لماذا تُعد تجربة المغرب مختلفة؟
تاريخ النشر : 2023-09-24
لماذا تُعد تجربة المغرب مختلفة؟


لماذا تُعد تجربة المغرب مختلفة؟

بقلم: أدهم أبو سلميّة  - مدير العلاقات العربيّة والتّسويق  - مؤسّسة الخير

أكتب لكم من على متنِ الطّائرة وأنا في طريق العودةِ من دولةِ المغرب، بعد أحدَ عشر يومًا شاركتُ خلالها في مهمّة الإغاثة العاجلة لمتضرِّري زلزال المغرب‬.
 
وأثناء تصفُّحي العديدَ من الرّسائل التي وصلتني مُؤخّـرًا؛ وجدت أنّ بعضًا منها يدورُ حول سؤال: "لماذا تبدو تجربةُ المغرب مختلفة، بنظركَ، في سياق عملك الإنسانيّ؟"

إنّه سؤالٌ مُحقٌّ ويحظى بأهمّيّة كبيرة في تقديري، وسأحاول في ثنايا السُّطور التّالية الإجابةَ عنه بشيءٍ من التّفصيل. وغيرَ بعيدٍ عن معرفتكم؛ فقد شاركتُ خلال السّنوات الفائتة في العديدِ من الحملات ذات الطّابع الإنسانيّ، ابتداءً بفلسطينَ، مرورًا بالسّودان، ثمّ كينيا ولبنانَ وسوريا والهندَ، وليس آخرَها إغاثة المتضرّرين من زلزال تركيا وسُوريا الذي ضربهما مُؤخّـرًا وسبّب أضرارًا كارثيّة. ولا شكّ أنّ كلّ تجربة ميدانيّة ممّا سبق تمنحُك زخمًا معرفيًا وثقافيًا هائلًا؛ فالعمل تحت الضّغط المباشر، وفي المناطق التي شهدت كوارث طبيعيّة، لا تُشبهُ بحالٍ العمل في المناطقِ الأخرى التي لم تشهد كوارث مُماثلة. ففي هذه الحالة؛ سيُحتّم عليكَ هذا الظّرف غير الاعتياديّ أن تُنجز كمًّا هائلًا من المهمّات المُلحّـة في أوقاتٍ قياسيّة، وفي نطاق بيئةٍ جديدة لم تَعهدها من قبل، وفي سياق ثقافاتٍ مختلفةٍ؛ الأمر الذي يُحتّم مواصلةَ العملِ ساعاتٍ إضافيّة طويلة تحت ظروفٍ مادّيّة وجوّيّة ونفسيّة ضاغِطة وغير اعتياديّة، يترافق ذلك مع وقتٍ يسيرٍ للرّاحة والنّوم. إنّ كلّ ما سبق ذكرُه من حيثيّاتٍ يجعل لكلّ تجربةٍ نكهة خاصّة وطعمًا مختلفًا. 

أذكر مثلًا أنّ عملنا الإنسانيّ في غزّة خلال العدوان الأخير كان الأقسى والأشدّ من النّاحية النّفسيّة، ليس لأنّنا كنّا معرّضين للموت في أيّ لحظةٍ؛ بل لأنّ عائلاتنا كانت معَنا تحت هذا الخطر المباشر كذلك، وهو ما يجعلُ المرء أمامَ تحدٍّ يُفاضِلُ فيه بين النّزول إلى الميدان أو البقاء قرب العائلة في ظلّ  الخوف الشّديد! 

في الزّلزال الأخير الذي ضرب تركيا وسوريا؛ ساهمنا في العمل الإغاثيّ تحت درجات حرارةٍ منخفضةٍ للغايةِ وصلَت إلى ما دون درجة الصّفر، وأذكرُ أنّنا كنّا نخلُد للنّوم في خيمةٍ قماشيّة لم تكن تَقينا من الصّقيع الذي نَخَر عظامنا، وأحيانًا كنّا نأوي إلى جنَبات الطّرقات أو نحشُر أنفسنا في السّيّارات هربًا من البرد وابتغاء قسطٍ من الرّاحة، وبلغ بنا الحال أن كنّا نقطع مسافاتٍ طويلة جدًا للوصول إلى المُتّضرّرين. لقد كانت واحدةً من أعقد المهمّات التي عاينتُها، خاصّة أنّها استمرّت نحوًا من ثلاثة أشهر متواصلة. 

وليست تجربةُ السّودان خلال فيضانات عام ٢٠٢٠ بأقلّ صعوبةً؛ فالعملُ الإغاثيّ في صحراء قاحلةٍ على بعد ٤٥٠ كيلو مترًا من العاصمة الخرطوم زهاء ثمانية أيّام مُتتابعة كان يحملُ خطورةً جسيمةً، لدرجة أنّ رفيقي في الرّحلة آنذاكَ مازحني قائلًا: "إحنا رسمي مجانين".

هكذا تكون صورة التّجارب في أغلب الأحيان؛ صعبةً في ظاهرها لكنّها غنيّة في جوهرها، تُكسبُك ثقافةً واسعةً بأحوال الشّعوب، وتمنحكَ فرصًا ناميةً للتّعلّم كلّ يومٍ، إنّها تصنعُ منك شخصًا مختلفًا، وقد تكون قدرًا إلهيًّا لتطهير قلبك وروحك من أدران هذه الحياة، وسببًا يُوثّقُ صلاتكَ بأخيك الإنسان في كلّ أصقاع المعمورة. ومعها تستحضرُ خيريّة هذا العمل الذي أوصى به رسولنا الكريم صلّى اللّه عليه وسلّم. 

وبالعودة إلى المغرب؛ فالمغربُ العربيّ عمومًا يبدو لأهل الشّرق بعيدًا إذا ما قِيس بالمسافة المادّيّة، فلا تصلُ إلينا الكثيرُ من أخباره إلّا ما ندَر. وما يتفلّتُ إلينا من هذه الأخبارِ لا يعدو أن يكون بمعظمه غير واقعيّ، فغالبًا ما يكون أخلاطًا من الأخبار المُلتسبة التي تترافق مع بعض النّوايا السّيّئة التي تهدف إلى إذكاء الخلافات وبثّ الشِّقاقات، وإظهار البلد على غير صورته الحقيقيّة. وفي ظنّي أنّ هناك تقصيرًا مُشتركًا بين أهل المشرق وأهل المغرب في توثيق الرّوابط وتدعيم العلاقات. هذا ناهيك عن صعوبة اللّهجة المغربيّة، التي هي مزيجٌ من اللّغة المحكيّة التي يُداخلها كمّ هائل من المفردات الفرنسيّة، ممّا يُعقّد من مهمّتنا في نواحٍ معيّنة ويجعل تواصلنا مع النّاس مَشوبًا بقدرٍ من الصّعوبة. 

منذُ بداية العام الحاليّ؛ سَرَت في داخلي رغبةٌ شديدةٌ لزيارة المغرب، وقد شجّعني إلى ذلكَ أحد أصدقائي الذين تعرّفت إليهم أثناء أداء مهامي في العمل الخيريّ. لكنّ واقعة الزّلزال الذي أصاب تركيا وسوريا أعاد ترتيب أولويّاتي في ذلك الوقت. ثمّ أراد القدر لي أن أُولّيَ وجهي شطر المغرب عَقب الزّلزال الأليم الذي ضرب المغرب قبل أسبوعين. 

وصلتُ المغرب في جَمْعٍ من فريقِ العمل الخيريّ صباح اليوم التّالي للزّلزال، وكانت مُؤسّستنا من أولى المؤسّسات الدّوليّة التي وطئت أرض المغرب، ولا أكشف لكم سرًّا أنّنا هبطنا إلى مطار مراكش الدّوليّ ولم يكن أحدٌ في استقبالنا، ولا نملك أيّ خلفيّة مُسبقة عن البلد إلّا معلوماتٍ شحيحةٍ جمعناها عبر علاقاتنا مع بعض الأصدقاء. وبعد مشقّة كبيرة؛ عثرنا على فندقٍ جيّد للإقامة، ومن هناك بدأت رحلتنا... وما حصل بعد ذلك من أحداثٍ كان بمُجمله توفيقًا من اللّه تعالى ثمّ نتيجةً لطبيعة الشّعب المغربيّ الأصيل. 

وعلى الفور؛ شكّلنا ما يُشبه "غرفة العمليّات"، ونجخنا في العثور على شريكٍ محلّيٍّ موثوقٍ في اليوم الأوّل، كما نجحنا في تجهيز مركز "الإسناد اللّوجستيّ"، وفتحنا علاقة مع كلّ الجهات التي ستُسهّل عملنا الميدانيّ. حدث كلّ ذلك خلال خمس ساعاتٍ فقط، وقد شَهِدنا ترحيبًا كبيرًا وتسهيلًا منقطع النّظير من الشّعب المغربيّ، ساعدَنا في ذلك أنّنا فلسطينيّون؛ وهذا، من وجهة نظرهم، يُعدّ كافيًا لتوطيد أواصر الثّقة بيننا. 

وبالعودة إلى عملنا الميدانيّ؛ فقد طبعَت لنا مساجدُ مراكش صورةً ذهنيّة عن شعبٍ محافظٍ متّصل باللّه تعالى. لقد كانت المساجدُ ممتلئةً عن آخرها بضيوف الرّحمن في جميع الصّلوات. وعندما توجّهنا إلى القرى المُدمّرة والمتضرّرة من الزّلزال تفاجأنا من الصّبر والجلَد الذي تميّز به أهلُها، وكانت في كلّ مرّة تصحبنا دعواتُهم لنا بالتّوفيق والتّسديد من دون توقّف. لقد شاهدنا أنموذجًا رائعًا لتكاتفهم وتسانُدهم مع بعضهم بعضًا في إزالة مُخلّفات الزّلزال والبحث عن رمقٍ للحياةِ وسط ضجيج الموت والدّمار. صحيحٌ أنّ اللّهجة الأمازيغيّة لم تكن مفهومة من كبار السّنّ؛ لكنّ السّياق كان يُخبرنا بكلّ شيء.. 

ومن المفارقات العجيبة التي تركت أثراً عميقًا في داخلي؛ هو حُبّ الشّعب المغربيّ لفلسطين، لقد شعرتُ لحظتها أنّ قضيّتنا هي وسام فخر نطوف به في أصقاع هذه الدّنيا، وأنّ عملي الإنسانيّ ما هو إلّا رسالة حُبّ من فلسطين للعالم، وأنّي اليوم سفيرٌ للخير لأقول لكلّ المكلومين: "ها أنا ذا؛ الفلسطينيّ المكلومُ جئت لكم باسم فلسطين حُبّاً وطواعيةً"..

كم أنّ طبيعة سكان القرى المغربيّة تجعل لمهمّتنا رمزيّةً خاصّة وطعمًا مختلفًا؛ فهذه من المرّات القليلة التي أشاهد فيها أُناسًا متديّنين على الفطرة، متصالحين مع أنفسهم، ومع ما أصابهم من أهوالٍ وكوارث، إنّهم أهلُ كرم وجودٍ وأصالةٍ ونَجدةٍ بصورةٍ تجعلك تشعر بالحرج الشّديد؛ فلا أنت قادر على ردِّ كرمهم ولا أنت قادر على مجاراته، فما أن ننزل ضيوفًا على قرية من القرى المتضرّرة لنُقدّم لهم هدايا إخوانهم المسلمين المُحسنين حتى تنهال علينا الخيرات من كلّ مكان؛ شرابًا وطعامًا.. وكأنّهم يتنافسون إلى ذلك!

مهمّتي في المغرب كانت مختلفةً حقًّا، فنحن نسابق الزّمن لإنجاز عملنا الطارئ، وترتيب الميدان لمن سيأتي من بعدنا من الزّملاء لإكمال مهمّتنا الإنسانيّة، وفي الوقت نفسه نرتّب حاليًّا لتدخّلنا الإنسانيّ في دولة ليبيا، بعد أن ضربها الإعصار وخلّف وراءه آثارًا كارثيّة وضحايا بالآلاف رحمهم اللّه تعالى..

مهمّتي في المغرب انتهت هنا، لكنّي لن أنسى طالما حَيِيتُ أنّها كانت من أغزر التّجارب، وأنّها حملت لي مزيجًا من الألم على الضّحايا والمتضرّرين، والأمل بشعب قادر على مواجهة الصّعاب؛ فالتّكافل الاجتماعيّ والهبّة الشّعبيّة والرّسميّة وفزعة أهل المغرب لإغاثة أنفسهم وإخوانهم كانت أوضح رسالةٍ عن حقيقة هذا الشّعب العظيم..

غادي نتوحشكوم بزاف أهل المغرب
"الله يرحم ليكوم الوالدين"