في وداع شيخ القانونيين العرب وأول أمين عام لمجلس وزراء الداخلية العرب الدكتور أكرم نشأت إبراهيم
بقلم: د. أكرم عبدالرزاق المشهداني
على امتداد تأريخ العراق الحافل بالعطاء برزت شخصيات متميزة في مختلف المعارف والعلوم والفكر والثقافة والدبلوماسية، تركت بصمات واضحة، رفعت إسم العراق خفاقا وعالياً، ومن بين هؤلاء، فقيد العراق الذي غادرنا مؤخراً إلى دار البقاء، الأستاذ الدكتور أكرم نشأت إبراهيم، لقد عايشت الدكتور أكرم نشأت على مدى 40 عاما منذ 1966، فوجدت فيه شخصية معطاءة، خلوقة قوية مؤثرة، يتسم بالتواضع والألفة والأدب الجم، والجدية والحرص والقدرة الرائعة في التخطيط، مخلص متفان في عمله، وهذه الصفات أهلته لشغل مواقع عربية متميزة منها رئاسته لإدارة الشؤون الاجتماعية بالجامعة العربية 1974، ثم منصب الأمين العام المساعد لمنظمة العمل العربية 1980، بعدها أنتخب أمينا عاما لمجلس وزراء الداخلية العرب لثلاث دورات متتالية وبالإجماع العربي لغاية 1992، إستطاع خلالها أن يرسم معالم وأسس خطوات العمل الأمني العربي المشترك، ويؤسس للإستراتيجية الأمنية العربية، والإستراتيجية العربية لمكافحة المخدرات. وأشاد وزراء الداخلية العرب، وقادة الشرطة والأمن في البلاد العربية، وغيرهم، بكفاءة الدكتور أكرم نشأت الفائقة في تسيير إدارة المجلس حيث كان لحضوره الفاعل وشخصيته الفذة أثر في نجاح الاجتماعات الأمنية العربية في نطاق المجلس. ولعل من المفارقات أن أكرم نشأت كان قد تخرج من الكلية العسكرية العراقية عام 1939 (الدفعة 17 التي لقبت بدورة الانقلابات!) التي ضمت كثيراً من الضباط المعروفين فيما بعد بالضباط الأحرار، ومنهم (الأخوين عارف والبكر والمهداوي وطاهر والعارف والأخوين رفعت ومدحت الحاج سري وغيرهم..) وكان الدكتور أكرم معجبا بحزم وانضباط وشخصية آمر فصيله الملازم عبدالكريم قاسم. وبسبب دوره في انتفاضة مايو (مايس) 1941 أحيل أكرم على التقاعد وهو مازال برتبة ملازم أول. وكما يقول المثل (رُبَّ ضارة نافعة!) فقد اتجه أكرم نشأت إلي دراسة الحقوق وتخرج منها عام 1951 وعمل في المحاماة، كما عمل في الصحافة وترأس تحرير جريدة (الحصون) التي تعرضت عدة مرات للغلق بسبب مواقفها الوطنية، وسافر إلى القاهرة وحصل علي الماجستير بالحقوق من جامعتها 1954 وباشر التدريس في كليتي الحقوق والشرطة العراقية عام 1955، كما كان يدرّس مادة (تشريعات وجرائم النشر الصحفي) علي طلبة قسم الصحافة بجامعة بغداد، ثم عاد أكرم الي جامعة القاهرة وحصل منها علي الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولي 1965 ولهذا منحه الرئيس الراحل جمال عبدالناصر جائزة عيد العلم، وكان زميل دفعته بالكلية العسكرية الرئيس عبدالرحمن عارف حاضرا الحفل بالقاهرة، وعندما نودي علي اسمه تقدم الدكتور أكرم الي المنصة وصافح الرئيس عبدالناصر الذي سلمه شهادة الدكتوراه وجائزة العلم، كما صافحه الرئيس عبدالرحمن عارف، وحالما رفع يده بالتحية منصرفا، سمع الرئيس عارف يقول لعبدالناصر: (انه كان ضابطا في الجيش العراقي ومن دفعتي).. فابتسم الرئيس عبدالناصر وأرمقه بنظرة ودًّ.
عاد الدكتور أكرم الي الوطن ليصبح الأستاذ الأقدم لكلية الشرطة العراقية، وكان له الدور الأكبر في وضع وصياغة قانون جديد متطور للكلية 1966 يتمثل في تدريس مواد الحقوق والشرطة معا ويمنح خريجيها شهادتي الحقوق والشرطة أسوة بالنظام المتبع في مصر. وتم تطبيق النظام على مدى 3 سنوات (رغم أنه لقي معارضة شديدة واضراب طلبة الحقوق في الجامعة حينها)، الى أن تم إلغاؤه عام 1969.
كما أن الأستاذ أكرم هو الذي أسس (جمعية الحقوقيين العراقيين) وانتخب رئيسا لها عام 1972... كما يعتز الدكتور أكرم نشأت بأنه أسس عام 1970 صرحا علميا وطنيا هو (المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية) في العراق وعيّن مديراً عاماً له حتي عام 1974.
إن نقطة الفخر في مسيرة حياة الأستاذ أكرم هو نجاحه الباهر في قيادة مجلس وزراء الداخلية العرب وجعله المؤسسة العربية الأكثر استقرارا وديمومة في النشاط (رغم مشكلات ومآسي العمل العربي المشترك) وما زال المجلس مدينا للدكتور أكرم نشأت الذي إستطاع بحذاقته وخبراته وقدراته أن يحافظ علي مسيرة المجلس، وأن يجنبه الكثير من الأزمات والمشكلات التي كادت تعصف به بسبب الخلافات الرسمية العربية، منها مشكلة الانقسام العربي حول الحرب العراقية ــ الإيرانية، و مأساة الغزو العراقي للكويت، ولكن الدكتور أكرم حافظ علي ديمومة وفاعلية المجلس بفضل حسن إدارته وكياسته، ولم تتلكأ دوراته بسبب كل تلك الأزمات، واستطاع أن يكون عنصر تهدئة لأجواء العمل الأمني العربي.
وفي كتاب مذكراته الذي صدر العام الماضي بعنوان ((مذكراتي: إسهامات في خدمة المجتمع العراقي والعربي خلال ستة عقود مشحونة بالأحداث)) وهي تضم في ثناياها سِفْراً من العطاء الثر المتواصل، تطرق الدكتور أكرم إلي بعض من المواقف والأزمات التي نجح في تجاوزها بفضل حكمته وخبرته، فلقد بلغ عدد المؤتمرات والاجتماعات التي ادارها الدكتور اكرم بمنتهي الكفاءة او حضرها كباحث اكثر من 306 مؤتمر وندوة واجتماع. وحين انتهت مهمته في مجلس وزراء الداخلية العرب 1993 عاد الي العراق ليعاود نشاطه العلمي في المجالات القانونية والشرطية والإجتماعية حيث يدرس في كلية حقوق جامعة النهرين والمعهد القضائي والمعهد العالي لضباط الشرطة وله مشاركات علمية وبحثية كبيرة.
من جملة المواقف التي لاينساها الدكتور أكرم ونشرها في مذكراته، لقاء جمعه مع خريج دفعته الرئيس (احمد حسن البكر) حين كان الأخير رئيسا للجمهورية، إذ قال البكر مخاطبا الدكتور أكرم (إنْتَ طِلَعِتْ أشْطَرْ مِنْ عِدْنا كُلنا) فأجابه أكرم (ولكنك الآن رئيس جمهورية وأنا مجرد مدير عام) فأجابه البكر (صحيح أنا رئيس جمهورية الآن، ولكن أنت أستاذ ودكتور في كل وقت ومكان).
صدرت للدكتور أكرم (11 مؤلفا قانونيا) بعضها طبع لأكثر من 7 طبعات، كما ان لديه أكثر من 50 بحثا متخصصا منشورا داخل العراق وخارجه، ولديه حوالي 300 مقالة منشورة في مختلف المطبوعات القانونية والأمنية والاجتماعية، إضافة لرئاسته تحرير عدد من المطبوعات القانونية والاجتماعية والشرطية وعضويته هيئات تحرير عدد أكبر منها. كما اشرف وناقش أكثر من 85 رسالة دكتوراه وماجستير ودبلوم عالي في مختلف الشؤون القانونية والاجتماعية والإعلامية والشرطية داخل الجامعات في العراق وخارجه. ومن الجدير بالذكر أن (بيت الحكمة) خص الدكتور أكرم نشأت بجائزة الدراسات الاجتماعية تقديرا لجهوده ومساهماته المتميزة في إغناء الثقافة العربية، كما أصدر كتابا خاصا عن سيرته. كما نال الأستاذ أكرم جائزة تقديرية عام 1997 لمناسبة الاحتفال باليوبيل الفضي لمؤتمرات قادة الشرطة العرب التي انطلقت من مدينة العين بدولة الإمارات العربية المتحدة عام 1972 تثمينا وتقديرا لعطاءه ودوره في تعزيز العمل العربي المشترك.
ولقد حملت إلينا الأخبار من العاصمة الأردنية عمان رحيل الأستاذ الدكتور أكرم نشأت إلى جوار ربه، بعد رحلة حافلة بالعطاء، حقا إن الأستاذ الفقيد هو شخصية نادرة، متميزة، حافلة، ذو تأريخ علمي مشهود، وأعتقد أن من حق العراق أن يفخر به وبإنجازاته وإبداعه وقدراته الفذة. إذ تخرجت علي يديه دفعات بالآلاف من الطلبة في مختلف كليات الحقوق بالعراق. رحم الله أستاذنا الفاضل الراحل الدكتور أكرم نشأت إبراهيم.
في وداع شيخ القانويين العرب وأول أمين عام لمجلس وزراء الداخلية العرب بقلم: د أكرم نشأت إبراهيم
تاريخ النشر : 2007-03-03