حسين علي الهنداوي
محاور الدراسة الأدبية
دراسة الأدب من الداخل والخارج
مدخل
لا يخامر الإنسان أدنى شك أن الأدب جزء من الإنسان استفرغ فيه منذ الأزل قضاياه ، وهمومه ، وآلامه ، وآماله . لكي نطلع على هذه القضايا وتلك الهموم ، ونعرف اتجاهات الأديب في استيعابها و افتراض الحلول لها لا بد لنا من فهم هذا الأدب و شرحه وتحليله و تقويمه و تقييمه .
لقد كان الأدب في فترة من الفترات مختلطا ً بالفلسفة والدين و الأسطورة والخرافة ، ولكنه مع مرور الزمن أنفصل وكون الأدباء لأنفسهم اتجاهات مستقلة وأصبح للأديب فكره وفلسفته الخاصة في الحياة والفن .
إن فهمنا للأدب لا بد أن يسلك طريقا ً نستطيع من خلاله إدراك ماهية هذا الأدب وتذوق عناصر الجمال فيه والاستفادة مما يطرحه هذا الأدب من آراء وحلول لمشاكل الحياة .
وفي دراستنا للأدب لا بد من الإفادة من نظرات الدارسين العرب والأجانب وطرق شرحهم وتحليلهم للنصوص ومن ثم إصدار الحكم عليها ويعتبر ( رينيه ويليك ) و ( أوستن وارين ) في مؤلفهما (نظرية الأدب ) أن للأدب جانبين يمكن لنا من خلالهما دراسته ((الاتجاه الداخلي – الاتجاه الخارجي )).
لقد كان الاتجاه السائد سابقا ً يعرض هذا الأدب بشكل بسيط ، ويحكم عليه من خلال مناهج وأسس جمالية تتناسب مع تطور العلوم الإنسانية في العصور التي درس فيها هذا الأدب وباعتبار أن الأزمنة والأفكار والعلوم تتطور فلا بد من البحث عن مناهج ، ومقاييس مختلفة تتناسب وهذا التطور . لقد ساهم التطور الكمي والكيفي لمناهج العلوم الحديثة في انهيار النظريات الشعرية القديمة وأنزلق الاهتمام إلى التركيز على الذوق الفردي للقارئ لأن الأدب لا يعتمد على أساس عقلاني ثابت .
أن المناهج القديمة في علم اللغة والبلاغة والعروض يجب أن تراجع ويعاد تقريرها في مصطلحات نقدية حديثة فالعرب بلوروا نظريتهم الشعرية كما حددها الجرجاني من خلال ثلاثة عناصر الأولى تكوينية وتشمل (( شرف المعنى وصحته وجزالة اللفظ واستقامته )) والثانية جمالية وتشمل (( الإصابة في الوصف والمقاربة في التشبيه )) والثالثة إنتاجية وتشمل (( غزارة البديهة ، والفرادة )) وهي لا تختلف عن عناصر عمود الشعر عند كاسيوس لونجينوس مستشار زنوبيا في مقالته السمو حيث تنصب المادة الرئيسية عنده على مناقشة مصادر السمو البلاغي التالية (( القدرة على خلق الأفكار العظيمة – العاطفة المتأججة حسن استخدام المؤثرات والمجازات الأسلوبية والبلاغة – اختيار الكلمات ودقة الألفاظ وجمال اللغة – المقدرة الإنشائية الرفيعة )) .وقد ظهرت حديثا ً نظرات جديدة في دراسة الأدب و خاصة بعد تطور فنون القول ، وانتشار الرواية والمسرح والمقالة وأصبح ينظر إلى الأدب من خلال مقاييس جديدة تأخذ مناهجها من مختلف الأفكار الإنسانية .
ففي أوربا ظهرت نظرات جديدة لدراسة الأدب منها :
- منهج شرح النصوص الفرنسي .
- التحليل الشكلي القائم على التوازي مع تاريخ الفنون في ألمانيا.
- الحركة الألمعية للشكليين الروس وأتباعهم التشيك والبولنديين.على أنه لا يمكن لنا في دراسة الأدب أن نلغي الآراء السابقة ويفترض فينا الاستفادة منها وتسخيرها في فهم واقع الأدب حديثه وقديمه.
ويتوخى من دارس النص أن ينظر فيه إلى العناصر الجمالية وإلى فلسفة الأثر التي تحدد مفهومات الواقع والفكر والفلسفة الحياتية وإلى فلسفة صاحب الأثر . ومكانته بين أقرانه من المبدعين ويفترض أن تذيب الدراسة الأدبية الفن بالأدب لأن النقد عملية إبداعية تكشف آفاقا جديدة غايتها ((الشرح والتعليل والتقويم )) فالشاعر والناثر يمران بمرحلتين من الإبداع (( التطلع إلى الحياة وترجمة هذا التطلع )) بينما يمر الناقد بثلاث مراحل (( التطلع إلى الحياة – التطلع إلى نفسية صاحب الأثر التطلع إلى العمل الفني )) .
تعريف الأدب
إن أي تفسير لأي نشاط إنساني أدبي محكوم في صحة نتائجه بمدى قربه من النفس الإنسانية أو بعده عنها،وبمدى تمثله للحقيقة و تصويرها بشكل واقعي دقيق ، و بتعبيره عن مختلف جوانبها الحياتية .
((و الأدب أي أدب يعكس علاقة بين الإنسان و عالمه ذلك أن العمل المنتج هو الجوهر الأساسي لهذا الإنسان و هو حقيقته و مصدر ثقافته الفنية و الفكرية . و العمل بحكم طبيعته يخلق علاقات إنتاج تعكس حقائق اجتماعية تتبدى في الفن و الأدب (1) )). لقد ولد الفن من العمل و تطور الجميل من النافع حيث بدأ الفن وجوده عندما صار العمل إنسانيا تصاحبه المعاناة الجمالية (2).و الأدب كما يقول مندور (( مجموعة من المؤلفات التي تملك الإثارة الفكرية و العاطفية (3) )) و يضيف مندور قائلا (( و الواقع أن هذا المفهوم التقليدي للأدب لم يتبلور عند العرب قط في تحديد فلسفي لهذا اللفظ … حتى إذا ابتدأت نهضتنا المعاصرة استقر الرأي على تعريف سطحي ضيق للأدب على أنه الشعر و النثر الفني ثم الأخذ من كل علم بطرف و مع ذلك فهذا التعريف لا يحدد أصولا للأدب و لا أهدافا إلا أن تكون الصنعة بينما يرى الغربيون أن الأدب يشمل (( كافة الآثار اللغوية التي تثير فينا بفضل خصائص صياغتها انفعالات عاطفية أو أحساسات جمالية )). ثم يضيف مندور قائلا ًً: (( الأدب صياغة فنية لتجربة بشرية ولا تعني التجربة الشخصية أن يكون الأديب قد عاشها )) .
(( ومما لا شك فيه أنه ليس كل ما يكتب في اللغة تستطيع تسميته أدبا ً لأنه يدخل في علوم أرى كالتاريخ والفلسفة …إلخ (4 ) )).
وما يمكن أن نلاحظه أن العلوم الأخرى قد أفادت من الصيغ الأدبية في عرض مادتها كي تستطيع الدخول إلى أعماق النفس الإنسانية (( بينما لا يمكن إغفال حقيقة أن الأدب هو كل عمل – تجربة – يكتب لعرض الحقيقة عرضاً جماليا ً بأسلوب فني جميل يعتمد على بلاغة و فصاحة وبيان مقصود )).
ويضيف الدكتور محمد غنيمي هلال قائلا ً(( أما الأدب فكثير ما اختلف الباحثون في تعريفه وطال جدالهم فيه ولكن مهما يكن بينهم من خلاف فهم لا يمارون في توافر عنصرين في كل ما يصح أن نطلق عليه أدبا ً، هما: الفكرة وقالبها الفني، أو المادة والصيغة التي تصاغ فيها(5) )).
وهذان العنصران يتمثلان في جميع صور الإنتاج الأدبي سواء أكان تصويرا ًلإحساسات الشاعر أو خلجان نفسه تجاه عظمة الكون وما فيه من جمال وأسرار الإنسانية وآمالها أم كان تعبيرا" عن أفكار الكاتب في الأنساب والمجتمع...(6))).
ويقول الناقد الروسي بيلنسكي في معرض الحديث عن فن الكلمة والكتابة والأدب (( إن الكتابة والأدب هما من فن الكلمة كالنوع من الجنس (7) )). ذاك أن فن الكلمة مفهوم أعم وأشمل من المفهومين (( الأدب و الكتابة )). ويشير بيلنسكي إلى أن (( الأدب هو التراث الشعبي المنطوق الذي تطور تاريخيا ً وعكس الوعي الشعبي (8) )).
(( وهو التعبير الأسمى عن فكر الشعب المتجلي في الكلمة)).
(( ذلك أن أي شعب يعيش بوعيه الذي ليس سوى أحد الجوانب الكثيرة للروح الإنساني الكلي الواعي ذاته (9) )).
(( ولكي يكون الأدب بالنسبة لشعب ما تعبيرا ًعن وعيه وحياته الفكرية يجب على هذا الأدب أن بكون على صلة وثيقة بتاريخ هذا الشعب وأن يفسره ويتطور تطوراً عضوياً وبدون هذا الشرط لا يمكن القول بوجود أدب عند هذا الشعب مهما كان عدد الكتب التي تصدر بلغته لأن الكتب والكتاب والقراء وحدهم لا يصنعون أدباً, ما يصنع الأدب هو روح الشعب المتجلي في تاريخه (10) )).
ولقد تطور معنى كلمة أدب عند العرب منذ أيام ما قبل المهلهل وحنى يومنا هذا, ففي الجاهلية كانت تعني هذه الكلمة الدعوة للطعام قال طرفة بن العبد:
نحن في المشاة ندعو الجفلى لا ترى الأدب فينا ينتقر
وفي لسان العرب: بعير أديب ومؤدب: إذا ريض وذلل.
قال مزاحم العقيلي:
وهن يصرفن النوى بين عالج ونجوان تصريف الأديب المذلل
وقد افترض المستشرق / نالينو / أن كلمة أدب استخدمت في الجاهلية بمعنى السنة وسيرة الآباء.
أما في العصر الإسلامي فقد استخدمت كلمة أدب بمعنى خلقي تهذيبي فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( أدبني ربي فأحسن تأديبي )).
وفي حديث ابن مسعود: (( إن القرآن مأدبه الله في الأرض (11) )).
وبالمعنى الخلقي التهذيبي قال الشاعر المخضرم سهل بن حنظلة الغنوي:
لا يمنع الناس مني ما أردت ولا أعطيهم ما أرادوا حسن ذا أدبا
أما في العصر الأموي فقد استعملت كلمة المؤدب بمعنى تعليمي فالمؤدبون هم الذين يعملون أبناء الخلفاء الأخلاق والثقافة والشعر والخطابة وأخبار العرب وأنسابهم وأيامهم الجاهلية والإسلام.
وفي العصر العباسي استعملت كلمة أدب بمعنييها التهذيبي والتعليمي فقد سمى ابن المقفع رسالتين له تحملان حكماً ونصائح وسياسة ب / الأدب الصغير – الأدب الكبير /.
وبالمعنى نفسه أفراد أبو تمام في كتاب الحماسة بابا فيه مختارات من طرائف الشعر سماه باب الأدب وكذلك باب الأدب في الجامع الصحيح للإمام البخاري ت 256ه وكتاب الأدب لابن المعتز ت 296 ه.
وقد كان القرنان الثاني والثالث الهجريان مرتعاً لكتب الأدب التي تحوي فصولاً وأبواباً من الأخبار والشعر واللغة والبلاغة والنقد والحديث والقرآن ككتاب البيان والتبيين للجاحظ والكامل للمبرد وعيون الأخبار لابن قتيبة.... وأصبح معنى كلمة الأدب هو الأخذ من كل علم بطرف وقد شمل معناها المعارف الدينية وغير الدينية التي ترقى بالإنسان من جانبيه الاجتماعي والثقافي.
ومن الطريف أن إخوان الصفا قد صنفوا تحت كلمة أدب جميع علوم اللغة والبيان والتاريخ والأخبار والسحر والكيمياء والحساب والمعاملات والتجارات.
ولم يخرج ابن خلدون ت 808 ه.في تعريفه للأدب عن سابقيه من حيث كونه الأخذ من كل علم بطرف وبناء على ما سبق يمكن القول إن الأدب هو فكر الأمة الموروث والذي يعبر عنه الشاعر أو الكاتب بلغة ذات مستوى فني رفيع تنقل بشفافية موروث الأمة الاجتماعي والسياسي والفكري والاقتصادي والإنساني والحضاري ومن خلال ذلك نستطيع اعتبار الموروث منذ أيام الملك الضليل إلى يومنا هذا بجميع جوانبه الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
الاتجاه الخارجي في دراسة الأدب
ويظم هذا الاتجاه مجموعة مالأدب.ج:
1-المنهج النفسي في دراسة الأدب .
2-المنهج الاجتماعي في دراسة الأدب.
3-المنهج اللساني في دراسة الأدب.
وسنفعل المنهج الأخلاقي والمنهج الأسطوري لا لأنهما لا يصلحان لدراسة الأدب ولكن لاندراجهما ضمن المناهج السابقة بشكل أو بأخر على أنه ينبغي لنا ألا ننسى أن دراسة أي نص لا بد من أن تتضافر فيه آراء المناهج السابقة مجتمعة لأن الكاتب عندما يورث لنا نصه فإنما يصدر هذا النص عن إنسان له مكوناته ومفهوماته النفسية والاجتماعية ويستعمل اللغة نفسها في شرح مفهوماته وتعليلها.
المنهج النفسي في دراسة الأدب
(( سيكولوجيا الأدب ))
تعد العلاقة شديدة الاتصال بين الأدب وعلم النفس . وحسب الأدب أن يكون واضعه ومتلقيه ومحرره إنساناً حتى يغري دارسه بدراسته.
ويقدم علم النفس المفاتيح السحرية لدراس الأدب تجربة وإبداعاً وتحليلاً ولقد استخدم المنهج النفسي في دراسة الأدب منذ القديم ومع أنه بقي غير كاف في توضيح جميع جوانب الأدب إلا أنه يبقى مفيداً في الكشف عن غوامض وخبايا العمل وصاحبه .
يقول الدكتور محمد مندور في كتابه (( في الأدب والنقد ))ص 188:
((أما علاقة الأدب بالفرد فتدور حول الحاجات الإنسانية التي يمكن أن يشبعها كفن جميل وكأداة للتعبير عند الفرد . وأهم مبحث هو تحليل حاسة الجمال عند البشر والبحث عن أصولها وأهدافها المختلفة والتمييز بين مفارقاتها فهناك الشيء الجميل أو اللطيف أو الجليل ومن حيث أن الأدب تعبير جمالي نفسي فعلى علم الجمال الأدبي أن يقف عند (( نظرية انتقال المشاعر )) كأن يحب الشاعر مثلاً كلب معشوقته من أجلها)). والشعراء العرب كثيراً ما كانوا يحبون ديار محبوباتهم لأنها تمثل هذه المحبوبة.
وما حبّ الديار شغفن قلبي ولكن حبّ من سكن الديارا
وما وصف الأطلال عند شعراء الجاهلية إلاّ بشخصيات نوعاً من هذه النظرة (( انتقال المشاعر )) وإذا كان من اللزام على الدارس أن ينبش الكنوز المختبئة في بواطن الأدب فإن من المفيد له أن يمعن النظر في عملية الإبداع وفي المبدع نفسه والقوانين النفسية المتحكّمة بشخصيات العمل الأدبي وبالأدب نفسه وسنفصّل القول في هذه القضايا.ففي دراسة عملية الإبداع وآليتها يمكن لنا أن نشير إلى نظرية الإلهام عند أفلاطون الذي يعتبر أن المقدرة الإبداعية عند الأديب هي (( الحماسة أو الحب )) –إيروس –ويرى أن مصدر هذا الإلهام هو الوحي الإلهي حيث تدفع (( ربات الشعر )) موضوعات الشاعر له وعلى هذا فإنه يمكن للآلهة أن تنزع العقل عن الشعراء وتستخدمهم كهاناً أو سحرة ملهمين .
وتقوم عمليّة الإلهام عنده على تذكرّ الإنسان لما رآه من صور وماهيّات في عالم المثل الذي كانت تحيا فيه النفس ومن ثمّ تقليد هذه الصور في عالم المحسوسات مما يجعل الشاعر يحسّ بالجزع والحزن الذي يعقبه شعور بالحماسة يدفع الشعر على شكل أغانٍ.وأكثر الشعراء مدانون بأشعارهم الجميلة للحماسة ولنوع من الغييبوبة لا للفن وهم يشبهون على حد قول أفلاطون كهّان الآلهة (( سيبلي )) الذين لا يرقصون إِلا إِذا خرجوا عن شعورهم وهذه الحالة تشبه حالة الوجد والشوق عند بعض فرق الصوفية في بلادنا والتي ترقص إِذا هي أتحدث بالغيب وتجاوزت الوجود وقد اتبع أصحاب المذهب الرومانسي طريق أفلاطون وترسّم خطاه وصبغوه بلون من التصّوف فعند ((فكتورهيغو)) الشاعر ساحر يسمع ويردّد ما يتلقاه من عالم الغيب بينما يرى ((شيلي))
أن الشاعر ينقل للناس رسالة من عند الله .
لقد كانت نظرة الرومانسيين الأوروبيين للإِلهام تلتقي مع نظرتهم للطبيعة فكلامها هبة من الله .
ويعتبر الإمام أبو حامد الغزالي أن الإلهام كالضوء من سراج الغيب يقع على قلب صافٍ لطيفٍ فارغ .
بينما يرى محي الدين بن عربي أن الإلهَام ظاهرة ممكنة الحدوث لأيّ إنسان بشروطٍ هي :
- إيمان هذا الإنسان بقدرة القوة الخارقة /الله / .
- كون الإنسان صافي الذهن .
- استعداده لإدراك لطائف المعرفة .
ولكنه أي (( ابن عربيّ )) كأفلاطون يرى أن الإلهام فيض يتلقاه الإنسان من خارج الذّات .
ويعد ابن سينا الإلهام حدساً أو إِشراقاً يتحصل في النفس فتدرك الموجودات والمعقولات بما تستفيد ه من العقل الفعال وقد يكون الإلهام رؤيا بينما يكون الحدس متفاوتاً بين الناس ولا يمكن التوصل للعقل الفعال إِلا بالاتصال بالله و ملائكته وقد أعتبر ابن سينا الإلهام طريقة لتحصيل المعرفة من العقل الفعّال وترى الاتجاهات الحديثة وعلى رأسها ((ووردزوورث )) أن الشعر تعبير عن انفعال مستعاد بهدوء تظهر فيه غريزة إِظهار النفس ((حبّ الظهور )) وهذه الغريزة الاجتماعية ناجمة عن الرغبة في التعاطف ،والتلذذ بإِنشاء شيء جديد الشاعر كالطفل ينشئ لينفّسَ عن وجدانه الزائد . وهو أي الإلهام تألق وانجذب عند ((دي لاكروا )) و (( فيليكس )) بينما يرى (( ديكارت وبرغسون و اوستن وارين )) أن الإلهام عملية تأمّل لا شعوري ينتهي بالحدس .
ويبدو أن الفنان كما تزعم (( أديت ستويل )) يحتفظ روحياً ونفسياً برؤياه كما يحتفظ الطفل بمباهج الكون حين تبدو له. وهو كنبي الله موسى عليه السلام يرى الإِله من خلال العلّيقة المحترقة ويرى (( لامب )) أن الفنان يحلم في اليقظة بينما يرى ((بول فاليري)) أن الملهم تستلب إِرادته فتنهال عليه الأفكار .وإِذا تجاوزنا ((لامب )) إلى ((بودلير )) نجد أن مبدأ الشعر عنده يعتمد على الطموح الإنساني إلى جمالٍ سامٍ يكمن بالحماسة وانخطاف الروح وهو أي الإلهام عند ((بالدوين )) إِشراق ذهني يأتي مما وراء الطبيعة وهذا يخالف ما قاله ((ادغار آلن بو )) من أن عملية الإلهام موجهة من الشعور ويرى (( فرويد )) أن الإلهام حالة اللاشعور – التسامي – بينما يعتبر تلميذه يونغ ان مصدر هذا الإلهام الإسقاط في اللاشعور الجمعي الذي تكوَّن ضمن بيئة معينة وتلقى مفاهيم مختلفة . لقد تحدث أرسطو عن التطهير الذي تحدثه المأساة فينا وأشار إلى الإلهام، ولكن يبقى أن نقول إِن الإلهام عملية معقدة لم يستطع الأدباء والشعراء ولا علماء النفس أن يجدوا لها التفسير النهائي وستبقى الآراء متضاربة ومختلفة حول ماهية الإلهام .فهو كالروح سر من أسرار الوجود يشع ولا نرى مصدر إشعاعه ويتحدث ولا تبصر فمه ويسري في عروقنا ولا نلمسه بأيدينا .
إِن التفسير الخرافي الذي تبنّاه شعراء العرب سابقاً يجعلنا نؤكد أن عملية الإلهام عملية معقدة وهذا ما جعلهم ينسبون الشعر لشياطينهم حتى أنهم جعلوا بعض هذه الشياطين ذكوراً وبعضها إناثاً (( ولي صاحب من بني الشيصبان / فطوراً أقول وطوراً هو )) وقد بقيت التفسيرات الأدبية لمصدر الإلهام غامضة حتى جاء فرويد وتبنى نظرية جديدة في تفسير عملية الإلهام وما يميز نظرية فرويد هذه عن غيرها أن فرويد زعم أن أفعالنا تحفزها قوى نفسية لا نعرف الكثير عنها وأن هذه القوى الغامضة لا نستطيع التحكم بها إذ أنَّ مركز الثقل في الحياة النفسية الإنسانية هو اللاشعور ولا يمكن لنا أن نعرف هذا ((اللاشعور )) إلا من خلال تأثيره اللاحق في حياتنا وبعد فوات الأوان فالعمليات الواعية تكون واعية لفترة قصيرة ترتد بعدها إلى دائرة / اللاوعي / وهذا / اللاوعي / عالم محوط بالأسرار العميقة ويميز فرويد بين نوعين من / اللاوعي / نوع يمكن تحويله بسهولة وبشروط إنسانية إلى وعي ونوع يستحيل تحويله إلى وعي إلاّ بمعجزة كبيرة .
وقد أفسخ فرويد مجالاً للواقع الجنسي في اللاوعي الإنساني وهذا ما أخذ ّ عليه وقد رفض ذلك تلميذاه (( يونغ وإدلر )) .
هذا وقد قسم فرويد المناطق النفسية إلى منطقة ال/ هو / وهي مركز الثقل في حياتنا النفسية وخزّان الدافع الجنسي ومنبع الطاقات الحيوية فينا يحكم هذه المنطقة مبدأ اللذة وإِشباع الغريزة وهذه المنطقة تعادي وتكره المنطق ولا تعرف القيم الاجتماعية ولا الضوابط الخلقية تنطوي على دوافع متناقصة يمكن لها أن تتجاوز دون مشكلة غايتها إِرضاء الغرائز وهي مدمرّة في نهاية المطاف لا تهتم بسلامة الذات والآخرين .
ومنطقة ال (أنا ) وتعتبر النظم الأول لطاقات ال(هو) والرقيب عليها تنظم الدوافع على نحو يسمح به الواقع ويرضى به المجتمع حيث تجنّب الذات النهاية المدمرة فما يسمح به الواقع يلبى وما لا يسمح به يدفع إلى أعماق ال (هو) فإذا كان عسيراً تحول إلى /عقد / ويعتبر الجزء الكبير من منطقة الأناغير واعٍ ويسمى الجزء الواعي منه/ العقل الواعي / .
ويسند على الأنا دور الوسيط بين ((اللاوعي )) و(( العالم الخارجي ))وبين الرغبات غير المحدودة التي تقّرها الظروف والشروط الواقعية . ومنطقة الأنا الأعلى وهي المنظم الثاني لمنطقة ال((هو )) والحارس المتيقظ عليها خزان الأخلاق والمروءة والضمير الجزء الكبير منه غير واعٍ وهي قوة هامة يستنجد بها المجتمع لحماية نفسه ن النزوات والرغبات والغرائز المدمرّة والتي لا يستطيع ال (( أنا )) وحدة تدبيرها أو كبحها أو لجمها يمارس عمله من خلال ال (( أنا )) أو مباشرة يقف أمام اندفاع اللاوعي عندما لا يقره المجتمع وينمو من خلال تربية الأسرة والمربين وهو محكوم بمبدأ الأخلاق ومبدأ الثواب والعقاب، فإذا كان نشيطاً أدى إلى الإحساس بالذنب .
هذا التقسيم الذي تبناه فرويد لاقى أستحساناً من قبل الأدباء و دارسي الأدب و ساهم بشكل كبير في فهم عملية الإبداع ورغم أن فرويد حيى بأنه مكتشف اللاوعي في الاحتفال بعيد ميلاه السبعين إِلا انه أشار إلى أن الشعراء والفلاسفة هم مكتشفو اللاوعي وما كشفه فرويد هو المنهج العلمي لدراسة اللاوعي إِن علم النفس يقول/رينيه ويليك/ و/ أوستن وارين / في كتابهما (نظرية الأدب ) ساهم في الكشف عن عملية الإبداع , وفي نبش خبايا نفس المبدع وفي الكشف عن غوامض العمل الأدبي (2) .
وفي دراسة نفسية الكاتب يبدو أن العبقرية لدى الكاتب / الشاعر / كانت تقرن بالجنون عند الإغريق وتنسب إلى شياطين الشعر في وادي عبقر عند العرب وأصبحت حديثاً تؤوّل بالمدى الممتد من العصاب إلى الذهان فالشاعر رجل مجذوب عند البعض والموهبة تعويض عن نقص عند الكاتب على مبدأ كل ذي عاهة جبار فقد كان أبو حيان التوحيدي أعور وابن سيدة اللغوي الأندلسي أعمى وكذلك بشار بن برد وأبو العلاء المعري وربيعة الرقي وطه حسين وعبد الله البردوني وكان بيتهوفن أصم وكتيس قصيراً وبروست عصابياً وبايرون أعرج وبوب أحدب ، فالكاتب عند فرويد عصابي عنيد يصون نفسه بوساطة العمل الأدبي من الانفجار وتثير نظرية الفن كعصاب التي تبناها الكثير من المفكرين مسألة علاقة المخيلة بالاعتقاد ، فالروائي يشبه الطفل الحالم الذي يحكي لنا الحكايات فيخلط عالم الواقع بتخيل من عالم آلامه وآماله ومخاوفه ويرى أليوت أن الفنان أكثر بدائية كما هو أكثر تمدناً من معاصرية وباعتبار أنّ الكاتب عضو في مجتمعه فهو أكثر الناس تمكناً في التعبير عن أحاسيسه رغم أنه ليس أكثر الناس إِحساساً ، ويوفرّ الكتَّاب والشعراء المادة الخصبة للمحلل النفسي لأن شخصيات أعمالهم تمثل أنموذجاً يمكن دراسته والحكم عليه إِن / أوستن وارين / يعتبر الشاعر حالم يقظة يحظى بقبول المجتمع وبدلاً من أن يغير شخصيته ينمي خيالاته وينشرها (3) .
يقول فرويد ((الفنان في الأصل رجل تحول عن الواقع لأنه لم يستطع أن يتلائم مع مطلب نبذ الإشباع الغريزي فأطلق الفنان كامل رغباته الغرامية ومطامحه الذاتية في حياة الخيال ثم وجد طريقاً للعودة من عالم الخيال إلى عالم الواقع وهو يصوغ نوعاً آخر من الواقع / العمل الأدبي / )) .
إِن الأديب إِنسان شفّاف مشرق الروح والفكر تتميز أعصابه بحساسية دقيقة تكتشف الواقع بكل أبعاده ومعانيه وتتحسس الصعوبات التي تتوضع في حياة الآخرين سواء أكانت فكرية أم اجتماعية أم فلسفية وهو في الوقت نفسه يعشق الجمال والكمال المطلق بفطرته التي وهبها الله له وباعتبار أن الصراع قائم بين ما هو واقع / فعل _ فكر غير مرضي / وبين طموح الانسان لبلوغ الكمال المطلق فإن الأديب يرسم لنا صورة هذا الصراع ويفترض الحلول المشرقة لصورة الواقع المشّوهة. فصورة المرآة في الواقع أقل مكانة من صورتها في الأدب وكذلك صورة المعلم / كاد المعلم أن يكون رسولا / إذاً لا يقبل الواقع على ما هو عليه لأن شكل الكمال المطلق الموجود خياله وفكره .
وتدعونا دراسة نفسية الكاتب إلى الكشف عن القوانين النفسية التي تحكم الشخصيات التي يرسمها هؤلاء الكتاب في أعمالهم ذلك أن الإنسان هو محور الأدب وهذا ما يدعونا في قراءتنا لأي نص أن نجد نموذجاً لإنسان ما يحملنا على التفكير في الأسباب التي دعت هذا الأنموذج من الناس إلى التصرف على هذه الشاكلة أو تلك ./ فدون كيشوت سير فانتس / قتل مجموعة من الأغنام وتصورها أعداء له ولما اكتشف أنها أغنام وليست بشر قال : الحمد لله الذي مسخ أعدائي أغناماً وكذلك فعل الشاعر العربي (( الراعي النميري)) المصاب بلوثة في تفكيره مع كلب وظاناً أنه لص .وأوديب تزوج أمه وقتل أباه وشهريار كان مولعاً بالزواج والقتل يتزوج كل ليلة أمرأة ويقتلها في الصباح وشخصيات قصائد نزار قباني من النساء لأن مأساة أخته وصال بقيت ماثلة أمام عينيه .
وكثيراً ما يعكس الكاتب دوافعه النفسية على لسان شخصياته أو كثيراً ما تندفع الشخصيات بالحديث المختبئ في عمق وجدان الكاتب ذلك أن الكاتب عضو في مجتمع يستمد منه أفكاره وتؤثر فيه معطياته .
إن شخصيات قصة / أرزاق يا دنيا أرزاق / للكاتب السعودي علوي طه الصافي هي شخصيات من صميم المجتمع تحكمها دوافع نفسية راسبة في أعماق لا وعيهم فأعظم شخصية في هذه القصة تحكمها آلام القهر والصمت والفقر وأكثر ما يبعث التناقض في حياة هذه الشخصية أن المغنّي يجمع الملايين بينما الملايين لا يجدون إلا أوراق الشجر طعاماً لهم ، وكذلك شخصية الزوج السكير في قصة / شمس صغيرة / لزكريا تامر فهو حالم يقظه يتصور الخروف جنياً يمكن أن يقدم جدار من الذهب التي وعده إياها ويمكن له بذلك أن يحل مشكلة الفقر التي تسيطر عليه وتسير حياته ، أنه رجل تحكمه ال (هو ) بما فيها من رغبات وغرائز .
وبناءً على ذلك يمكننا أن نجمل القول بأن علم النفس دخل في صميم الأدب وأصبح مسباراً فعالاً يساهم في الكشف عن جوانب العمل الأدبي وفي نبش ذات الكاتب وتوضيح اتجاهاته وهو ضرورة هامة من ضرورات الأدب .
المنهج الاجتماعي في دراسة الأدب
يستمد الأدب جانبه الاجتماعي من كونه مؤسسة اجتماعية أداته اللغة التي هي نفسها من خلق المجتمع (1) .
فالأدب ينبثق من المجتمع ويكتب له ذلك أنه يمثل الحياة تمثيلاً حقيقياً والحياة هي الحقيقية الاجتماعية التي يمكن لنا أستيارها من خلال الفكر و الأدب .
لقد كان الأدب العربي شعراً ونثرا يمثل الحياة الاجتماعية العربية أصدق تمثيل في جميع جوانبها فقد رسم لنا الأدب الجاهلي العادات والصور الاجتماعية بشكل واضح حتى أنه يمكن القول إننا لم نتعرف على صور المجتمع العربي الجاهلي إلا من شعره والمتصفح لدواوين الشعراء الجاهليين يجد قيماً وأنماطاً من السلوك تتحدث عن الشجاعة والبطولة والكرم ونصرة المظلوم وحماية المرآة والثأر والانتقام وغيرها . مما جعلهم يقولون بحق (الشعر ديوان العرب ) وهذا ينقض ما زعمه الدكتور طه حسين في كتابه ( في الشعر الجاهلي ) من أن الشعر الجاهلي لا يمثل الحياة الجاهلية . وكذلك كان الأدب الإسلامي والعباسي وأدب عصر الدول المتتابعة مع تطور في الموضوعات والأغراض والمضامين . لقد كان الشاعر العربي بصفته عضواً في مجتمعه منغمساً في وضعه الاجتماعي ويتلقى فيه نوعاً من الاعتراف ، لأنه يخاطب جمهور القبيلة .وفي المجتمع البدائي لا يمكن فصل الشعر عن اللهو والسحر والشعائر .
لقد كان للشعر الجاهلي كما يقول الدكتور عبد المجيد رزاقط (( بعض نشاط الإنسان الجاهلي في مواجهة الحياة ، فهو مرتبط بالدين والعمل والعلاقة بالآخر والمحيط ، ولعل ارتباطه بالدين والعمل هو الذي جعله نوعاً من الفناء فهو إنشاد وحداء وليس نظماً أو قولاً )) .
ويضيف الدكتور عبد المجيد قائلاً : (( لقد كان السائد لدى الشعراء الجاهليين أن الشعر يصدر عن وحي أو عن إلهام شياطين تسكن وادي عبقر ومما قيل في هذا الصدد قول أحدهم :
وقافية عجت بليل روية تلقيت من جو السماء نزولها
وقول الآخر :
ولي صاحب من بني الشيصبان فطوراً أقول وطوراً هوه
ومن ذلك ما يقول امرؤ القيس :
تخبرني الجن أشعارها فما شئت من شعرهن اصطفيت
أما عبد الله بن رواحة فقد كان يرى في الشعر أنه شيء يختلح في صدره فينطق به لسانه.
هذه النظرة إلى مصدر الإلهام الشعري – ايحاءات شياطين رغم سذاجتها تدل على مفاهيم اجتماعية زرعها المجتمع في فكر الشاعر فهي من صنع المجتمع وتعبر عن خليقته الثقافية القائمة على التفسيرات الغيبية الخيالية المسطحة ، إن الماركسيين رغم اعتمادهم على المحسوس والواقع في نظراتهم الفكرية إلا أنهم لا يدرسون الأدب وصلاته في المجتمع من خلال الواقع وما يفرزه من الراهن وفي مجتمع المستقبل الخالي من الطبقات كما يتخيلونه ونقدم للأدب نقد تقويمي تقييمي قائم على معايير غير أدبية بل معاييرهم إيديولوجية خلقية وهم بذلك لا يتصلون بالمجتمع المعاصر لهم بل بالمجتمع القائم في أفكارهم سواء تحقق أم لم يتحقق واقعياً .
إن الأعمال الأدبية تمدنا بالوثائق الاجتماعية والأديب في هذه الأعمال ينقل لنا الحقيقة ضمن إطارها التاريخي الاجتماعي يقول دي بونالد (( الأدب تعبير عن المجتمع )) فهو يعكس الحياة بجميع صورها ويعبر عنها من جميع جوانبها والأصول الاجتماعية للأديب تمارس دوراً رئيسياً في المسائل التي يثيرها سواء أكان في مركزه الاجتماعي /كخادم للبلاط / أو في فراغه الاجتماعي حين يكون ممثلاً لصورة المجتمع التي ترتسم في أعماقه من خلال ممارساته وعلاقاته البسيطة والمعقدة . إن ولاء الأديب وعقيدته تمثلان المجتمع بأشكاله .سواء أكان ولاؤه حقيقياً ودفاعاً عن قضايا اجتماعية أو كان صورياً مدافعاً قيه عن البلاط دافناً لنظرته الحقيقية للوجه الآخر للمجتمع .
إن جميع الأدباء على الإطلاق يستمدون تجاربهم من المجتمع متأثرين به وفي الوقت نفسه يفرغون هذه التجارب في المجتمع ويؤثرون فيه لأنهم يعيدون صنع هذه الصورة الاجتماعية بالشكل والوجه الذي يرغبون .
ويعتقد / توماس وارثون / أول مؤرخ حقيقي للشعر الإنجليزي (( أن الأدب فضيلة تخصه وهي التسجيل المخلص لسمات العصر والحفاظ على أفضل تمثيل للأخلاق و أفضل تعبير عنها )) لقد كان الأدب العربي رصيداً حقيقياً للحياة الاجتماعية العربية بكل أبعادها و أشكالها
إِن الأدب كما يقول محمود أمين . العالم ليس ألا موقفاً أجماعياً يحمل في طياته مضموناً ما ويعتبر العالم (( أن الثورة في الأدب هي تنمية الرؤية الموضوعية للواقع الإنساني وتوكيد لقيم الحرية والمساواة وإعلان إنسانية الإنسان وتنمية طاقاته المبدعة للمشاركة في تغيير الحياة وتجديدها )) إننا كما يقول عباس السعدي (( نفهم إجتماعية مضمون الأدب انطلاقاً من اقتناعنا باجتماعية الأديب )) . (( إن الأدب إبداع ذاتي فردي ، ولكن ذاتيته لا تنفي اجتماعيته )) .
ولطالما وقع البرجوازيين في مغالطة حين دعوا إلى / لا اجتماعية / للأدب زاعمين أن ذلك يلغي فردية الأديب مع أن الأدب البرجوازي هو أدب اجتماعي بمعنى من المعاني لأنه يكرس سيطرة طبقة على حساب طبقات أخرى .
إن صراع السلبي مع الإيجابي في الأدب هو صراع اجتماعي بين المرفوض والمقبول وهو مضمون اجتماعي يسعى الأديب إلى إبرازه وهذا لا يعني وضع الأدب ضمن خطوط مسيسة تلزم الخطوط الواضحة لصراع الحياة فالأدب لا يؤدي دوره الاجتماعي إلا حين يعكس بصدق الحياة في صلاتها وعلاقاتها الجوهرية ذلك أن الالتزام نفسه في الأدب ينبثق من الرؤية الاجتماعية والتاريخية .
إن أية نظرة متفحصة للأدب بجميع أشكاله وقوالبه تعزز انتمائية هذا الأدب للمجتمع الذي عاش فيه بحيث لا تخرج هذه النظرة الأدبية عن القضايا التي عاشها الأديب وتأثر بها ، وإن فهم الأديب المتعمق للحياة هو نوع من الادراك الحقيقي لقوانين الحياة والمجتمع.
إن واقعية الأدب وإجتماعيته تأتي من خلال انخراط الشاعر أو الكاتب في قضايا أمته الاجتماعية ولو أدى به ذلك إلى الصدام مع المفاهيم الاجتماعية فالأدب كما يقول نزار قباني : (( عملية صدامية .... عملية استشهاد على الورق والشعر هو الناس هو الشارع)) ثم يضيف قائلاً : (( القصيدة ليست مجرد عملية تطريب أو تخدير يسمعها الإنسان العربي في أمسيته ثم يعود إلى حالته الأولى .... ووظيفة الشعر أن يحرض الإنسان على نفسه ولا شعر حقيقي دون تحريض )) (2).
(( لقد كانت المرآة كطرف اجتماعي عند نزار كما يقول (( المرآة أرض خصبة ووسيلة من وسائل التطوير والتحرير وأنا أربط قضيتها بقضية التحرير الاجتماعي للرجل والمرآة على السواء)) (4) .
بينما يرى أدونيس أن (( مدى حركة الشاعر العربي محدوداً جداً . محدود بالسطح الاجتماعي وبالسطح السياسي )) لأنه يعتقد أن (( الشعر نقيض للواقع المؤسس المجمد المباشر المبتذل المكرر الذي لا يساعد في الكشف عن حقيقة العالم أو عن أسرار الحياة الإنسانية )) (5) .
والناظر إلى صفحات المجلات والجرائد كما يقول إدونيس (( يرى في معظمها دماء المثقفين تسيل من كل جهة أي أنك لن تجد فيها سوى الاهاجي والشتائم والنقد الجارح والتشويه بمختلف أنواعه )) . وهذا يعني أن الأدباء والمثقفين بعيدون كل البعد عن المفرزات الاجتماعية العربية التي هي لب القضية الأدبية التي تستمد منها المعاناة والتجربة. إن أي أدب لا ينتمي إلى معطيات مجتمعه محكوم عليه بالفشل سلفاً لأن مادة الأديب هي المجتمع منه يغرف وفيه يصب وحتى عند من ينظرون إلى الأدب نظرة حداثية نجد كما يقول الدكتور غالي شكري أن (( النخبة تختار جزيرة مهجورة حتى تتجنب شر القتال )) .
وأي أدب يتجنب شر الصدام والقتال الاجتماعي ليس إلا أطرأ وهمية بل هو هذر كلام لا طائل تحته لأن الأدب روحه المجتمع . وما تزال الفجوة كبيرة وخطيرة بين الحداثيات العربية والقاعدة العريضة من القراء الذين لم يعودوا يجدون المضامين الاجتماعية التي تتحدث عن قضاياهم العامة والخاصة)) (7).
إن الحداثة الحقيقية كما يراها غالي شكري (( ثورة في المجتمع والفكر والفن )). وليس المبدع فيها إلا : (( إنساناً ثورياً لأنه يدرك أن الحداثة تجربة ورؤيا متناقصان مع الذوق السائد والوجدان السائد والعقلية السائدة ويدرك أن الفكر ينفصل عن الجمال )) (8) .
إن مقولة منتغمري بلجيون : (( الكاتب داعية غير مسؤول)) (9) . غير صحيحة لأنه حقيقة داعية مسؤول عما يقوله فهو يستمد من المجتمع حيث يقوم برفض أو تصويب أو تجديد قضايا تعيش واقع الإنسان فتبني الكاتب لرأي ما أو نظرية ما إنما يكون من خلال قناعات قائمة على أسس عميقة يفهمها هذا الكاتب حق فهمها ويوضحها لقرائه من خلال شفافية أدبية واعية ولا يحكم على مسؤولية الكاتب كما يقول أليوت إلا من ((خلال النية المعلنة والتأثير التاريخي لهذه النية المعلنة)) (10) .
إن الأدب كما يقول مندور (( ضرورة حياتية تشبع في حياة الناس حاجات ملحة لا تقل خطورة عن الحاجات المادية)) (11). ولذا كان من واجبات الأديب أن يساهم في تنظيم الإنتاج العام وتنمية وتحقيق العدالة )) .
لقد احتدم الصراع بين فردية الأدب واجتماعيته عند البعض وبين وظيفته الجمالية والحياتية ، وهل الأدب هروب وحياد أم هل هو رأي والتزام تجاه القضايا الاجتماعية ؟ لقد قاد هذا الصراع أصحاب الشعر الغنائي للنظر إلى الفن على أنه المعبر عن النفس البشرية وما حديث الأديب عن العالم الخارجي والطبيعة إلا لأنه ينعكس ويتلون بألوان ومع أما نسلم أن أحد جوانب الأدب التعبير عن النفس البشرية فإننا نرى أن هذه النفس نفسها تحفل بالموضوعات الاجتماعية .
المنهج اللساني في دراسة الأدب
المطلّع على تاريخ الأمم السابقة يجد أمه حافل بالدراسات اللسانية كما يقول الباحث اللساني الإنكليزي / روبنز / فقد أسترعت الظاهرة اللغوية (( صوتاً وتركيباً ودلالة )) انتباه الإنسان ، فالحضارة الهندية بحثت في مجال الصوتيات اللغوية منذ أربعة آلاف سنة على يد / بانيني / واليونان استفادوا من بحوث الإغريق اللغوية التي قدمها أفلاطون وأرسطو والمدرسة الرواقية ولا سيما في المجال الدلالي البلاغي . والصينيون واليابانيون ساهموا في هذه الدراسات على يد اللساني / هياكاوا / في كتابه اللسانيات الشرقية والعرب ساهموا في التحويل الكبير في مسيرة لتراث اللغوي العالمي بما خلّفوه من تراث لغوي يضم :
- كتب النحو والشروح التي تناولته (( نحويّات )) .
- كتب التجويد وفق قراءة القرآن (( صوتيات )) .
- كتب البلاغة (( دلاليات )) .
- كتب الفلسفة والمنطق .
- كتب التفاسير القرآنية والنبوية .
- كتب دواوين العرب الشعرية والنثرية وشروحها .
- كتب الموسوعات المعرفيّة / الجاحظ – ابن حزم / .
- كتب المعاجم واللغة .
- كتب التاريخ .
وقد حفل التراث اللغوي العربي بركامٍ معرفيٍ تناثر في تاريخ الحضارة العربية .
ذلك أن العرب القدماء أرادوا تفسير الظاهرة اللغوية كما فسروا الظواهر الإنسانية والطبيعية خدمة للنص القرآني . ومما يسترعي الانتباه حديثاً أن التطور قد شمل بحوث اللسانيات الحديثة تهتم بالأصوات اللغوية والتراكيب النحوية ، والدلالات والمعاني اللغوية ، وعلاقة اللغات البشرية بالعالم الفيزيائي من خلال دراسة عملية تستخدم المقاييس التالية ومن خلال ملاحظة الظواهر اللغوية والتجريبية ( الاستقراء المستمر ) ، وبناء نظريات لسانية كلية وضبط هذه النظريات ومن ثم ضبط الظواهر اللغوية واستعمال النماذج والعلائق الرياضية .
وللسانيات فروع متعددة كل منها يختص بناحية جزئية :
فاللسانيات النظرية : تبحث في النظريات اللغوية الحاضرة والماضية من خلال (( الصوتيات الفيزيولوجية النطقية و الصوتيات الفيزيائية و الصوتيات السمعية الدماغية)) والنحويات أو علم التراكيب المتضمن (( بناء الجملة – بناء الكلمة – التقديم والتأخير في العناصر اللغوية )) والدلاليات أو علم المعنى الذي يشمل ((علم المعنى الخاص والعام وعلى بنية الدلالة في الدماغ وعلم التعرف على اللغة عندما تختزن في الدماغ وعلم التعرف على اللغة عندما تختزن في الدماغ دون معرفتها وعلم فهم اللغة عندما تختزن في الدماغ مع فهمها وعلم المشترك والترادف .... )) .
واللسانيات الانثروبولوجية : وتبحث في صلة اللغة بأصل الإنسان لأنها عضو بسيولوجي إنساني .
واللسانيات التطبيقية : وتبحث في التطبيقات الوظيفية التربوية للغة من أجل تعليمها والمنهجية لتقنيات تعليم اللغة (( أصول تدريس مناهج تدريس )) .
واللسانيات الاجتماعية : وتبحث علاقة اللغة بالمجتمع لأن اللغة ظاهرة اجتماعية تتفق عليها الجماعات وتعكس عادات وتقاليد وثقافة اجتماعية .
واللسانيات البيولوجية : وتبحث في علاقة اللغة بالدماغ ومقارنتها بالبنية الادراكية عند الحيوان والتطور اللغوي البيولوجي عند الأطفال .
واللسانيات الرياضية : وتبحث في اللغة كظاهرة حسابية مركبة صوتاً وتركيباً ودلالة ومنظمة بحيث يمكن وضعها في أطر رياضية لإثبات ما قاله / تشومسكي / من أن اللغة آلة مولدة قادرة على توليد ما لا نهاية له من الرموز اللغوية بطرق محددة .
واللسانيات الحاسوبية : التي تستعمل الكمبيوتر من أجل الدقة والسرعة في البحوث اللغوية والترجمة اللغوية ولقد استرعى انتباه دارسي الأدب استعمال اللغة من قبل اللسانيين وأدركوا أنه يمكن لهم أن يستفيدوا منها في مجال الدراسة الأدبية وإذا كان اللجوء إلى المنهج الاجتماعي والنفسي في مواجهة التجربة الإبداعية خارج عن طبيعة الأدب فإن الإستعانة باللسانيات يأتي من داخل الأدب بعد أن استطاعت هذه المباحث أن تحقق تطورات كبيرة في القرن العشرين فالموضوع المدروس في هذا المنهج هو اللغة الإنسانية التي توظف في الأدب توظيفاً جمالياً .
وأداة الدراسة هي لغة المفاهيم والمصطلحات فاللساني يستخدم اللغة في دراسة اللغة استخداماً خاصاً فيحلل ويركب ويشرح ويفسر ويحكم ويستقريء ويستنتج ويخرج بحقائق تتصل بجوانب اللغة لإقامة نظام يستوعب هذه الأشكال كلها ويجعل أمر وجودها ممكناً ضمن نظام لغوي ، ودارس الأدب لسانياً يشرح ويفسر ويحلل ويوازن لإقامة نظام أدبي يحكم أنتاج هذه النصوص أو ما يسمى بنظرية الأدب الداخلية أو الشعرية .
وتبدو اتجاهات أصحاب المنهج اللساني في دراسة الأدب تسير في منحيين :
1- استلهام الأنموذج اللساني كلياً أو جزئياً على اعتبار أن الأدب شكل من أشكال الممارسة اللغوية المتميزة بسيادة الوظيفة الجمالية لاستخلاص النظام الذي يحكم النصوص الأدبية في فن من الفنون .
وفي بحث ناقد الأدب عن النظام الأدبي الخاص بأدب أمة ما يفترض فيه أن يبدأ من دراسة الإنشاءات الأدبية الفردية / نصوص مختلفة / ثم يضعها تحت عناوين الأجناس الأدبية ثم يستنبط الأعراف والقوانين والمعايير والقيم والضوابط التي تحكم إنتاجها والتي تشكل النظام الأدبي / الشعري / ففي دراستا لمجموعة قصص لكاتب من الكتاب نكتشف النظام الأدبي الذي يحكم إنتاج القصة لديه وفي دراستنا لما أنتجه كتاب القصة في بلد من البلدان نكتشف النظام الأدبي الذي يحكم القصة في ذلك البلد .
ويمكن أن نأخذ مستوى من مستويات اللغة ونستلهمه جزئياً كاستلهام المستوى النحوي وتطبيقه على المسرح والقصة ( فالجملة في اللغة العربية تتألف من فعل وفاعل ومفعول به وظرف وجار ومجرور ومنصوبات ) ويمكن استلهام ذلك في المسرحية . فالعمل المسرحي هو الفعل والشخصية التي تؤدي هذا العمل هي الفاعل والشخصيات المتأثرة بالعمل هي المفعول به والمحتوى الزماني والمكاني هما ظرفا الزمان والمكان والحوافز والغايات هي المفعول لأجله والمؤكدات هي المفعول المطلق .
2- توظيف المصطلح اللساني في دراسة الأدب باعتبار أن الأدب فن لغوي (( إنشاء لغوي)) فإنه بوسع دارس الأدب أن يستخدم المصطلح اللساني في وصفه لهذا الإنشاء بمستوياته المختلفة وأن يصغ توظيفاً أفضل لمختلف وجوه العمل الأدبي وأن يستخدم معطيات هذا التوظيف في تحديد ما يجعل الأدب أدباً بشكل عام أو يفسر جمالية وجه من وجوهه فدارس الأدب يستطيع أن يصف لسانياً المستويات التالية من العمل الأدبي :
(( المستوى المعجمي _ الصوتي _ الوظيفي الصوتي _ الصرفي _ الدلالي _ النحوي _السياقي الإنشائي )) .
يقول د. رضوان قضماني في مقاله / ملامح في الشعر العربي الحديث في سورية / مجلة الموقف الأدبي عدد / 217 – 219 / 1989 ص 219 (( الشعر ممارسة لغوية إبداعية تتم بقوانين أدبية اجتماعية تاريخية تقوم على التعامل مع منظومة اللغة نفسها لتجعل منها منظومة إبداع وتتجلى عبقرية الشاعر في الإمساك بتلك القوانين التي تدير الكلام وتتحكم به والنظرة اللسانية إلى الشعر لا تفصل بين الدلال والمدلول أو بين الشكل والمادة أو بين العبارة والمحتوى بل ترى في الشعر عملاً تتحقق فيه وظائف اللغة الثلاث (( الوظيفة المرجعية _ والوظيفة الإيديولوجية _ والوظيفة الشعرية )) دون فصل لأن النص الشعري علاقة غير منفصمة كما يؤكد / لوتمان (1) / )) .
ويضيف د . قضماني (( أن الوظيفة المرجعية ترتبط بالواقع والعلاقة مع الواقع مفتاح الدخول إلى الشعر والعلاقة اللسانية جزء من الواقع المادي والوظيفة الإيديولوجية أدراك واع لذلك الواقع وللعلاقة اللسانية دور إيديولوجي جلي فعندما تتحول العلاقة اللسانية / الخبز / إلى رمز ديني تتحول إلى علامات إيديولوجية (2) )) .
وبما أن اللغة هي الواقع المباشر للفكرة وأن العلاقة اللسانية هي اتحاد بين الدال والمدلول فإن الشعر هو اتحاد بين الدال والمدلول (( اللغة والفكرة )) اللتين تحققان الوظيفتين المرجعية والإيديولوجية وتلتقيان عند الوظيفة الشعرية .فالنظر في بنية الشعر العربي في سوريا في قصائد الثمانينات يدفعنا إلى التوقف عند المستوى الوظيفي الذي يبحث في الكلمة وظيفتها في اللغة _ في الشعر _ من خلال السياق .( التراكيب _ تراكيب القصص الشعري التي تمليها ضرورة المونولوج حيث تتزاوج صيغة المتكلم مع المخاطب مع الغائب لتتحد في صيغة دلالية _ تراكيب قصيرة ومستقلة ... كل منها صورة فنية قائمة بذاتها ) .
وتراكيب تضفي على النص الشعري حساسية خطابية (( شعر التحريض )) حيث يسود فيها النداء والتمني والمستوى الصوتي القائم على الإيقاع الذي يجمع الوزن والقافية فالشعر في جانبه الصوتي تطبيق منظومة وزنية إيقاعية منظومة لسانية (3) )) .
إن توظيف المصطلح اللساني في دراسة الأدب تدفع بالدارس أن يفتح آفاقاً جديدة الإطلاع على جوانب النص الأدبي وتفتح أمام القارئ عوالم جديدة يكتشف من خلالها أفق تجربة الأديب الخاصة وآفاق تجارب الشخصيات التي أستلهمها هذا الأديب .
فالواقع الأدبي يشير إلى أن للغة أهمية عظيمة في فهم الأدب لأنها من مكوناته الأساسية وهي أداته التي من خلالها يمكن للأدب أن يرسم تجارب الحياة فاستعمال الأديب لصيغة الفعل المضارع في عمل أدبي ما له دلالة تتعلق بواقع العمل وشخصية الأديب استعمال ضمير المتكلم أو المخاطب أو الغائب له دلالة خاصة والإكثار من استعمال صيغة الحال أو الأسماء له دلالات مهينة . وإنه لمن نافلة القول أن ندّعي أن دراسة الأدب لسانياً تكفي في فهم غوامض النص الأدبي وإن كانت ضرورية في تسليط اضاءات على ذلك النص .
الاتجاه الداخلي في دراسة الأدب
1- الموسيقى
2- الخيال
3- الأسلوب
4- المعنى
5- العاطفة
الموسيقى وضرورتها في الشعر
تعد الموسيقى من العناصر المهمة في الشعر العربي والأجنبي وتشكل بالإضافة إلى المجاز الركن الأساسي الثاني لما تقدمه من آفاق تبعث النشوة في نفوس القارئ . يقول ابن طباطبا (( الشعر كلام منظوم بائن عن المنثور )) . ويقول قدامة بن جعفر (( الشعر كلام موزون مقفى )) ويعتبر الوزن في الشعر كالإيقاع في الموسيقى والروس يتصورون الشعر أنه نمط من التناغم المحكم بين الوزن والإيقاع العادي للكلام لأن الشعر في عرفهم ( عنف منظم ) ويرى مارون عبود في (( مجددون ومجترون )) . ((إن الشعر موسيقى قبل كل شيء لها معنى إذا فقدته كانت ألحاناً لا تطرب ولا تهز نفس سامعه (1) )) وبفضل هذا الناقد الشعر الموسيقي وإن خف معناه على الشعر الخالي من الموسيقى وأن رجحت كف معانيه ، ويرى مندور في كتابه (( النقد والنقاد المعاصرون )) ص 40 أن (( الموسيقى أحدى مقومات الشعر الأساسية التي إذا فقدها فقد خاصية من خصائصه الكبرى التي تميزه عن النثر (2) )) ويرى د.محمد النويهي في كتابه (( قضية الشعر الجديد ص 40 _ 115 )) أن (( الموسيقى الشعرية هي السمة الأولى التي تميز الشعر عن النثر (3) )) ويرى شوقي بغدادي (( أن الفوارق بين الشعر والنثر عديدة وليست الموسيقى إلا أحداها (4) )) مجلة المعرفة عدد /60/ حزيران 1979 .
ويعتبر النقاد المعاصرون أن الموسيقى الشعرية تنطوي على عناصر :
1_ الإيقاع : ومصدره تكرار التفعيلة في البيت الواحد حيث ينبعث عنها نغم متميز محدّ الزمن والبنية الصوتية ويأتي هذا الإيقاع من النطق المتكرر لهذا النغم ،وهو الضابط للوزن ووحدة الإيقاع الشعري هي التفعيلة عند العرب والبيت عند الإنكليز والمقطع الصوتي عند الفرنسيين . وهو ضرورة لا بد منها ولا يبلغ أقصى مداه دون وزن وقافية ويتفق / رييتشاردز / و / عبود / على أن (( الإيقاع نسيج من التوقعات والإشباعات والاختلافات والمفاجآت التي يحدثها تتابع المقاطع )) وهو (( الحد الفاصل بين الشعر والنثر )) على حد قول د . أحمد بسام ساعي . فالعمل الأدبي في رأي / رينيه ويليك / و / أوستن وارين / سلسلة من الأصوات ينبعث عنها المعنى وهذه السلسلة أو الطبقة المتناسقة تقل أهميتها في بعض الأعمال وتزداد في أعمال أخرى وهي شرط مسبق وضروري للمعنى وتؤلف جزءاً هاماً من التأثير الجمالي في العديد من الأعمال الأدبية الفنية بما فيها من النثر المبهرج _ السجع . وليس الشعر إلا تنظيماً لنسق من الأصوات اللغوية . على أن مشكلة الإيقاع ليست مقتصرة على الأدب فهناك إيقاع للطبيعة ، وإيقاع للموسيقى وإيقاع للفنون التشكيلية ومن السهل أن نرى في النثر أنواعاً من الإيقاع (5) / نظرية الأدب ص 165 / يقول جبران خليل جبران في إحدى مقالاته (( أنا أبكي فتبتسم الطلول واتضع فترتفع الأزهار ، الغيمة والحقل عاشقان وأنابيئهما رسول مسعف )) .
ويرى محمد ياسر شرف في كتابته النثيرة والقصيدة المضادة ص 170 ((إن الإيقاع شرط لازم لإظهار التركيب الزمني الذي يبدعه الشاعر بألفاظ وتراكيب مميزة ... والاتصال بين الشعر والموسيقى في المجتمعات البدائية يكفي للتأكيد بأن للإيقاع أثراً ثلاثياً ممتعاً يتمثل في الجانب العقلي والجمالي والنفسي ...
وقد تعرض / وودزورث / لهذه الآثار فرأى أن الأثر العقلي ناشئ عن التأكيد المستمر خلال مسير القصيدة ذلك أن هناك نظاماً ودقة وهدفاً في العمل الأدبي وأن الأثر الجمالي ينشأ من الإيقاع الذي يخلق جواً خاصاً من حالة التأمل الخيالي وهذه تضفي نوعاً من الوجود الممتلئ في حالة شبه واعية على الموضوع كله ، وإن الأثر النفسي يبدو إيقاعه في المشي والنوع والتنفس والنبض (6) )) .
ويذهب / وودزورث / إلى أن إيقاع الضربة الشعرية يكون عادة أقل سرعة بقليل من إيقاع النبض و إن صح ذلك فالشعر هو لغة القلب )) .
وقد أدرك ذلك الخليل الفراهيدي من خلال مروره في سوق النحاسين حين قرن بين نظام الضرب المتناظر المتساوي بالمطارق على الأواني وبين تناسق التفعيلات وتناظرها في الأبيات الشعرية وحركة أقدامه ودقات قلبه فاستنبط هذا النظام الصوتي للشعر العربي .
2_ الوزن : وهو مجموع تفعيلات البيت الواحد يقول ابن رشيق القيرواني ))
(( الوزن أعظم أركان الشعر وأولاها به خصوصية وهو مشتمل على القافية جالب لها )) ويرى النقد الحديث في الوزن وسيلة أداء مثلى للتعبير عن الانفعال الشعري تعجز عن لغة النثر . ولأن الشعر حقيقة إثارة وجدانية وتجربة شعورية يعبر عنها في صورة موحية فلا بد له من عنصر إضافي يؤدي مهمته بالإيحاء والتخيل وهذا العنصر هو الوزن وهو صميمي يمكنّ الشاعر من رسم انفعاله للآخرين ويفرض جواً نفسياً خاصاً على مستمعيه أن اللغة العارية عن الوزن قاصرة عن تصوير ما يعتمل في نفس الشاعر يقول ابن عبد ربه في العقد الفريد (( زعمت الفلاسفة أن النغم فضل بقي من المنطق لم يقدر اللسان على استخراجه فاستخرجته الطبيعة بالألحان على الترجيع لا على القطيع فلما ظهر عشقته النفس )) . ويقول أفلاطون (( لا ينبغي أن نمنع النفس عن معاشقة بعضها بعضاً ، ألا ترى أهل الصناعات إذا خافوا الفتور ترنمو بالألحان)) أن الوزن جزء من المحتوى الشعوري والفكري الذي ينطوي عليه الشعر وثمة رابطة تربط بين الوزن والإيقاع وبين قوة انفعال الشاعر وعمق إحساسه . ويرى النقاد أن هناك ائتلافا بين المعنى والوزن والقافية . ذلك أن بعض المعاني يحتاج إلى طول معالجة وعرض وشرح بعض الجزئيات للفكرة وهذا يستدعي انسياباً في الوزن وامتداداً في التفعيلات ، بينما بعض المعاني يتطلب خفة ورشاقة في الوزن وغنائية في النغم .
يقول سليمان البستاني في معرض حديثه عن أوزان الشعر (( الطويل للفخر والحماسة لأنه يستوعب معان كبيرة ومرتع للتشابه والاستعارات وسرد الحوادث وتدوين الأخبار ووصف الأحوال والبسيط يقرب من الطويل إلا إنه لا يلين لينه للتصرف في التراكيب والألفاظ ولا يتسع اتساعه للمعاني ، والكامل يصلح لكل نوع من الشعر وهو أجود في الخبر منه في الإنشاء والوافر ألين البحور يشتد إذا شددته ويرق إذا رققته )) .إن كينونة الوزن كظاهرة تخلق الكلام موسيقية هي التي تميز شاعراً عن آخر بل هي التي تجعل هذا النوع من الكلام شعراً لأن نغمية الوزن تعطي اللغة حركة فاعلة في نفوس الآخرين ومتى صار الشعر صف كلام يكون النثر المرسل خيراً منه . صحيح أن توافر الوزن في القصيدة ، شرط رئيس إلا أنها بالوزن وحده لا تسمى شعراً فلا بد من توافر الموهبة والسليقة و النضج في إستفراغ مواقف الشاعر من الحياة .
3_ القافية ، وهي زاوية القصيدة وسرّ قوة البيت الشعري يحتاج لها المعنى كي يتم وذات تأثير كبير وعجيب في الموسيقى بالإضافة إلى جمالها الفني لأنها آخر ما يتبقى في ذهن السامع من البيت وقد أولاها العرب اهتماماً كبيراً بما أدركوه من تأثيرها القوي في العملية الشعرية . يقول الحطيئة (( نقحوا القوافي فإنها حوافر خيل الشعر )) ويعتبر ائتلاف المعنى والقافية ضرورة من ضرورات الشعر لأن للقافية صلة كعاطفة الشاعر ومعانيه وقد تسهل القافية للشاعر قيادة النظم فتفتح مغالق القول وقد تصرف الشاعر عن غايته وتذهب به مذهباً لم يقصده والمطبوعون من الشعراء أقدر من غيرهم على اختيار القوافي والأوزان الملائمة للمعاني حيث تظهر قدرتهم على التعبير ويستطيعون رفد أشعارهم بعناصر جمالية على أنه ينبغي الالتفات إلى أن القافية ظاهرة بالغة التعقيد وظيفتهم في التطريب خاصة إذ باستطاعة المرء أن يميز الدرجة التي تشتبك بها القافية مع مجمل سياق القافية وإلى أي حد تبدو كلمات القوافي قد جاءت لملئ الفراغ .
إن جدلية الوزن والقافية والمعنى والعاطفة تظهر لنا مدى أهمية القافية في البيت الشعري لأنها تقدم للسامع النشوة العميقة التي تحصلت للشاعر عند كتابته القصيدة وأكثر ما قرن النقاد بين الوزن والقافية وجعل الوزن منطوياً عليها كما يقول ابن رشيق .
4_ النغم الداخلي للشعر : ويبدو وفي اختيار الشاعر لألفاظه التي تتجاوز حروفها متعاونة منسجمة غير متباعدة المخارج لا يتعثر اللسان بنطقها (( غير متشابكة الحروف )) من خلال تراكيب منسجمة موحية خفيفة الظل كقول أحدهم :
سود ذوائبها بيض ترائبها محض ضرائبها صيغت من الكرم
وقول الآخر :
عذيري فيك من لاح إذا ما شكوت الحب حرقني ملاما
فلا وأبيك ما ضيعت عهداً ولا فارقت في حبيك ذاما
ومما فسدت موسيقاه وأنغامه الداخلية قوله :
وقبر حرب بمكاني قفر وليس قرب قبر حرب قبر
وقول الملك الضليل :
(( غدائره مستشرزات إلى العلى ))
إن الشعر باعتباره تنظيم لنسق من الأصوات اللغوية يجعلنا نتبين النظرة الداعية إلى ضرورة وجود الموسيقى في الشعر على أنها عنصر صميمي من ركائز القصيدة لا عنصر ملحق وإضافي لأن الحد الفاصل بين الشعر والنثر هو الموسيقى وليست المحاولة الرومانتية والرمزية لمطابقة الشعر على الأغنية والموسيقى إلا لأن الموسيقى قد تواكبت في الظهور مع الشعر الغنائي وتعايشة معه كفن واحد عند الشعوب البدائية .
الخيال وأثره في الأعمال الأدبية
يرى / جان ستاروبنسكي / في تحديده لمفهوم الخيال ص 165 من كتابه (( النقد والأدب )) أن الخيال الأدبي ليس إلا فرعاً خاصاً لملكة نفسية عامة جداً لا ينفصل نشاطها عن نشاط الشعور وتشير لفظة (( خيال )) إلى العلاقة التي تصل فعل الكتابة الأدبية بالمعطيات الأساسية لوضع الإنسان وتسهم في إقامة رابطة ضرورية بين النظرة الأدبية وأوسع نظريات الشعور .فالخيال وارد في فعل الإدراك ويمتزج بأعمال الذاكرة ويفتح أمامنا أبعد الآفاق الممكنة ويرافق مشاريعنا وأمانينا ومخاوفنا ، فهو ملكة تستدعي الصور المسايرة لعالم الإدراك المباشر وغير المباشر ، وهو قدرة تساعدنا على الانفصال عن الواقع .
وقد يكون الخيال من قبيل (( الوهم )) واللهو والأحلام إذا ولى الوعي المتخيل ظهرة للواقع المباشر وأن أشهر أنواع الخيال وأقربها إلى الهذيان يحتفظ بصبغة واقعية ومن هنا فالأدب كله ما هو إلا ضرب من النشاط والخيال الذي يتألق في نطاق الصورة والرمز والأسطورة والحلم والهواجس ويعتبر الخيال الأدبي أحد أبعاد الأثر الأدبي وتشير لفظية ((فانتازيا )) الإغريقية عند أفلاطون إلى مزيج من الإحساس والرأي وهي عند أرسطو حركة داخلية ناجمة عن الإحساس وعند الرواقيين يدمج الإحساس بالخيال فيعرب عن نشاط نفسي لا يغنى إلا بظواهر الأمور .
ولما كان الخيال ملكة متوسطة بين الحس والتفكير فهو لا يملك بداهة الإحساس المباشر كما لا يملك الانسجام المنطقي للمحاكمات العقلية المجردة .
فالخيال يأتي في مرتبة ثانية بعد الإحساس ويتفرغ عنه لكنه يسبق عمل التفكير الذي يسعى للإشراف عليه وإذا كان الفن على حد تعبير أفلاطون محاكاة للظاهر فإنه إذا ينتج ظاهراً من مرتبة ثانية أو يبدع صورة للصورة إذ لا توجد محاكاة إلا بفضل الخيال ومن أجله وبسبب تلك العلاقة بين الخيال والفن اتهموا الفن وقالوا عنه أن مجاله قاصر على الفتنة الخبيثة أو في أحسن الأحوال على اللهو الذي لا نفع فيه .
ويعتبر اللجوء للخيال هو الشرط اللازم لعملية التطهير في المأساة فالخيال يملك القدرة التي يملكها الواقع على إثارة أهوائنا والتأثير في جوارحنا .
والخيال على حد قول أرسطو حركة نفسية يولدها الإحساس إذ يفعل فإنه يُفرض على عقلنا كما لو ورد من الخارج وعلى ذلك فالخيال لا يزال مغموراً بالنور الذي يسطع من الأشياء الخارجية فقد اشتق اسم خيال / فانتازيا / من النور / فاوس / ولولا النور لما أمكنت رؤية الأشياء ومعنى ذلك أن الخيال يوفر لنا ضياء ثانياً .
وتشير لفظة / فانتازيا / عند / لونجان / اليوناني إلى الاندفاع العاطفي الذي ألم المؤلف ونقله للمستمع وبذلك يستطيع الشاعر أن يثير الإعجاب والدهشة فيكون الخيال الأداة التي تستخدمها المحاكاة حتى تبلغ الأوج .
وينسب / لونجان / ذلك التأثير بالصور الخيالية إلى فعل الحماس أو الهوى الذي أعتبره أفلاطون مصدراً من مصادر الإلهام .
وبذلك يكون أشبه بالعين الجسدية التي ترنو إلى حقائق فكرية تدركها بالحدس عن طريق الرمز والقصة الرمزية وعند /دانتي / الخيال ملكة متوسطة تزود بالصور التي يحتاج إليها حتى يعبر عن الأفكار المجردة .
ولا يقنع الخيال بنقل الصور على نحو سلبي بل يملك قدرة فعالة كما أقر بذلك/توماس الأكويني / فيكون تارة منبعاً من منابع الوهم وتارة ملكة مبدعة وهو يتوسط بين عالم الإحساس الأدنى والملأ الروحي الأعلى فيكون الشعر الملهم ثمرة من ثمرات الخيال الذي يغمره النور العلوي وحدود الخيال هي حدود الإبداع الشعري .
وإذا تجاوزنا عصر النهضة إلى العصر الرومانسي حيث تحول الأدب من سيادة العقل إلى سلطان الخيال نجد أن للخيال الأدبي عمله فلولاه لما كانت المحسنات والزخارف (( مجاز استعارة _ تشبيه )) وهي التي تبعث في الأسلوب الحياة والحركة والحيوية صحيح أن المدرسة الكلاسيكية اعتمدت على هندسة القصيدة فكرياً وطلبت من الشاعر أن يضع النماذج الكبرى نصب عينيه حين ينظم قصيدته إلا أنها أهملت الابتكار وسعت نحو الكمال المعهود ولم يكن الإبداع سوى اكتشاف أفكار مناسبة مطابقة (لمقتضى الحال ) وإن لا مهمة للخيال سوى تحسين الكلام ويرى / فولتير / و/ مارمونتيل / أن الخيال موهبة ثمينة وأن الإلهام أقصى درجاته .
وترى الفلسفة الكلاسيكية أن الخيال هو الذي يبعث الروح في الإنتاج الأدبي وهو الخالق لمشاعر الحياة والحرارة التي هي عناصر إضافية وألوان عاطفية .
ويرى /برونو / الإيطالي أن الخيال هو مجموع الأحاسيس الداخلية ليس التقليد والمحاكاة هي مهمته فقط بل هو مصدر جميع الأحكام ومنبع للأشكال الأصلية والمبتكرة ومنطلق لكل إنتاج فكري .
ويقول / روبرت كلاين / إن الآراء التي اعتبرت الصورة ثوباً للفكرة أو جسمها الأول ملائمة لنظريات الخيال . ولا يجوز أن نعد الخيال بعداً ثانوياً من جملة العناصر العبقرية ولا تابعاً يسهم في العمل المشرك الذي تقوم به سائر الملكات الإنسانية بل هو تعبير آخر عن العبقرية ذاتها . وهو كما يقول بودلير / سيد الملكات النفسية / أو الكلمة الخلاقة .
_ لقد ترسم أتباع الحركة السريالية / ممن يؤمن بالغيب والسحر / آراء الرومانسيين في الخيال وجاءت آراؤهم في مظهر السخط أو الاستنكار رافضةً العقل الآلي رفضاً عاطفياً شديداً عندما راح يشيد صرح العلو أو يضع الطبيعة في صيغ فيزيائية و كيميائية .
إن الفلسفة الطبيعية التي انتشرت في القرن الثامن عشر ميلادي تسعى إلى تحويل العالم إلى ضرب من السحر و تأويله شعرياً . بينما ارتبط النشاط الخيالي عند الرمزيين بالأسطورة النرجسية ، (( حب الذات وتضخمها )) .
ويعتبر يونج (( أحد تلاميذ فرويد )) أن النشاط الخيالي هو اللذة الجنسية المنطوية على الخيال ويضيف السرياليون أن المخيلة أداة حيوية في علاقاتنا بالكون الغاية منها اكتشاف الأمور الخارقة وقلب الحياة إلى شعر والقيام بثورة دائمة في جميع ما يفعل .
إن الخيال : ملكة مألوفة شائعة بين الناس ترمي إلى إدراك الأشياء الدارجة خارج وضعها الراهن الذي تقع الحواس عليه . وهو ليس عملاً فكرياً محضاً بل هو مغامرة من مغامرات الشهوة ، لأنه الفعالية المنشئة لصور الأحلام والهلوسة / وما يسميه فرويد / فانتازي / ليس انعكاساً ذهنياً للعالم المدرك ولا فعل مشاركة ميتافيزيقية في أسرار الكون بل هي حركة مسرحية داخلية يبعثها (( الليبيدو )) الذي يجعل الخيال يغير من المعطيات الأساسية التي توفرها التجربة العاطفية تغييراً سحرياً عجيباً .
إن الإنتاج الأدبي حالة خاصة من حالات النشاط الخيالي ولقد أسند يونغ للخيال مهمة القوة الكونية ولم يعتبره نشاطاً عشوائياً بل اعتبره لغزاً من ألغاز العالم يطّلع عليه الإنسان في أحلامه والشاعر في شعره .
إن الخيال هو المصدر الذي يثير الصيرورة النفسية فنياً إثارة مباشرة فقد نشوّه حقيقة الحب إذا فصلناه عن واقعيته .
ولا يوجد خيال صرف ، بل لا يوجد خيال إلا سلوكاً يتغذى بالعواطف والأخلاق ويتجه اتجاهاً يتلاءم مع المعطيات الاجتماعية أو يخالفها .
إن الخيال عند الإيطالي / آريوست / يمتزج بوضع اجتماعي مركّب بينما ينشئ عند /روسو / إطاراً وهمياً لمعقل حصين يلوذ به الفرد ويحدث نفسه به في حال من العزلة والإنفراد ويندس ّ الخيال عند / زولا / في محاولات الوصف الواقعي (1) .
يقول / مارون عبود/ في كتابه على المحك ص 94 : (( ما الشعر إلا حلم يقظة ، فالذي ليس له عين ترى وقلب يحس وإذن تسترق وعقل يحلم فهيهات أن يدخل مملكة الشعر))(2) . (( إن مجيلة الشاعر المبدع راديو يلتقط حديث عوالم الأثير وقريحته راديوم يشع نوراً خالداً . إن الشعر لا يكون بخلق الصور الغريبة البعيدة عن واقع الحياة لأنه كلما دنت الصورة الفنية من الواقع كانت أحب إلى القلوب وأقرب إليها )) (3) .
(( إن المبدأ الرئيسي المحدد للشعر هو المجار يضاف له الوزن )) (4) وهما العنصران المهمان المتلاخمان في تكوين الشعر (( والمخيلة موضوع يخص كلا من علم النفس والدراسة الأدبية لأن كلمة صورة في علم النفس تعني إعادة إنتاج عقلية ، وذكرى لتجربة عاطفية أو إدراكية )) (5) .
إن عزرا باوند يثير انتباهنا إلى أن الصورة هي تلك التي تقدم لنا عقدة فكرية وعاطفية في برهة من الزمن .
ويقول القاضي الجرجاني في حديثه عن العناصر الجمالية في الشعر:
(( التشبيه لمح صلة بين أمرين حسيين أو متخيلين في النفس مع تداخل يجعل السامع يحس بما أحس به المتكلم )) . وهذا يعني أن المقاربة في التشبيه دلالة فنية تقوّي المعنى المجرد الذي يتكلم عنه الشاعر بأن ينقله من الإحساس ومن الفكر إلى الحدس .
ويضيف الجرجاني أن الوصف والتشبيه في الشعر أكثر مكانة من المعنى وينصح بتجنب المبالغة وبالتقيد بمعطيات التجربة الحسية وإعطاء التعليل عند تبيين وجه الشبه لأن الصورة الشعرية قد تستكمل شرائط الحسن والجمال ولكنها لا تكون ذات وقع كصورة أخرى لا تستكمل شرائط الحسن وأوصاف الكمال وعناصر الجمال .
إِننا على حد قول الجرجاني حين تأخذ قطعة من ذهب وتصنع منها خاتما نهتم بالخاتم وتنسى مادة وهذا يعني أن للصور عنده أهمية كبيرة لأن المعنى يتوقف عليها (6) .
ويعتبر لفارابي أن الأقاويل الشعرية كاذبة بالكل لا محالة لأنها قائمة على التخييل الذي له قيمة في الشعر كقيمة العلم في البرهان ( 7) .
فالتخيل في الشعر هو المحاكاة اللطيفة لشيء أو حدث وغايته الحفز وليس الصدق أو التصديق فهو محاكاة المحاكاة كما أشار أرسطو . وقد ساير ابن سينا الفارابي في رأيه السالف الذكر وأضاف (( أن الكلام المخيل تذعن له النفس فتنبسط عن أمور وتنقبض عن أمور )) (8) . وقد قالت العرب . أجمل الشعر أكذبه . ويشير حازم القرطاجي إلى أن الشعر بما فيه من محاكاة أو تخييل يؤدي إلى الإقناع (9) .
ويرى / لونجينوس / التدمري صديق أفلوطين ومستشار زنوبيا في مقالته / سمو البلاغة / أن صياغة الصور والمجازات ضرورة من ضرورات الشعر (10) .
وكثرة اعتماد الخيال عند الشاعر يدل على أن الشاعر يهتم بالصنعة أكثر من الصدق العاطفي فشعر الرثاء قليل الصور ضحل الخيال غالباً ويبقى أن نشير إلى أن الخيال يكتسب من الواقع والمفاهيم والعادات والتقاليد المعاصرة أشياء تساهم في إبرازه كعنصر فعال ومهم في حركة العمل الأدبي (( إن الخيال باعتباره آلة التصوير التي تصور الأشياء والأشخاص والمعاني فإن الشاعر والأديب من خلاله كما يقول / رسكين / (11) يلتقط كل ما يقع تحت سمعه وبصره ثم يختزن الصور ويعود لاستخراجها في الأوقات الملائمة وتتفاوت قوة الخيال بين جمهور الأدباء بتفاوت قوة الذاكرة لديهم وهو أنواع :
الخيال الخالق :وهو الذي يخلق العناصر الأولى التي تكتسب من التجارب صور جديدة لا تتنافى في الحياة المعقولة وألا أصبحت هذه الصور من قبيل الوهم .
والخيال المؤلف :الذي يجمع صوراً ومناظر مختلفة قد تستدعي صوراً أخرى كقول ابن الرومي :
ما أنس لا أنس خبازاً مررت به يدحو الرقاقة مثل اللمح بالبصر
ما بين رؤيتها في كفة كرة وبين رؤيتها قوراء كالقـمر
إلا بمقدار ما تندح دائرة في لجة الماء يلقى فيه بالحجر
والخيال الموحي :وهو الخيال الذي يفيض على الصورة التي يراها صفات روحية تؤثر بالنفس .
قال تعالى (( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وأزينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس )) .
فالصورة تلف الدنيا بجميع مظاهرها وزخارفها ولا تفصل وقائعها ولكنها تدعو الإنسان للتفكير بها )) .
وقد يصف الخيال أثراً لشيء في النفس كقول جرير :
إن العـيون التي في طرفها حـور قتلننا ثـم لم يحيين قتلانـا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله أركانا
وقد يصف أجزاء الشيء كوصف نزار قباني لحركة العيون :
عيناك حمامتان دمشقيتان تطيران بين الجدار وبين الجدار
وقد يصف الخيال صفاء العيون بألفاظ موحية كقول السياب :
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
ولذلك فإن المناظر التي تعرض على الخيال أو العقل تبدو أجمل مما إذا عرضت على العين المجردة وكلما قوي خيالنا قويت لذاتنا .
يقول جميل بن معمر :
وإني لمشتاق إلى ريح حبها كما اشتاق إدريس لجنة الخلد
ويقول مجنون ليلى :
لقد رسخت في القلب منك مودة كما رسخت في الراحتين الأصابع
ويقول المتنبي :
وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائـم
هذا وإن للخيال ارتباطاً كبيراً بالعواطف لأن العاطفة القوية تحتاج إلى خيال قوي والعاطفة المسرفة المبالغ فيها تذهب بالخيال مذاهب شتى كقول الشاعر :
لا تسقني ماء الملام فإنني صب قد استعذبت ماء بكائي
إن أنواع الخيال السالفة الذكر لا تعمل منفصلة إذ لا بد أن يكون في كل عمل أدبي مسحة من هذه الأنواع لأن الخيال هو محور هذا العم
الأسلوب وأهميته
في العمل الأدبي _ 1 _
يعد الأسلوب من العناصر المهمة والواضحة الأثر في أي عمل أدبي ويعده البعض الممثل الوحيد لشخصية الكاتب والأديب على افتراض أن (( الأسلوب هو الرجل )) . وله جانبان لفظي : ويعني المذهب والاتجاه ، وسطر النخيل كما ورد في لسان العرب ومعنوي ويعني نقل الكلمات من معانيها الحسية إلى معانيها الأدبية والنفسية ويشير أحمد الشايب إلى (( إن الأسلوب معان مرتبة قبل أن يكون ألفاظاً منسقة يتكون في العقل قبل أن ينطق به اللسان أو يجري به القلم ))
وقد صارت كلمة الأسلوب في أيامنا مشتركاً بين البيئات المختلفة ، وقد استعملها العلماء في مناهج البحث العلمي واستعملها الأدباء في الفن الأدبي جدلاً أو قصصاً أو تقريراً وفي العنصر اللفظي سهولة وتعقيداً وفي إيراد الأفكار تنسيقاً و تبويباً أو اضطراباً وفي طريقة التخييل جمالاً ملائماً أو تشويهاً ونبواً . وقد يكون الأسلوب فناً من الكلام ويكون قصصاً أو حواراً ، تشبيهاً أو مجازاً أو كناية تقريراً أو حكماً أو أمثالاً وقد يشمل الفن الأدبي الذي يتخذه الأديب وسيلة للإقناع والتأثير متجاوزاً العنصر اللفظي ولكل أديب أسلوبه الخاص وقاموسه المستقل , فالمتنبي نلمح في معجمه الشعري ألفاظ الشجاعة والقوة والكرم والعلو والمعاناة الخاصة ونزار قباني نلمح في ألفاظه ما يختص بالمرآة وما يتعلق بها من شمائل وصفات نفسية وجسدية ، وأبو العلاء المعري نلمح في معجمه الشعري ما يرتبط بالتشاؤم ورفض العلاقات السائدة والتشكيك بجميع معطيات الحياة . ويرى عبد القاهر الجرجاني أن الأسلوب ضرب من النظم والطريقة في تأليف الكلمات ضمن سياق معين يؤدي غرضاً محدوداً . ويعده ابن خلدون المنوال الذي تنسج فيه التراكيب والقالب الذي يفرغ فيه المعنى وعند النقاد المعاصرين هو اللفظ الذي تتمثل فيه أفكار الأديب وانفعالاته ويرى / بوفون / الفرنسي أن (( الأسلوب هو الإنسان نفسه )) . وعرّفه بعضهم بأنه لباس الفكرة وثوبها الذي ترتديه ونحن إذ نبحث عن الأسلوب عند كاتب ما نجد طريقة التفكير ومستوى الانفعالات ونوع المزاج لأنه لكل أديب أسلوبه الخاص وتختلف الأساليب باختلاف الأغراض فالرثاء في شعرنا العربي اتجه اتجاهات شتى واتخذ أساليب متعددة ، فهو عند سعدى الشمر دليه وابن الرومي فجائعي وعند الخنساء اتخذ صورة الديمومة وعند أبي تمام والبحتري والمتنبي رسم معالم البطولة في الفقيد بينما كان أسلوب الغزل يتجه في شعرنا نحو الحسية عند البعض والعذرية عند البعض الآخر والروحية عند طرف ثالث والصوفية عند طرف رابع .
إن الأسلوب باعتباره العنصر الأهم في تمييز الأدب عن بقية فنون الكلمة وفي تحديده لقيمة الكلام يدعونا للوقوف في الصف الداعي إلى ضرورة دعوة الأدباء إلى التركيز على هذا العنصر لما له من الأثر في نفسية الآخرين . إن اختلاف أديب عن آخر محوره الأسلوب وكل مضمون لا يرتدي أسلوباً دقيقاً ليس له مكانة في عالم الأدب إن انصرافنا إلى الجانب الشكلي حين ذكرنا لكلمة أسلوب يدعونا إلى الحديث عن عناصره المتمثلة في الألفاظ والتراكيب :
آ_ الألفاظ : وهي المادة الخام المحددة للأدب والتي تسير به بالاتجاه للشكلية ويفترض بالألفاظ أن تتصف بما يلي :
_ الملاءمة التامة للموضوع والمضمون .
_ الإيحاء المعبر الذي يثير معاني كثيرة متشعبة في النص .
_ الشاعرية الفياضة غير المنفّرة .
_ الألفة والاقتراب من النفس .
_ القوة والطرافة وعدم الامتهان بكثرة الاستعمال .
_ السهولة والخفّة على السمع والجريان على اللسان بيسر .
_ الرقة في المواطن التي يفترض فيها أن تكون رقيقة .
_ وضوح الدلالة والتأثير البليغ النافذ بسرعة وسهولة للمتلقي .
_ البعد عن الغرابة والحوشي .
_ الجرس الموسيقي الخفيف الظل .
_ الدقة في التعبير عن المعاني .
ب _ الجمل والتراكيب : وهي العامود الفقري للأسلوب الذي يحمل ثقل المعاني ويفترض فيها أن تكون :
_ متوافقة مع معانيها .
_ ملائمة للمقام الذي وضعت له .
_ أن ترد طويلة في مجال التأمل .
_ أو ترد قصيرة في المواقف الانفعالية .
_ أن تكون واضحة جلية .
_ أن تتلون بين الخبرية والإنشائية بحسب الموقف .
_ أن تكون أسمية أو فعلية بحسب رؤية الأديب ما يعتمل في نفسه من انفعال .
ويؤثر بأسلوب الأديب عدة عوامل تجعل هذا الأسلوب يسير بالاتجاه الذي يتناسب معها على رأسها الموضوع أو الغرض الذي يحرك مشاعر الأديب فالغزل على سبيل المثال تناسبه ألفاظ الرقة في الوصف وألفاظ الحزن في العتاب والفخر تناسبه الجزالة وألفاظ البطولة ويؤثر في أسلوب الأديب ذوقه ومزاجه وطبيعته وثقافته وبيئته ، فالأديب الحضري يستعمل الألفاظ السهلة المأنوسة الناعمة المألوفة الرقيقة وقد كان للبيئة الصحراوية العربية أثر كبير في استعمال الشعراء العرب لألفاظ تدل على الخشونة بينما ساهمت الثقافة الفلسفية في التأثير على الشاعر أبو العلاء المعري في صبغ شعره بلون الفلسفة حتى اعتبره البعض (( فيلسوف الشعراء أو شاعر الفلاسفة )) .
إن حقيقة وصفنا للأسلوب بالجودة وحسن التناول يتطلب الوضوح لقصد الإفهام والقوة لقصد التأثير والجمال لقصد الإمتاع وبذلك يحقق الأسلوب الشروط اللازمة له وهذا ما يدعونا إلى الحديث عن ضرورة ارتكاز الأسلوب على البلاغة ، لأن الأساليب تتباين وتتنوع بتنوع الموضوعات والفنون الأدبية وأذواق الأدباء .
الأسلوب و أهميته
في العمل الأدبي _ 2 _
سنقتصر حديثنا على أنواع الأسلوب من حيث الموضوع وسنغفل تقسيمات الأدباء الأخرى له من حيث الذوق ومن حيث الفنون الأدبية الأخرى لأن هذه الأقسام الأخرى تندرج من حيث التقسيم تحت باب التقسيمات من حيث الموضوع فالعفوية والتكلف والتوازن هي صفات لأساليب فردية خاصة بأدباء بأعينهم ولم تتخذ خطط عامة وتيارات أسلوبية مستقلة لها أسسها ومقوماتها :
آ _ الأسلوب الأدبي ، خصائصه :
1_ قد يتحدث عن موضوع غير قابل للحصر ومتشعب .
2_ لا يستخدم قياسات مادية وأرقاماً رياضية .
3_ يتناول الموضوع من زاوية الشعور والوجدان / حب ، كره / إعجاب .
4_ يعمل فيه الأديب خياله الخصب .
5_ يبعث في الموضوع الحياة بوساطة تشخيصية .
6_ يستخدم ألفاظاً معبرة قوية جزلة _ موحية دقيقة ... إلخ .
7_ يستخدم المحسنات البديعية / طباق _ جناس ثورية .. إلخ / .
8_ يستخدم الإيجاز والإطناب والمساواة في الجمل .
9_ يستخدم العبارة المتماسكة الواضحة المعبرة الموحية .
10_ يستخدم العاطفة ويؤثر في نفوس الآخرين .
11_ يخوض في موضوعات تحتمل رأياً وشعوراً خاصاً .
12_ يكون الأسلوب الأدبي في الشعر والنثر .
13_ في الأسلوب الأدبي تكرار للفكرة في صور عدّة .
14_ يتفنن الكاتب فيه بأساليب القول .
15_ يعتمد الذوق والجمال الأدبي .
ب _ الأسلوب العلمي ، خصائصه :
1 _ يختار حقائق علمية لها حدود وحجوم .
2 _ ترتب الأفكار فيه ترتيباً معقولاً .
3 _ يستخدم الألفاظ الدقيقة الملائمة المناسبة .
4 _ يستخدم العبارات السهلة الكاشفة .
5 _ لا يستخدم زخارف لفظية .
6 _ لا يستخدم صوراً بيانية .
7 _ لا يستخدم الخيال .
8 _ لا يستخدم التفنن في تدبيج المقال .
9 _ لا يستخدم المجاز .
10_ يساوي بين اللفظ والمعنى .
11_ يعتمد الإيجاز وعدم الغموض والتعمية .
12_ لا يبتعد عن الغرض الأصلي .
13_ لا يستعمل الإطناب (( زيادة اللفظ على المعنى )) .
14_ يتوخى الحقيقة العلمية ويشرحها ليقررها في الأذهان .
15_ لا يستخدم العاطفة .
المعاني وأثرها في الأعمال الأدبية
لا تطلق كلمة أدب إلا على الأعمال التي تملك فكراً راقياً ومعنى سامياً وتقوم على أسس فنية وجمالية متميزة لأن قيمة العمل الأدبي تكبر بما فيه من معان عميقة وحقائق ثرّة مع أنه ليس بالضرورة أن يقدم العمل الأدبي حقائق مبتكرة كما في العلوم الإنسانية فنحن نقرأ كتاباً في التاريخ نعلم ما فيه من قبل ، ونستطيع قراءة قصيدة تتضمن حقائق معروفة.
إن أدباً كالذي خلفه المعري (( رسالة الغفران )) (( رسالة الملائكة ، رثاء الإنسانية )) أو المتنبي أو السياب أو الشابي يحمل بين جنباته معاني كثيرة وحقائق صحيحة وإن كان النقاد يرى أن المعاني الصحيحة والنظرة الصادقة ليست شرطاً للعمل الأدبي الجيد فإشعار أبي نواس ما جنة من حيث المعنى ولكنها تشكل أدباً والعرب تعتبر أعذب الشعر أكذبه .
والحقيقة التي لا مراء فيها أن الأدب المؤسس على حقائق غير صادقة ليس له قيمة كبيرة لأن عمق الإحساس وصدقه مقياس التمييز بي الأدب الرفيع والأدب المتواضع .
إن أكبر الشعراء من اتسعت تجاربه وتعمق علمه في الأشياء وازداد فهمه لحياة الناس ومعرفته لعقائدهم ونظراتهم للحياة . فالشعر ديوان العرب يحوي معارفهم وعلومهم وتجاربهم وأخبارهم ووقائعهم وعاداتهم وتقاليدهم فقد أفادنا المتنبي في أخبار ووقائع سيف الدولة أكثر مما أفادتنا كتب التاريخ وعلمنا شكسبير عن الحياة الإنسانية أكثر من الفلسفة صحيح أن كتب الأدب غايتها اللذة في بعض جوانبها إلا أنها تزودنا بالأخبار والحقائق والمعاني في الجانب الآخر ذلك أن للمعاني قيمة كبيرة في الأعمال الأدبية عامة فقيمة الشعر تقاس بما فيه من معان ترتكز عليها العواطف لأن الحقائق الصحيحة أساس للعواطف السامية التي تستمد حرارتها منها والشاعر الذي يرى الحياة مجلس أنس وكأس شراب ونظرة أمرآة كحيلة قد يكون إحساسه صادقاً ولكنه سطحي .
يقول طرفة بن العبد :
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى وجدك لم أحفل متى قام عودي فمنهن سبقي العاذلات يشربه كميت متى تعل بالمـاء تزبـد
فالمعاني الصحيحة تعطي الأدب مضمونه الحقيقي .
إن الأدب لا يصور الحياة كما هي بل يعيد صياغتها بعد أن يخضعها إلى شيء من التقنية والتصفية ويضيف لها من العواطف والخيال ما يتناسب معها وغاية الأدب نقل أثر الأشياء في نفس الأديب لا الإخبار عن الأشياء كما هي .
يميز مارون عبود في كتابه مجددون ومجترون ص 74 وكتابه دمقس ص 281 بين ضربين من الشعر هما :
الشعر الذي يولده العقل كشعر المعري والمتنبي ، والشعر الذي تولده النفس ويعبر عن خلجاتها ويلاحظ عبود أن النقاد العرب اهتموا بالعقل لذلك حاموا في شعرهم _ حول المعاني ويرى أن حب العرب للشعر القائم على المجهود العقلي هو الذي دفعهم إلى تفضيل المعري على أنه لا يبالي بشيء من الفن )) .
وقد أبدى هذا الناقد العربي الكبير كرهه للشعر المنطقي في نقده لديوان الشاعر والقاص / عبد السلام العجيلي / (( ليالي النجوم )) واعتبر أن المنطق أضر بشعره في حين أفاد نثره إفادة عظيمة لأن قارئ الشعر المنطقي لا يستطيع أن يعثر على شخصية صاحبه .
يقول البحتري :
كلفتمونا حدود منطقتكم والشعر يغني عن صدقه كذبه
والشعر المعتبر عند عبود ما أتحدث فيه الكلمة بالمعنى إتحاداً فنياً مقدساً لا تنفصم عراه كالزواج الكاثوليكي .
لقد ولد الأدب من المعاناة ونتجت المعاناة عن التجربة التي هي أصلاً نوع من الحقيقة والمعرفة التي يتزود بها الإنسان من أجل أن يثبت جذوره في هذا الواقع . صحيح أن الأدب العربي معظمه لم يكن يرتكز على العقل ارتكازه على الوجدان إلا أنه كانت هناك شطحات تحدث فيها الشعراء عن حقائق الموت والكون والحياة ولقد تحدث الشعراء الجاهليون عن الموت وبدت تجاربهم من خلاله كبية ةإن كانت نظراتهم له بسيطة وسطحية فهذا طرفة في معلقته يصور لنا الموت تصويراً فذاً حين يقول :
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى كالطول المرخي وتناياه باليد
وهذا زهير يصف الموت وصفاً بسيطاً ولكنه واقعي :
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم
ولم تكن قصيدة الطلاسم لإيليا أبي ماضي إلا انعكاساً لحيرة الخيام في قضية الموت وإن فتحت آفاقاً جديدة في التفكير في جدلية الحياة والموت .
إن أهمية الأدب كفن من الفنون النافعة والمفيدة تأتي من كونه يحمل في نفعيته أهدافاً إنسانية ونشاطاً حيوياً ممهوراً باذة وهذا يعني أن نفعيته هي (( ما يحمله هذا الأدب من حقائق ومعانٍ تساهم في دفع مسيرة الحياة الفردية والجماعية )) صحيح أن بعض النقاد العرب فصلوا بين الشعر والأخلاق كالأصمعي إلا أن ذلك لا يعني ألا يحمل الأدب في ذاته حقائق وأفكاراً ومعاني ذات قيمة لأن الأدب كان في مرحلة من مراحله مختلطاً بالفلسفة والتاريخ والدين والسحر بل كان المعبر الرئيسي عن فكر الإنسان بجميع نواحيه ولو عدنا إلا نشوء المدارس الأدبية ابتداء من الكلاسيكية وانتهاء بالسريالية لوجدنا أن معظم هذه المدارس نشأ نتيجة خلافات حول وظيفة الأدب ودوره في الحياة وحول طبيعة الأدب وغاياته أيستطيع أن يحمل بين جناحيه معنى وفكراً وحقائق أم هو لذة فنية غايتها في ذاتها .
لقد نقل الأدباء من خلال ما ورثوه لنا عصورهم بما تحمله كم هموم وآلام وآمال وحقائق ومعان وأفكار وعادات وتقاليد لم يستطع المؤرخون والفلاسفة ورجال الفكر أن ينقلوها لنا بنفس السمة التي فعلها الأدباء ويكفي الإنسان فخراً أنه يتعلم من الأدب كيف يكون إنساناً .
إن من يزعمون أن الأدب لعب غايته التسلية ، ومن يرون في الأدب أنه غاية في ذاته ((نظرية الفن للفن )) هم واهمون بل على أبصارهم غشاوة لأن الإنسان أوجد الأدب لينقل للآخرين من خلاله حقائق الكون والحياة والوجود .
العاطفة وأهميتها في العمل الأدبي
إذا كان الأدب مزيجاً من الحقائق والعواطف والخيال يخاطب العقل والوجدان ، فإن العاطفة تلعب دوراً هاماً في إظهار كينونته لأنها أبرز عناصر العمل الأدبي تدفع الأديب للعمل وتوجه إرادته ولا يعد من الأدب ما لا يثير فينا العاطفة وهي العامل الوحيد المفرق بين الأدب والموسيقى صحيح أن الأدب والموسيقى يخاطبان العاطفة إلا أن الأول يخاطبها معتمداً على حقائق علمية ومواد عقلية بينما الثانية لا تعتمد في خطابها للعاطفة على الحقائق العلمية فالفكرة لا تنفصل عن العاطفة في الشعر ومعظم شعرنا العربي غنائي وجداني عاطفي مع أنه ليس من الدقة أن نسمي الشعر عاطفة لأنها جزء منه تحرك ينابيع الإلهام وهي الصورة الإيمائية غير البارزة التي ينم اللفظ والنغم عنها وتشف الصورة من خلالها ولا يصدر العمل الفني عن حالة هياج كما قيل بل تتبلور العاطفة بعد سكونها وتستحيل شعراً ، وقد يخلو الشعر من العاطفة ويبقى رفيعاً كشعر التصوير ووصف الطبيعة ولا يعدو الشعر أن يكون عاطفة وفناً في رأي مارون عبود يقول دعبل الخز اعي (( من أراد المديح فبالرغبة ومن أراد الهجاء فالبغضاء ومن أراد التشبيب فبالشوق والعشق ومن أراد المعاتبة فبالاستبطاء )) ويروى عن بعض نقاد العرب أنه قال (( أشعر الناس امرؤ القيس إذا غضب والنابغة إذا رهب وزهير إذا رغب والأعشى إذا طرب )) وأكثر ما يثير العاطفة شدة الشوق والعشق والفاجعة والغربة التي تثير الانفعالات في النفس وفقدان الشعر للعاطفة يجعله جافاً قليل الماء والرونق لا يبعث في النفس النشاط والحيوية والبهجة فقول لبيد :
ما عاتب الحر الكريم كنفسه والمرء يصلحه الجليس الصالح
فالبيت جيد المعنى والسبك قليل الماء والرونق ، ويرى أحمد أمين أنه (( من المستحيل وجود قياس مضبوط للعواطف )) يحدد درجة حرارتها أو برودتها إذا جاز لنا التعبير ولا تقدر العواطف إلا بقوتها وحيويتها وبما تحركه في نفوسنا وقلوبنا من مشاعر لأن التجربة الشعرية تساهم في قوة العاطفة التي هي مفتاح النغم ويمكن لنا أن ندّعي أن قوة العاطفة تعتمد على قوة الأسلوب لأنه المحرض للأحاسيس والعنصر الفعال في وضوح المعاني ومتى استطاعت العاطفة البقاء في نفوسنا مدة أطول كانت مؤثرة التأثير الحقيقي . إن العاطفة تقاس بخصبها وتنوعها وغناها وبدرجة رفعتها وضعتها وبمدى استمرارها في النفوس ويعزو مارون عبود توفيق عمر أبي ريشة فيما يخرجه من شعر إلا أنه يتحدث عما يحسه في صميم قلبه وإلى أنه يؤمن بما يكتبه :
أمتي هل لك بين الأمـم منبر للسيـف أو للقلـم
أتلقاك وطـرفي مطـرق خجلاً من أمسك المنصرم
ومع أنه لا يمكن لنا أن نحدد للعاطفة لا حجماً ولا ثقلاً ولا مكاناً في النفس إلا أننا نحس ونشعر بآثارها فالمرء إذا أحب أحب بكل كيانه لا بحاسة واحدة وإِذا كره كره بكل كيانه لا بحاسة واحدة وإِن العاطفة تقدّر بما تخلفه في نفس المتلقي من حرارة أو فتور أو ثورة أو هدوء أو قوة أو ضعف فقد تبلغ العاطفة ذروتها في بعض الأبياب وقد تنحط إلا الحضيض بحسب عمق انفعال الشاعر أو سطحيته .ولا يمكن الجزم بصدق العاطفة أو كذبها بشكل مطلق لأنه ربما كان الشاعر متكسبا و عاطفته قوية كشعر النابغة الذبياني في ملوك الغساسنة و كغزل جرير الذي أفرزه دون تجربة عشق حقيقي / بان الخليط ولو طووعت ما بانا/ وربما كان مبعث العاطفة الإعجاب الحقيقي كمدح زهير للحارث بن عوم وهرم بن سنان , ويبدو كذب العاطفة أحياناً من خلال معرفتنا حياة الشاعر وتجاربه و مذهبه في الحياة كغزل كثير عزة و مدائح المتنبي لكفور الإخشيدي :
أبا المسك ذا الوجه الذي كنت تائقاً إِليه وذا الوقت الذي كنت راجيا
إِذا كسب الناس المعـالي بالندى فإنك تعطي في نـداك المعا ليـا
بينما يبدع الشاعر نفسه في هجائه لكافور لأنه يصدر عن عاطفة صادقة :
والبعد ليس الحـرِ صالح بأخ لو أنه في ثيـاب الحـر مولد
ما كنت أحسبني أبقي إلى زمن يسيء بي فيه وهو محمود
ويحتاج الحكم على صدق العمل الأدبي إلى ملكة نقدية متمرسة متمرسة مطلّعة على كثير من النصوص مميزة بدقة وحساسية تبرز مكنونات الأديب وعلاقاته الاجتماعية والشخصية والسياسية فالحكم على صدق عند قيس بن ذريح سهل لأن الشاعر كان عذريا لم يعرف في حبه غير ليلى بينما الحكم على كذب العاطفة سهل عند عمر بن أبي ربيعة لأنه تنقل في علاقاته بين كثير من النساء ولم يبد همه إلا في اللهو واللعب والتسلية.
ويشير الدكتور محمد النويهي إلى أن صدق العاطفة يتمثل في الشروط التالية : ((أن تكون قد ألمت بالمشاعر نفسه _ أن تكون حدة التصوير فيها ناشئة عن حدة الشعور وقوة الحساسية لا عن رغبة في المبالغة في التصوير _ ألا يخالف التصوير نواميس الكون والحقائق والسلوك الإنساني _ أن يكون من شأن صنعة الأديب أن تزيد العاطفة جلاء وقرباً لا أن تقف أمامها حجاباً )) وليس الشاعر المحدث أصدق عاطفة من الشاعر القديم وإن كان الأول ملتزماً بقضايا أمته أكثر ، إن المشاعر العاطفية تتعدد في قصائد الشعراء وتنطلق من أحاسيس الشاعر وانفعالاته ومواقفه تجاه الحياة والكون والطبيعة والجمال والوطن والذات والغير ومع أننا نرى الشاعر مشرق العاطفة في بعض المواقف إلا أننا في الوقت نفسه نجده يصدر يصدر عن عاطفة باهتة بسبب قربه أو بعده من الموضوع الذي يتحدث عنه وبسبب حساسيته الزائدة تجاه موقف من المواقف ، إن اعتبار العواطف معادلات كيميائية تسير وفق قوانين دقيقة أمر فيه كثير من التعسف والبعد عن إصابة الحقيقة لأن العاطفة شعور نلمح أثره ولا نجد له مكاناً في داخل الإنسان ويؤثر فينا ولا نلمسه ويحرك خطانا بالاتجاه الذي يريد دون أن نشعر .
كتاب محاور الدراسة الأدبية : حسين علي الهنداوي
تاريخ النشر : 2006-10-09
