرفة أوجه التشابه والاختلاف والانتقال بعد المقارنة إلى الاستنتاج وتفسير المعطيات المرصودة فهما ووصفا وتوثيقا.

وقد يكون المنهج المتبنى في الأدب المقارن منهجا خارجيا كالمنهج التاريخي أو الاجتماعي أو النفسي أو منهجا داخليا كالمنهج البنيوي أو المنهج السيميائي.

ويندرج كتاب " فضاءات الأدب المقارن" الذي ألفه الباحث المغربي الدكتور عيسى الدودي في إطار الأدب المقارن التاريخي. إذا، ما هي القضايا التي يطرحها الكتاب على مستوى المضمون والأداة والمنهجية؟

أ‌- وصــف الكتاب:

صدر كتاب: " فضاءات الأدب المقارن" للباحث المغربي الدكتور عيسى الدودي عن دار النشر الجسور في طبعته الأولى سنة 2007م في 158 صفحة من الحجم الكبير. وقد ركز في كتابه على مجموعة من القضايا والظواهر الأدبية الأندلسية في إطار الأدب المقارن معتمدا في ذلك على المنهجية التاريخية في رصد إشكالية التأثير والتأثر ومعرفة المصادر وأوجه التشابه والاختلاف بين الأدب الأندلسي والأدب الأورپي.

ويضم الكتاب تسعة فصول تجمع بين الأجناس الأدبية ( القصة والمقامة والملحمة والزجل والغنائية والغزل العذري)، والظواهر الإيقاعية العروضية ( الخرجة، وعروض الشعر الدوري)، والظواهر اللغوية والمعجمية (الازدواج اللغوي).

ويستهل الكاتب مؤلفه بمقدمة يحدد فيها منهجيته في القراءة ويحصرها في الأدب المقارن الذي يعتمد لديه على التعريف وعقد المقارنات واستخلاص النتائج. كما يستند الكتاب إلى فلسفة الانفتاح والحوار والتسامح ومعرفة مسألة التأثير والتأثر بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الغربية لمعرفة التفاعل الحضاري والتلاقح الفكري.

ولم يكن الدافع إلى إصدار هذا الكتاب هو الدعوة إلى معرفة الآخر بعدما شهد العالم منذ بداية هذا القرن أحداثا مأساوية دامية ساهمت في تأجيج الصراع الحضاري والثقافي بين الشعوب الإسلامية والشعوب المسيحية، وإنما كان نشر الكتاب استجابة للعوامل الذاتية الفردية وطموحات الجماعة في ربط الصلات بين الشعوب والعمل على تقريب الهوة الفاصلة بينها حضاريا وعقائديا وثقافيا.

ب‌- مضاميــــن الكتاب:

1- قصة" حي بن يقظان: بين التأثير والتأثر":

كتب ابن طفيل هذه القصة الفلسفية في العصر الوسيط ، وهي تتحدث عن مولود يسمى حي ستقذفه أمه في اليم لكي لايفتضح زواجها السري بيقظان، فيصل الابن إلى جزيرة نائية لتربيه ظبية الغابة . وبعد ذلك، سيستكمل حي نموه العضوي والنفسي والذهني في عالم الطبيعة بين الحيوانات وتجليات الكون. وسيصل إلى معرفة الله عن طريق استخدام عقله وملكاته الحسية وتشغيل الذهن والحدس المنطقي.

وبعد تأمل المخلوقات سيتعرف حي على الخالق وصانع هذا الكون الجميل. وعندما التقى حي بصديقيه أبسال وسلامان، بذلك استطاع التعرف على خصائص الشريعة الربانية ومقومات العبادة العملية.

وتهدف هذه القصة الفلسفية في الحقيقة إلى التوفيق بين الفلسفة والشريعة أو التوفيق بين العقل والظاهر النصي.

و تأثر ابن طفيل في هذه القصة بالقرآن الكريم وخاصة قصة موسى عليه السلام،حينما وضعته أمه في التابوت رضيعا وألقت به في اليم كما أمرها بذلك ربها هروبا من جنود فرعون المتوحشين الذين كانوا يبطشون بالرضع ويقتلونهم ظلما وتجبرا في الأرض، وكذلك قصة قابيل مع أخيه هابيل في كيفية الدفن، وقصة آدم وحواء في ستر العورة بالأعشاب.

ولكن ابن طفيل في هذه القصة تأثر كثيرا بما كتبه ابن سينا في رسالته الحوارية الفلسفية تحت نفس العنوان. وتحضر في القصة كذلك تأثيرات يونانية كقصة حنين بن إسحق.

وذهب المستشرق الإسباني إميليو گارسيا گوميث بعيدا عندما أثبت أن القصة تأثرت بمخطوطة عثر عليها في مكتبة الأوسكوريال بمدريد تحت عنوان"قصة ذي القرنين وحكاية الصنم والملك وابنته"، وهي مجموعة قصص تدور حول الإسكندر الأكبر. ولكن الدكتور محمد شفيع رفض هذا الاحتمال بقوله:" إن التشابه بين القصتين واضح لا شك، لكن يبقى الحكم بالتأثير في دائرة الاحتمال ولا يرقى إلى درجة الحقيقة المتيقنة".

ويذهب مصطفى الشكعة إلى أن للسهروردي (توفي سنة 758م) رسالة صغيرة تحت عنوان" حي بن يقظان" كتبها على غرار نص ابن سينا، ولكنها أقل جودة ووضوحا من رسالة ابن سينا الفلسفية، وأقل فنا وبلاغة وتشويقا من قصة ابن طفيل.

أما على مستوى التأثير، فقد أثرت قصة ابن طفيل على قصة" النقادة" للكاتب الإسباني بالاتزاري (Balatzare )، وقصة "روبنسون كروزو"لدانييل ديفو، وقصة "عائلة روبنسون السويسرية" لجون ديفيدوس ، وقصص الأطفال كقصة " رومولوس وريموس" اللذين سترضعهما حيوانات الغابة.

وعلى مستوى السينما ، فنجد التأثير واضحا على مسلسل "طرزان" والفيلم الأمريكي" الشجاعة" ، وفيلم " جزيرة الدولفين الزرقاء" لسكوت أوديل، دون أن ننسى بعض الرسوم المتحركة كحلقات "ماوكلي"...

2- تأثير المقامة في السرد الأورپي:

من المعلوم أن فن المقامة ظهر في العصر العباسي مع بديع الزمان الهمذاني والحريري، وانتقل بعد ذلك إلى الأندلس والمغرب عن طريق مجموعة من طلبة العلم والمثقفين المهاجرين إلى ديار الغرب الإسلامي. واشتهر كثير من كتاب المقامة في الأندلس، ويبقى أبرزهم هو السرقسطي صاحب المقامات السرقسطية المعروفة باللزومية، وهي خمسون مقامة عارض فيها مقامات الحريري.

ولقد أثر فن المقامة كثيرا في الأدب البيكارسكي الأورپي أو أدب الشطار كما هو وارد في الأدب الإسباني في رواية " حياة دي لازوريو ومحنه وحظوظه" لمؤلف مجهول سنة 1555م.

وممن تأثر بالمقامة شارل سوريل Sorel Charles في قصته" تاريخ فرانسيون الحقيقي الهازل" Vrai histoire comique de Francion ، وقد نشرت بباريس سنة 1922م ، وهي أول قصة شطارية في فرنسا، ونذكر كذلك لوساج Le Sage في قصته "ڤيل بلا"، وگوتييه في قصته" موت الحب"، دون أن ننسى تأثير المقامة في الكوميديا الإلهية للكاتب الإيطالي دانتي Danti.

وربط پيير كاكيا ظهور الرواية في أورپا ضمن دراساته الأدبية المقارنة بفن المقامة. كما أعجب المستشرق الفرنسي إرنست رينان بفن المقامة التي آثرها لتنوع مواقفها على أعمال بلزاك الأدبية الرتيبة.

وفي المقابل، نجد تأثير الإبداع المسيحي على السرد العربي في الأندلس. وفي هذا يقول عبد العزيز الأهواني:" وحين نتجاوز الألفاظ إلى الأخبار والقصص سنجد في كتب التاريخ الأندلسي أمثال: "قصة البيت المقفل في طليطلة" ، وكيف أمر لنديق آخر ملوك القوط على فتحه، فكان نذيرا بدخول العرب إلى إسبانيا، وقصة بنت يوليان صاحب سبتة مع ذلك الملك وكيف غيرت التاريخ، ولكتها قصص أخذت بغير شك من التراث الشعبي المسيحي.".

3- الملحمة بين الشرق والغرب:

عرف العرب عدة ملاحم بطولية كما هو مسجل في التراث الشعري كملحمة "جالجامش" في العراق، وملحمة "المهلهل بن ربيعة"، و"ملحمة عنترة"، و"ملحمة الظاهر بيبرس"، و"ملحمة الزير سالم"... وانتقلت الملحمة إلى الأندلس فالمجتمعات الأوربية بعد ذلك. ومن ثم، اشتهرت في الأدب الأورپي ملحمتان بطوليتان خارقتان وهما: "ملحمة رولان Roland " ، و"ملحمة السيد Le Cid".

ولم تظهر الملحمة باعتبارها جنسا أدبيا شعريا مسردا في الكتابات التاريخية الغربية إلا في اليونان لوجود الصراع الميتافيزيقي العمودي والأفقي. وقد أشاد أفلاطون بالخاصية الملحمية للشعر البطولي الذي يتجاوز الخاصية القولية إلى الخاصية الفعلية، بينما تولى أرسطو التنظير للملحمة وخاصة ملحمتي هوميروس: الأوديسا والإلياذة.

ويتبين لنا من هذا الكلام الذي سلف ذكره بأن فن الملحمة إنتاج غربي محض، بدأت شرارته الأولى مع اليونانيين، وتوهج بريقه مع الرومان وخاصة مع الشاعر فرجيليوس صاحب ملحمة" الإنيادة".

وبناء على ما سبق، نفى المستشرقون الغربيون إنتاج الملحمة عند العرب نفيا قاطعا ، ومن هؤلاء: :المستشرق الهولندي دوزي والمستشرق الفرنسي رينان. لكن البحث الأركيولوجي المرفق بالدراسات النصية والتاريخية المتتابعة التي انصبت على التراث العراقي أثبت للعيان بأن الملحمة السامية "جلجامش" سبقت الملاحم الغربية منذ زمن بعيد. كما أن العرب في الجاهلية وعهد الإسلام عرفوا بالحروب والمعارك البطولية والتصدي لاعتداءات الأجانب، وكل هذا قد ساهم في ظهور أدب الملاحم كمعلقة زهير بن أبي سلمى وعنترة بن شداد وحسان بن ثابت وقيس بن مكشوح وأبي تمام والمتنبي وأبي فراس الحمداني

وظهرت عدة ملاحم في الأدب الأندلسي كملحمة تمام بن علقمة التي تصور فتح المسلمين للأندلس بطريقة بطولية وأسطورية، وأرجوزة ابن عبد ربه ،وملحمة أبي طالب عبد الجبار الذي لقب بمتنبي الغرب الذي ألف أرجوزة ملحمية تاريخية، وأرجوزة يحيى بن الحكم الملقب بالغزال وقد ذكرها المقري في كتابه "النفح الطيب"، وأزجال ابن قزمان البطولية.

وقد ورثت إسبانيا وفرنسا ملاحم عن حضارات مختلفة، فمنها مايعود إلى الحضارة اليونانية التي انصهرت فيها ملاحم الرومان، ومنها ما يعود إلى الجرمان، ومنها ما يعود لتأثيرات عربية كما أثبت ذلك الباحث الإسباني خوليان ريبيرا وخاصة ملحمة" رولان" وملحمة "السيد القمبيطور"، أي السيد البطل في الأدب الإسباني.

ومن هنا، فقد وجد الدارسون أن للملاحم العربية في الأندلس تأثيرا كبيرا على ملحمة رولان الفرنسية وملحمة Espana DEL Cid La، والشعر الفروسي في العصور الوسطى الذي تأثر كثيرا بالفروسية العربية.

4- رحلة الغنائية العربية إلى الأندلس وأوربا:

ولد الشعر العربي غنائيا وارتبط بالموسيقا والإنشاد والرقص والألحان والأنغام. وانتشى هذا الشعر الغنائي في مجالس الأمراء والوزراء والملوك وخاصة في العصر العباسي،وتداخلت الأشعار والأراجيز مع الغنائية والموسيقا الوجدانية.

هذا، وقد انتقل عدد كبير من الموسيقيين إلى الأندلس بما فيهم زرياب تلميذ إسحق الموصلي، وساهم التراث الغنائي المشرقي في ظهور الموشحات والزجل. ومن الذين نظروا للموسيقى فلاسفة الإسلام بما فيهم: الكندي والفارابي وابن سينا...

وعندما وصل زرياب إلى الأندلس أسس مدرسة أندلسية في مجال الغناء والطرب والموسيقا ساهمت في انبثاق الأغاني الشعبية والأزجال والموشحات. و غير زرياب مضرب العود وأضاف الوتر الخامس، ونقل معه النوبة أو مايسمى آنذاك بمراسيم زرياب حتى أصبحت النوبة مصطلحا أندلسيا، وإن كانت جذوره في الحقيقة مشرقية. ويعني هذا أن النوبة والدور والمرة مصطلحات موسيقية شرقية اتخذت صبغة أندلسية محلية بعد تبيئتها فنيا ووجدانيا.

وبعد سقوط الأندلس، حافظ المغاربة - كما يثبت ذلك عباس الجراري - على التراث الموسيقي الأندلسي في مجموعة من المدن كفاس وتطوان والرباط. كما حافظ عليه المجتمع الإسباني عن طريق الموريسكيين والمستعربين والمدجنين. مما كان لهذا تأثير كبير على فلامنكو الإسباني الذي يسمى بالغناء العميق. وأكد الشاعر الإسباني گارسيا لوركا مدى تأثير الموسيقا المغربية على الأغنية الإسبانية الغجرية ( فلامنكو) من خلال بصماتها الغنائية والإيقاعية الكثيرة .

ويلاحظ أيضا أن للغنائية العربية العباسية أيضا تأثيرا كبيرا على الشعر الدوري(الموشحات والزجل) الذي يتقطر تلحينا وتنغيما.

5- فلسفة الحب الأفلاطوني:

عرف اليونانيون الحب وسبغوا عليه صفة القدسية والطابع الألوهي وخاصة عند الفيلسوف المثالي أفلاطون في محاورته " المائدة " التي فلسف فيها الحب وجعل له سلما في التصنيف ومراقي عديدة في ترتيب الأنواع. وقد عرف العرب بدورهم حلاوة الحب مع الشعراء العذريين الذين إذا عشقوا ماتوا.

وعليه، فقد ربط بعض الدارسين الحب العربي العذري العفيف بالحب اليوناني الأفلاطوني كما يظهر ذلك في كتاب" الزهرة" لابن داود ، وكتاب "طوق الحمامة" لابن حزم ، بينما هناك من الدارسين والباحثين من ينفي ذلك تماما.

وقد صور الشعر الأندلسي كثيرا من التجارب العاطفية والغرامية بين الأمراء والوزراء والسلاطين والشعراء. ويعد ابن حزم فيلسوف الحب في الأندلس بكل جدارة واستحقاق، إذ فلسف الحب ضمن رؤية يتداخل فيها ما هو روحاني وماهوعقلي وماهومادي. وتحدث فلسفيا كذلك عن الانقسام النفساني مخالفا أفلاطون الذي تحدث في الحب عن الانقسام الجسمي؛ لأن الروح أهم من الجسد عند ابن حزم تآلفا و بقاء وخلودا.

وعلى أي، كانت للغنائية والحب العذري تأثير كبير في شعر التروبادور الفرنسي والإيطالي والشعر البروفنسالي. وقد ساهم الزواج المختلط بين المسلمين والإبيريين في تطعيم هذا الحب والعمل على نقل الغنائية العربية إلى الآخر الأجنبي الذي سيتعرف على الحب العربي العذري الصادق، وسينبهر بالشعر الوجداني المرتبط بالقيان والمغنيات والجواري والأسيرات. و ساهم سبي النساء من قبل المسلمين والإسپان على حد سواء في نقل معالم الحب العذري العربي الذي كان يرتكز على مجموعة من المقومات كالتذلل في الحب، والمعاناة والألم، والعفة والاحتشام، والتعرض للرسول والواشي والرقيب والحسود، والاستعداد للموت، و التشديد على السر والكتمان أثناء الدخول في كل مغامرة عاطفية.

6- ابن قزمان: المفتاح السري لأدب القرون الوسطى:

عاش ابن قزمان في القرن الخامس الهجري في أسرة كان لها حضور ثقافي وأدبي وسياسي في البيئة الأندلسية. و كان مبدعا أبيقوريا ماجنا، عاش حياته في اللذة والمتعة واقتناص لذات الحياة حتى في شهر رمضان المبارك . وهو يشبه أبا نواس في وصف الخمرة وذكر اللذات والشهوات الدنيوية.

ويعد ابن قزمان زعيم الزجالين خاصة في ديوانه المشهور" إصابة الأغراض في ذكر الأعراض" الذي وثقه الكثير من المستشرقين والدارسين العرب. وقد أشاد بشاعرية ابن قزمان الزجلية الدارسون القدماء أمثال: ابن خلدون والمقري وابن سعيد وابن الأبار وصفي الدين الحلبي... والدارسون العرب المحدثون كعبد العزيز الأهواني وإحسان عباس ومصطفى الشكعة... والمستشرقون والمستعربون كجنزبرج Gunzberg ، والمستشرق التشيكي نيكل A.R.Nykl ، وكولان Colin ، والإسباني إيميليو گارسيا كوميث، وكوريينتي، دون أن نغض الطرف عن المستشرق الروسي كراتشكوفسكي والمستشرق الإسباني أنخل گونثالث بالنثيا. أما ديوان الشاعر فقد حملته الأقدار من بلد لآخر، ومن يد لأخرى بصورة عجيبة وغريبة. وذكر علي مكي لهذا الديوان قصة طريفة نقلها عن المستشرق الروسي كراتشوفسكي تصور رحلة الديوان في المكان والزمان.

ويتبين لنا من كل هذا أن المستشرقين الغربيين هم الذين اهتموا بابن قزمان وديوانه الشعري إلى أن أفرد له عبد العزيز الأهواني قسما خاصا به في كتابه"الزجل في الأندلس". وسيتحقق للديوان الظهور في سنة 1990 م ، وأن يظفر بتحقيق من قبل الإسباني فيديريكو كوريينتي تحت عنوان" ديوان ابن قزمان القرطبي: إصابة الأعراض في ذكر الأغراض" بتقديم الدكتور محمد علي مكي، وصدر عن المجلس الأعلى للثقافة بجمهورية مصر العربية. وسيظهر لكوريينتي بعد ذلك في سنة 1989م كتاب بعنوان:" ابن قزمان: الزجال الأندلسي".

ومن مميزات شعر ابن قزمان أن زجله يعبر عن تمازج الحضارة العربة بالحضارة الأيبيرية، كما تحضر اللغة الرومانثية بشكل ملحوظ في مفرداته وعباراته الشعرية، وهذا دليل على حضور اللاتينية في شعر ابن قزمان.

كما يظهر زجله الشعري تشابه الشعر العربي والشعر الأوربي على مستوى البناء والوزن والتقفية. أما إيقاع الزجل فقد أثار اختلافات متفاوتة بين الباحثين العرب والمستشرقين، فهناك من سار به مسارا عربيا، وهناك من قاربه على ضوء العروض المقطعي اللاتيني، وهناك من دافع عن خصوصيته الأندلسية المحلية. ولابد أن ننتبه إلى أن الأزجال زاخرة بالغنائية الموسيقية المشرقية والأندلسية المحلية.

7- الخرجة الأعجمية في الشعر الدوري:

يتكون الشعر الدوري سواء أكان موشحا أم كان زجلا من القفل والدور والخرجة. وقد تكون الخرجة عربية فصيحة أو عامية شعبية أو أعجمية أو عبرية.

وقد ذهب الكثير من المستشرقين إلى أن الشعر الدوري قد تأثر بالشعر الأوربي كما يظهر ذلك واضحا في رومانثية الخرجة في الشعر الدوري التي تعج بكثير من الألفاظ الأعجمية التي كتبت بألفاظ لاتينية. وهناك من الدارسين العرب من ينكر ذلك ويدافع عن أصلها المشرقي أو أصلها الأندلسي المحلي.

ويعني هذا أن هناك تداخلا بين المجتمعين: الإسباني والعربي وتلاقحا بين اللغتين:العربية واللاتينية والعامية والرومانثية، وكل هذا جعل الشعر الدوري الأندلسي يمتزج بالبيئة العربية المحلية والمشرقية والبيئة الغربية الأيبيرية.

8- الازدواج اللغوي:

إذا كانت اللغة العربية في العصر العباسي قد عرفت الدخيل والمولد والعامي، فإنها عرفت كذلك في الأندلس نفس الدخيل العامي والأجنبي، إذ اختلطت العربية الفصحى بالعامية الشعبية واللهجة الأورپية التي كانت تسمى في ذلك الوقت بالرومانثية لوجود الألفاظ الأعجمية في هذه اللغة بكثرة. وتتجلى الرومانثية بكل وضوح في الشعر الدوري وفي لغة المستعربين والمدجنين Mozarabes/ Aljamiados. وقد ساهم هذا الازدواج اللغوي في إثراء أدب الموشحات وإغناء أدب الأزجال، ويعد ديوان ابن قزمان نموذجا لهذا المعجم الرومانثي.

ومن أمثلة هذا الازدواج اللغوي ما قاله ابن قزمان في نصوصه الشعرية:

لكلهـــم يغــل *** أذل أون

تحيل كلمة أون في هذا السطر الشعري على كلمةUno ، أي واحد في اللغة الإسپانية.

ولامثقال رطنط ما نرسل

"رطنط " كلمة رومانثية تعني في الإسبانية "دائري"، بينما كلمة" المثقال" كانت تشير في عهد الدولة المرابطية إلى العملة النقدية التي كانت تتخذ شكلا دائريا redondo.

ونكتفي بهذين المثالين للإشارة إلى مدى تأثر الشعر الدوري برومانثية اللغة الإيبرية الدالة على الامتزاج اللغوي والحضاري والثقافي بين البيئة الأندلسية ذات الخصائص الشرقية والبيئة الأوربية ذات الخصائص اللاتينية.

9- اتجاهات عروض الشعر الدوري:

ذهب كثير من الدارسين للعروض في الشعر الدوري بأن إيقاع هذا النوع من الشعر سار على نهج الإيقاع الخليلي كما نجد ذلك عند العروضيين العرب القدامى كابن بسام وصفي الدين الحلي وابن سناء الملك. ويعني هذا أن الأزجال والموشحات ذات أعاريض خليلية. بينما المستشرقون الغربيون ينكرون ذلك ويربطونه بالعروض المقطعي الأورپي كما يذهب إلى ذلك المستشرق الإسباني كورينتي Corriente . ولكن المستشرق الألماني هارتمان أوجد عدة إيقاعات عروضية للموشحات العربية مدافعا عن مرجعيتها الخليلية وأصالتها المشرقية. ومن الباحثين العرب الذين حاولوا تفكيك الشعر الدوري على ضوء العروض الخليلي نذكر: فوزي سعد عيسى، ومحمد فاخوري، وأحمد محمد عطا، ومقداد رحيم خضر، وكذلك بعض المستشرقين الغربيين مثل: گورتون Gorton، وجونز Jones ، وسشولرSchŝler وصمويل بتيري. لكن هناك من يذهب إلى أن العروض الأورپي هو الأصل كما فعل سيمونيت Simonet ، وريبيرا Rebera ، و إميليو گرسيا كوميث Emilio Garcia Gomez.

ومن الدارسين العرب الذين ربطوا الشعر الدوري بالشعر الأورپي نستحضر محمد الفاسي في مقاله المشهور" عروض الموشح"، وعباس الجراري الذي اعتبر هذا الشعر مظهرا من مظاهر التجديد في الشعر الأندلسي ، ونفى أن يكون مصدره عربيا بشكل أو بآخر. أي إن العروض العربي الخليلي له نطاق محدود في هذا النوع من الشعر الجديد.ومن جهة أخرى، نفى أن يكون الأندلسيون قد تأثروا بالمسمطات أو المخمسات أو بالموشحات العراقية، بل إن فنهم أندلسي في الصميم وهم أصحاب السبق والريادة في ذلك، كما اعترف عباس الجراري أيضا ببراعة المغاربة في شعر الملحون.

ج- تقويـــم الكتاب:

نهنئ الدكتور عيسى الدودي على هذا الكتاب القيم الذي تناول فيه كثيرا من الظواهر والقضايا التي تتعلق بالأدب الأندلسي على ضوء الأدب المقارن. وقد رأينا أن الدارس يعمد تارة إلى التعريف وتقديم المعطيات التاريخية والأدبية، وتارة أخرى يلتجئ إلى المقارنة والبحث عن العلاقات ومظاهر التشابه والاختلاف قصد الوصول إلى الاستنتاج. أي إنه يعتمد على الفهم والتفسير واستقراء الشواهد وتشغيل المصادر والمراجع في كتابه الأول هذا.

وتشهد الببليوغرافيا الطويلة في ذيل الكتاب عن وجود مادة ثقافية دسمة ومتنوعة، كما يدل حضور المراجع العربية إلى جانب المراجع الأجنبية في آخر السفر على موسوعية صاحبه و معرفته الخلفية الواسعة وميله إلى الدقة الموضوعية التي يتحراها الكاتب في مصنفه الجميل عن طريق الجمع بين المعطيات العربية والأجنبية قصد تأليف بحث أكاديمي مرموق ودسم بالمادة العلمية الموثقة التي تغني المكتبة العربية.

وعلى الرغم من ذلك، فلدي بعض الملاحظات التي تتعلق بمجال الببليوغرافيا وعملية التوثيق؛ لأن الهوامش و مواد الببليوغرافيا غير منظمة بشكل علمي صحيح، حيث نجد اسم الكاتب مذكورا بعد مصنفه، والصحيح أن ندبج فضاء الهامش باسم الكاتب وتحديد عنوان المرجع أو المصدر أو المقال، وبعد ذلك ننتقل إلى مكان الطبع وزمانه ورقم الصفحة.

ومن جهة أخرى، فقد ارتضى الكاتب تبني منهج الظواهر و القضايا في دراسته المقارنة كما أرساه الدكتور عباس الجراري في الجامعة المغربية. و تمثل الدارس أيضا في كتابه منهج الأدب المقارن في منحاه التاريخي دون أن ينسى بعض الجوانب النصية الداخلية التي تظهر بجلاء في فصل "الازدواج اللغوي". ويعني هذا أن منهجه في الدراسة تاريخي خارجي قائم على سرد المعلومات دون الاعتماد على المناهج الداخلية التطبيقية في المقارنة والدراسة. وبتعبير آخر إن منهج الباحث منهج كلاسيكي في التناول والمعالجة، لم يتجاوز الإطار التاريخي المغلف بالتعاقب الزمني والتحقيب والتفسير الاستنتاجي إلى المقاربة البنيوية الوصفية أو المقاربة السيميائية في تفكيك الإشارات الأدبية وتركيبها.

ويستند الكاتب في بعض الأحيان إلى استعراض الشواهد التي يدلي بها الدارسون العرب والمستشرقون قصد الاستدلال بها لدعم الفرضيات المطروحة دون أن يدلي الباحث بدلوه ويقدم آرائه الذاتية ليبين لنا موقفه الشخصي من القضية المعروضة متسلحا في ذلك بالأدلة العلمية والحسية والعقلية.

ويلاحظ أن للكتاب مقدمة استهلالية ذاتية، ولكن بدون خاتمة تجمع خلاصات هذه الفصول التي جمعت بين دفتي الكتاب. و أنصح الدارس بضرورة وضع الخاتمة في الطبعة الثانية للكتاب وفهرسة هوامشه وببليوغرافيته على الأسس العلمية الصحيحة في عملية الفهرسة والتوثيق.

وعلى العموم، فقد اعتمد الكاتب في دراسته المقارنة بين الأدب الأندلسي والأدب الأيبيري على قضية التأثير والتأثر على مستوى التجنيس والإيقاع والمعجم و البحث في إشكالية المصادر والوقائع التاريخية ، إلا أنه في مقارنته أغفل دراسة الصور والأساليب والرموز والبنى التركيبية للظواهر المرصودة.

خاتمـــة:

وعلى الرغم من هذه الملاحظات الموضوعية والهنات البسيطة ، فإن هذا العمل يستحق منا كل تنويه وتشجيع وتثمين ؛ لأن الكتاب إضافة نوعية في مجال الأدب المقارن في الدرس الأكاديمي المغربي الذي يمثله كل من عباس الجراري وإدريس علوش وحسن المنيعي ومحمد أنقار ومحمد السرغيني وإسماعيل العثماني....

ويتميز الكتاب بمنهجه التاريخي المقارن الذي يستند إلى الوصف والمقارنة والاستنتاج قصد معرفة أوجه الاختلاف والتآلف بين الآداب المجاورة مضمونا وشكلا.

وفي الأخير نشيد بالدكتور الشاب الباحث المغربي عيسى الدودي الذي أصبح بجديته الأكاديمية في دراسة الأدب الأندلسي علما من أعلام الأدب المقارن في المغرب بصفة خاصة والعالم العربي بصفة عامة.

ملاحظة:

جميل حمداوي، صندوق البريد 5021 أولاد ميمون، الناظور، المغرب

[email protected]

www.jamilhamdaoui.net

الهوامش:

- انظر سيزا قاسم: بناء الرواية، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت ، لبنان، ط1 ، 1985، صص:5-14؛

- عيسى الدودي: فضاءات الأدب المقارن،دار النشر الجسور، وجدة،ط1 ، 2007م؛

- محمد شفيع الدين السيد: (الخيال القصصي في التجربة الأندلسية بين المحاكاة والإبداع)، في السجل العلمي لندوة الأندلس قرون من التقلبات والعطاءات،مطبوعات مكتبة الملك عبد العزيز العامة، القسم الرابع، اللغة والأدب، الطبعة الأولى، 1996م،ص:251؛

- مصطفى الشكعة: الأدب الأندلسي، دار العلم للملايين،بيروت، لبنان، الطبعة11 ، 2005من ص:701؛

- عبد العزيز الأهواني: (اللقاء الحضاري في الأندلس)، مجلة المؤرخ العربي، بغداد، العراق، العدد5، ص