الطريق الى بغداد بقلم:جرير محمد
تاريخ النشر : 2007-03-10
على طول الطريق الى بغداد امتلات نفسي بشتى المشاعر والصور والافكار..وحتى الهواجس عنها .. واصبحت لهفتي.. اليها تشبه اللهفة للقاء حبيبة طال امد الانتظار بيننا..!

قد لا اكون الوحيد الذي تراوده مشاعر غريبة كلما توجه لزيارتها وبالتاكيد لست الوحيد الذي يحسها امراته وحبيبته وانه على موعد معها..؟ مرت بذهني كل ما تحتفظ به ذاكرتي من صور واشياء وقصائد وحتى اغنيات عنها.. وللحظات خلتها فصلتني عن الزمن وعزلتني عمن حولي سكنني صوت فيروز، يصدح في نفسي : بغداد والشعراء والصور.. ذهب الزمان وضوعه العطر..يا الف ليلة .. احسست اني انتقل بالزمن او ان الزمن انتقل بي الى كل عوالم بغداد وازقتها ودروبها واجوائها وغرائبها وحتى خرافاتها واساطيرها.. الساحرة:..

وشعرت برضى عجيب ، كاني سند بادها البغدادي جئتها على بساط الريح الخرافي، او انني حفيد ابنها علاء الدين جئت ابحث في دروبها عن مصباح جدي السحري، كي اسخر المارد لتحقيق اماني الفقراء العراقيين بخروج المحتلين : .. وانقذ كهرمانة من قبضة الاربعين حرامي واحفادهم الذين سرقوا بغداد اليوم بفسادهم الاداري والفكري !! ..

سحبني من الاجواء الخرافية الى ارض الواقع المر، وقوف السيارة التي تقلنا بسبب مرور الارتال العسكرية الامريكية التي لا تسمح بالاقتراب منها او تجاوزها والا سيضطرون غير اسفين على فتح النار وقتل المخالفين.

وفي داخل السيارة دار لغط بين الركاب الذين بدى واضحا القلق على وجوههم وهم يروون حوادث تعرض لها كثيرون في الطريق بسبب الارتال العسكرية واسراب السيارات السوداء المريبة التابعة لقوات الاحتلال التي تمر في الطريق..

بدا( سائق المركبة ) بالتحرك بسرعة حذرة ، وشفاه الركاب تتمتم بادعية وايات قرانية لتحفظهم مع الصلاة على محمد وال محمد..

نقاط تفتيش موزعة على طول الطريق تحاول الامساك بامن منفلت !

اسئلة امنية وتفتيش واطلاع على الهويات الشخصية وبعد الاطمئنان ننطلق بعبارة: الله وياكم..

مفاجئات الطريق متوقعة وسائق المركبة ماهر خاصة بالطرق البديلة التي اضطرننا اللجوء اليها بسبب انقطاع في الطرق الرئيسة لوجود اما سيارة مفخخة او عبوة ناسفة او قطع الطرق عن مدينة ما.. تمهيدا لاقتحامها مثلا! .. مشينا بين البساتين وفي طرق وعرة وغير سالكة احيانا واشارات المارة من ابناء القرى تدلنا على الطرق المختصرة .. وشعور بالمغامرة ينتابني !

عاد اللغط بين الركاب تناول هذه المرة نقاشات حول المستجدات السياسة والازمات ، والحال الذي وصلنا اليه ، والمعاناة والمرارة واللاجدوى التي يعيشها المواطن، والكلام عن هذا الوزير، وذاك النائب وذلك السياسي وذاك الحرامي ..!

ولم يخلو الحديث من النكات السياسية الساخرة واللاذعة وشر البلية ما يضحك !

نجح سائق المركبة بالوصول الى مشارف بغداد ، لكنه اختار مضطرا مكانا له خلف طوابير هائلة لمختلف السيارات بانتظار دخول بغداد؛ تعطلنا مجددا ، ودار اللغط ، وهذه المرة عن الزحامات واسبابها والطرق المسدودة والجسور المقطوعة والمنطقة الخضراء واجتماعات الجمعية الوطنية التي زادت طين الازدحامات بلة.!

وسط كل هذا هالني ما رايته من اكداس الزبالة المتنوعة ، التي تضم حتى مخلفات عسكرية ، ازبال على مد النظر .. واوساخ مترامية الاطراف .

اعتصرني الالم واحسست بغصةعراقية. طال الانتظار .. السيارات طوابير لا تنتهي: .. والطرق معطلة ..

احد المنتظرين اطلق وصفاالمني .. حين قال : هذه هي بغداد (مشلولة) !

كرهت التشبيه .. مثلما كرهت عنوانا اصطلح عليه البعض في وصف تاريخ 9 | 4 انه يوم سقوط بغداد. وانا عندي بغداد لا تسقط وهي اسمى واكبر من ان تسقط!..دخلنا بغداد.. احسست برهبة تشبه تجليات الصوفيين! . تيقظت حواسي ، وعيوني تتفحص كل ما ترصد .. شوارع بغداد تعج بالزحام، انتشار امني واسع ، طرق مسدودة .. جسور مقطوعة .. دوران في حلقة مفرغة ! .. ابنية محترقة .. خراب اسلاك شائكة حواجز كونكريتية تكلف الدولة الاف الدولارات دبابات تجول وطائرات تحلق ..

رغم ذلك لا زالت بغداد تحتفظ بسحر خالد ، واثار جمال قديم شعرت انها قادرة على ان تبتلع كل شيء ،حتى لو كان احتلالا .. تبقى تشمخ بنخلها وهي تحمل كرامة مجروحة :. لكنها تمضي باصرار عجيب على تجديدحياتها وخلاياها وتنجح دائما باذهال زوارها وادهاشهم .

هكذا هي بغداد تدفع زائريها بسؤال يقفز فجاة .. كيف يستطيع الناس فيها مواصلة الحياة ؟ .. وماذا يفعل الفقير ؟ .. وربما تزداد الاجابة غموضا وتعقيدا حين يدوي انفجار كبير في تلك اللحظة .. ولا تسال عن اعداد الضحايامن الابرياء ..البغداديون لا يقلون صفاء وطيبة عن بغداد .. رغم قسوة كل شيء فهم دائما يدخرون في قلوبهم محبة فائضة .. ، وعلى السنتهم نكتة حاضرة . استقلينا تاكسي من شارع السعدون لنذهب الى منطقة الكرادة لنتجول في شارعها الشهير ، المسافة قصيرة ، لكن الوصول صعب ! .. ففي بغداد تقف السيارات اكثر مما تسير ، والازدحام لا يحتمل ! .. بدا سائق التاكسي وبلهجته البغدادية الجميلة يروي صعوبات الطريق اليومية ومشاكل الزحام ، لاعنا الاحتلال والساعة السوداء التي جاءت به الى العراق .. وبطريقة البغداديين النادرة في التهكم والسخرية تناول تصريحات السياسيين والمسؤولين والوعود التي يطلقونها واخر حصيلة لعدد الحزاب والتجمعات والحركات السياسية الموجودة في البلد . وحين اثرته بقولي : هم يدعون بانهم مناضلون..!!.. صاح البغدادي :(عمي نحن المناضلين ) افراد الشعب العراقي ، نحن من ناضلنا وتحملنا واسرنا وتعذبنا واستشهدنا .. واجهنا الحروب وعشنا الحصار واكلنا ما لا ياكله البشر :.. ونحن الان من يواجه الموت والاحتلال ولا زلنا نناضل . اسواق بغداد هي الاخرى تناضل في جبهة اقتصاد مربك ومحير، وظروف مفاجئة ومتقلبة .. الناس يتبضغون ، والبضائع لا ترقى الى مستوى الجودة ! جاء الليل فجاة .. كانه غير متوقع . ونكهة الليل ببغداد اليوم ليست كالامس :.. ليل وجل حزين يكسوه القلق ، لكن ابو نؤاس لم يبرح شارعه وما زال يتسكع رغم منع التجوال وهو يتغنى ببغداد ثملا بحبها .. وشهرزاد لا زالت حاضرة تكمل سرد الف ليلة وليلة..