اللغة وصناعة الرضوخ - الخط الأخضر مثلاً بقلم:خالد كساب محاميد
تاريخ النشر : 2007-05-09
اللغة وصناعة الرضوخ

عن العرب الأسبوعي اللندنية

خالد كساب محاميد*

فى مقالة للكاتب تيرى كوتشران تحت عنوان "مادة اللغة" "وردت فى كتاب "الحق يخاطب القوة" من تحرير بول بوفيه" يحلل فيه نظرة سعيد لموقع اللغة فى الوعى الإنسانى واستخداماتها السياسية الايديولوجية.

يقول كوتشران: "إن الأسئلة العامة التى تشكل أساس التمعن الأدبي، أى التمعن فى الكتابة "أو بمعنى أعم التمعن فى النقوشات الكتابية الناتجة عن التدخل الإنساني"، تنتمى دائما إلى نفس النظام أو المرتبة. فهى تستقى أصولها من الصياغة اللفظية الأساسية التى تكاد تكون علمية: كيف للفرد أن يحدد معانى موضوع أو شيء ما "وفى هذه الحالة معانى نص مكتوب" قد تجاوز اللحظة الإمبريقية لنشأته؟ فقد أُنتج، وأصبح وجوده كشكل مادى يتجاوز كاتبه أو مبدعه... وتماما، كما يستعمل عالم الفيزياء تعبير "التجارب ذات المكانة المثالية" لوصف وفهم عمل ما لما أصبح يسمى "الطبيعة"، فإن المُنظّر الأدبى ينشىء نماذج منطقية كى يصور العلاقات متعددة القوى والتكافؤ بين اللغة، وتفاعلات الوعى الإنساني، والعالم.

ومع ذلك، وعلى عكس الفيزياء النظرية، فإن الاعتراف بإضفاء المثالية، أو حتى الملمح الأيديولوجى للإدراك الأدبى كموضوع للتمعن، يؤدى بالضرورة إلى أسئلة عن التدخل الخارجى : ويشمل هذا التدخل، الذى يمكن باختصار أن يسمى "سياسي"، قيودا مثل القوة والسلطة، وتنفيذ أوامر ممثل المؤسسة، أو الفرد3 .

فدعونا إذاً ننطلق للتمعن "ثانية" بمصطلح "الخط الأخضر" ونكشف كيف استقت أصولها من الصياغة اللفظية الأساسية التى تكاد تكون علمية والتى تحولت "لما أصبح يسمى الطبيعة...". هذا يعنى أننا سنبحث فيما إذا تحول مصطلح "الخط لأخضر" إلى أداة بأيدى الذين "أنشأوه" ولديهم المصلحة باستعماله لخدمة أغراضهم وأهدافهم الأيديولوجية: إقناع العالم وتمرير مقولة شعب بلا أرض لأرض بلا شعب.

فلننظر إلى عمل سعيد النظرى فى كتاب الإستشراق لادوارد سعيد. يكتب كيتشران: "أن "الاستشراق" يبرز كمعالجة بين ما هو أدبى وما هو ثقافي، وقد نتج "الاستشراق "، كعمل له أهميته التى مازالت مستمرة، عن تفكير متان فى الإمكانات التاريخية للغة وعن القوة السياسية لنشرها فى المؤسسات والإنتاج المعرفي....وكما هو الحال فى جميع المعارف، تشبك الرموز المجازية والاشخاص والافكار معها أوجها مادية ولا مادية وتقوم بحزم كل القيم والتفسير التاريخى معا. فبدون المادة، "الكتابة مثلا" تموت الفكرة فى العقل الذى أتى بها. وبدون إمكانية التفكير خارج نطاق المادة، يصبح من المستحيل تحريك إرث الماضى وجعله ذا صلة بأى حاضر".

ومن منظور المعرفة ذات الصبغة المؤسساتية أو التى تخضع للتكوينات النظامية، ينتمى الرمز المجازى "الذى يعبر عنه مصطلح مثل "الخط الأخضر"" إلى تشكيل تصويرى تندمج فيه سلاسل مركبة عديدة من المفردات المتناسجة، ووفرة من الصور وتقارير تاريخية تنظمها معا فى ترابط منطقي. وبالإضافة إلى هذا، وكما توحى تعليقات سعيد، تميل الصور المجازية إلى إن تعرف عن طريق ارتباطها برموز أخرى تكلملها، وتناقضها، ثم تصبح جزءا منها، وبهذا تزيد متاهات الدلالة والتراكيب المتلفلفة.

ومن ثم فإن قراءة وتفسير شروح هذا التكون النظامى "المؤسساتي" أو العملية التى أتت بها الصورة المجازية إلى الوجود، يتضمن فك طلاسم "كل شبكة المصالح" والتوصل إلى تفاهم مع "المجموعات التشكيلية للأفكار" المصابة، ومواجهة "القوة المتناسجة المحضة" للخطابات التى تبقى على الرمز المجازى فى مكانه.

وعلى حين أن اقتصاد الرمز المجازي، يدعم دون شك، المثل القائل إن "التاريخ يكتبه المنتصرون"، إلا أن قوته إبستيمية أكثر من كونها جسدية، ففى الرأى المغلف المتضمن فى المثل السابق، فإن التحكم فى الماضى، وتكشفه المتتابع ومعناه يتبع الإخضاع الجسدى. والفهم المجازى للتاريخ، على العكس، يضع الصراع فى قلب السيرورة الدلالية أيضا، ذلك الصراع الذى لا يمكن أن يتواجد منعزلا عن مادته الوسيطة الخاصة. والنتجة الأكثر خلافية لهذا الأسلوب لفهم الصراع بواسطة لغة ما تدور حول تأكيدات الحقيقة التاريخية . والخطاب الثقافى كما يعلق سعيد "لا يروج الحقيقة، بل تمثيلاتها".

وفى المنطق ذاته، فإن لب النقاش، هو أن اللغة، والمعرفة، وما هو اجتماعي/ سياسي، كلها عوامل لا يمكن فصلها عن بعضها، ولا تتمتع أى من تلك العناصر منفصلة حتى بأولوية نسبية كما إن بسط هذا النموذج اللغوى بطول خط زمني، يصبح التاريخ "وليس أقل أهمية منه، الإدراك البشرى المصاحب" عملية لا تنتهى من التراسب. فيقول سعيد إنه "حتى العلاقة بين مثير عصبى وما يولده من رمز مجازى ليست مهمة فى حد ذاتها.

إلا أنه حينما يولد الرمز المجازى ملايين المرات، وتتناقله الأجيال الكثير المتعاقبة، ويظهر أخيرا فى نفس المناسبة فى كل مرة للجنس البشري، ثم يكتسب لدى جميع البشر فى آخر الآمر نفس المعنى الذى كان سيحمله لو أنه كان هو الرمز المجازى الوحيد الضرورى الحتمي، وكانت العلاقة بين المثير العصبى والرمز المتولد علاقة سببية صارمة ".

وهكذا فان ترديد مصطلح "الخط الأخضر" يعنى تحويل أكذوبة جاءت لتقول أن العرب "كسالى لا يحبون العمل وجعلوا من أرضهم الخصبة صحراء" إلى حقيقة تاريخية.

وإذا اعتمدنا الإستنتاج القائل بأن الحقيقة هى جيش متحرك من الاستعارات والكنايات والتجسيدات؛ وباختصار، مجموع للعلاقات الإنسانية التى تم تكثيفها شعريا وبلاغيا، وحولت، وزينت، والتى تبدو للناس، بعد استعمالها طويلا، مثبتة، وقانونية "معترفا بها"وملزمة، فإن اللغة، وما تتعدى عليه من مفاهيم، تؤسس حقائق بشكل مؤكد.

يعلق يول دومان، فى مقال له عن التجسيد، على تعريف نيتشه للحقيقة فيقول "إن العبارات المجازية ليست صحيحة إو خاطئة، لكنها تجمع بين الصحة والخطأ. وينطوى تسميتها جيشا على معنى أن تأثيرها وفاعليتها لا يرجعان إلى التمييز العقلى بل إلى القوة. فإن ما يتصف به الجيش الجيد، بالتميز عن القضية العادلة، هو نجاحه غير المتعلق بعدالة واضحة، بل المتعلق، إلى حد كبير، بالاستعمال الاقتصادى السليم لقوته.

ورغم أن دومان يسعى إلى قراءة الرموز المجازية فى نص نيتشه ليوضح كيف أن تجسيداتها تفقدها قوة تأكيداتها، فإن تعليقاته تكشف عن القوة المزدوجة الكامنة فى اللغة. ويسير دومان إلى تلك القوة على أنها قوة "إبستمية" و"استراتيجية"، ترتبط فى ذات الوقت بإنتاج المعرفة بالحث والإقناع والتحريض على الأفعال. وبتعبير آخر فكنتاج لتكوين مؤسساتى مستمر، فإن اللغة تفرض، وتتحايل، وتقنع، لكن قوتها أكثر خبثا لأنها تكمن فى مفاهيمها، أى فى مادة الفكر نفسها. وتسبق هذه القوة، مفاهيميا، عملية التمييز والمقارنة، وتعمل باسم السطوة، مثلما لا يستطيع القاضى فعل شىء أكثر من تأكيده عدم تحيزه على هذا النحو بالذات، جاء مصطلح "الخط الأخضر" ليختزل مفاهيم تعنى "شعبا بلا ارض لأرض بلا شعب" وهو يستعمل كجيش يدفع المستعملين لهذا المصطلح اللغوى الى أن ينتجوا معرفتهم وفقا لما أراده "خالقوه" ليحث مستعمليه على اتخاذ الإجراءات التى أرادت بالتالى أن تعنى للأمريكى والأوروبى الحفاظ على هذا "الخط الأخضر" بما يعنى عدم تحقيق حق العودة وسلب الفلسطينيين حقوقهم.

أما العرب فانهم يكونون باستعمالهم لهذا المصطلح كمن يستسلمون لهذا الجيش وجنوده.

وكما حكم إدوارد سعيد بأن "اللغات الشرقية جزء من أهداف سياسية ما أو جزء من جهد إعلامى دعائى مستمر" وكيفما يقتبس سعيد إثباتات هارولد لاسْوِلْ الإعلامى القائلة "لا يهم إطلاقا ما يكونه البشر أو ما يعتقدونه، بل ما يمكن أن يُدفَعوا إلى أن يكونوه ويعتقدوه : ...فإن مهمة رجل الإعلام الدعائى هى إختراع رموز هدفيَّة تؤدى وظيفة مزدوجة هى تسهيل التبنى وتسهيل التكيّف. وينبغى أن تكون الرموز قادرة على أن تستحث القبول تلقائيا.... وينتج أن المثال الإدارى الأعلى هو السيطرة على موقف ما لا بالفرض والاكراه، بل بالكهانة" "الاستشراق 292 " وهذا ما يؤكده نعوم تشومسكى فى كتابه "طموحات إمبريالية" حيث أن "المنطقى جدا تطور صناعة العلاقات العامة فى المجتمعات الديمقراطية... التى تهدف إلى السيطرة على مواقفه وأرائه لتطوير صناعة القبول والرضوخ".

* كاتب ومحام فلسطينى من الناصرة