العرب واللعب مع الكبار.. لعبة الممرات بين واشنطن وبكين
تاريخ النشر : 2023-09-21
العرب واللعب مع الكبار.. لعبة الممرات بين واشنطن وبكين
د. سمير الددا


العرب واللعب مع الكبار.. لعبة الممرات بين واشنطن وبكين 
 
بقلم: د. سمير الددا

على هامش القمة الثامنة عشر لمجموعة دول العشرين التي اختتمت اعمالها مطلع الاسبوع الماضي في العاصمة الهندية نيودلهي, تم توقيع مذكرات تفاهم لإنشاء مشروع "ممر اقتصادي" يتضمن تمديد سكك حديدية وربط موانئ بحرية، وشبكات نقل كهرباء وانابيب ضخ هيدروجين، وكابلات نقل البيانات, ويربط هذا الممر بين الهند واوروبا (اليونان) عبر الامارات والسعودية والاردن والكيان الصهيوني الذي سارع رئيس وزرائه نتنياهو الى زفاف الخبر بحماس منقطع النظير للغاصبين الصهاينة مبشراً اياهم بالمن والسلوى وبهذا "الاختراق التارخي" والاندماج في المنطقة بصورة غير مسبوقة, وهذا ربما يشير الى الهدف الحقيقي التي تسعى اليه الولايات المتحدة (عراب المشروع) وطفلها المدلل (الكيان المحتل) من وراء هذا المشروع.

لكل دولة من الدول التي يشملها المشروع لها اهدافها التي تسعى لتحقيقها من المشاركة فيه, الولايات المتحدة أبزر الدول المشاركة لها اهدافها ودوافعها للوقوف خلف مشروع من هذا النوع, وربما التوقيت يمكن ان يساعد في ادراك حقيقة اهداف واشنطن, فالمنطقة المرشحة لاحتضان المشروع من الهند الى اوربا عبر منطقة الخليج والاردن وفلسطين المحتلة والبحر المتوسط هي منطقة نفوذ امريكية منذ منتصف القرن الماضي تقريباً, ولم تفكر واشنطن في هكذا مشروع طيلة السبعين سنة الماضية, فلماذا الآن...؟.

الولايات المتحدة دولة عظمى وتفرض نفسها زعيمة للعالم منذ عقود واعتادت الهيمنة على الاخرين وتعتبر جميع دول مشروع الممر الاقتصادي حليفة تقليدية لها وتدور في فلكها, ولكن التجارب علمتنا طيلة العقود الماضية ان الولايات المتحدة باعتبارها القطب العالمي الاوحد تتعامل مع غيرها على هذا الاساس, ولا تعتبر الدول الاخرى انداداً لها أوحتى شركاء بمعنى الكلمة, فكل التحالفات والشراكات وحتى المنظمات الدولية التي تكون الولايات المتحدة طرفاً فيها, كحلف الناتو ومجموعة السبع ومجموعة العشرين وحتى الامم المتحدة ومجلس الامن وغيرها وغيرها, تكون هي صاحبة الكلمة الاولى والاخيرة في هذه الكيانات وليس من السهل الاعتقاد ان مشروع الممر الاقتصادي سيكون استثناءاً من هذه القاعدة فهذه طبيعة المرحلة وطبيعة الولايات المتحدة.

أراضي الولايات المتحدة تبعد آلاف الكيلومترات عن الحيز الجغرافي لمشروع الممر الاقتصادي, مما يقتضي منطقياً استبعاد امكانية ان يكون له مردود مباشر على ترويج تجارتها الدولية, وهذا يبعث على التساؤل لماذا كل هذا الاهتمام الملفت والاحتفاء الامريكي بالمشروع...؟؟؟

بالقطع ليس من اجل سواد عيون الدول الاخرى, وبالقطع هناك دوافع امريكية اخرى غير اقتصادية, وعلى الارجح انها سياسية, وهدف السياسة الاهم, البحث عن المصالح والعمل على تحقيقها.

الولايات المتحدة تعتقد ان انشاء هذا المشروع يحقق لها اهداف استراتيجة مهمة جدا منها انه يعزز تواجدها في المنطقة ويحكم قبضتها عليها وخصوصاً بعد تقاربت كلا من الصين وروسيا من بعض دول المنطقة المحورية في السنوات الاخيرة الماضية بعد ان قامت ادارات امريكية سابقة بتقليص التواجد الامريكي الامني والعسكري فيها.

وثانياً وربما الاهم, تنظر الولايات المتحدة لهذا المشروع في سياق حصارها لمنافستها القوية على زعامة العالم اقتصادياً (الصين) واعتقادها ان هذا المشروع سيكون منافساً لمشروع الحزام والطريق الذي تعتبره الولايات المتحدة أخطر الادوات التي توظفها الصين لتحقيق طموحاتها الاقتصادية والجيوسياسية كونه يمكنها من الوصول الى مختلف اركان الكرة الارضية ويسهل انتشارها سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وبسط نفوذها عالمياً بما يخدم هدفها الكبير في تكوين تكتلات وتحالفات لبناء نظام عالمي جديد.

في إطار تشويهها لمبادرة الحزام والطريق الصينية تدعي واشنطن ان بكين تهدف الى توظيف هذه المبادرة للسيطرة على الدول الفقيرة التي يشملها المشروع من خلال ما تسميه "مصيدة الديون" التي تقدمها الصين لتلك الدول لتمويل مشروعات المبادرة (موانئ وطرق ومطارات) وفي حالة عجز الدول عن السداد (وهو المرجح حسب الزعم الامريكي), تستولي الصين على تلك المشروعات, وتجدر الاشارة في هذا السياق ام الضغوط الامريكية على بعض الدول (ومنها دول تدور في الفلك الامريكي) المنخرطة في المشروع الصيني للابتعاد عنه لم تكلل بالنجاح.

كما تزعم القراءة الامريكية لمبادرة الحزام والطريق ان الصين تهدف الى الحصول على وارداتها من النفط والغاز وغيرها من مصادر الطاقة والمواد الخام ونقل صادراتها عبر مسارات اخرى يشملها المشروع لا تقع تحت سيطرة القوات العسكرية الامريكية وخصوصاً "مضيق ملقا" الواقع بين ماليزيا وسنغافورة من جهة واندونيسيا من جهة اخرى ويخضع بالكامل للسيطرة الامريكية والذي تمر منه اكثر من 80% من الواردات والصادرات الصينية, وهذا وتصر الولايات المتحدة بشدة على ان تبقى الواردات والصادرات الصينية تحت عينها وخاضعة لرقابتها المستمرة على مدار الساعة وتمر فقط عبر المسارات الخاضعة لسيطرتها كجزء من اجراءاتها الهادفة الى إحتواء وحصار الصين او حتى مواجهتها اذا لزم الامر.

أما السعودية, التي انضمت لمبادرة الحزام والطريق, وقد وقعت مع الصين خلال زيارة الرئيس شي جين بينغ للمملكة في شهر ديسمبر الماضي على خطة للمواءمة بين رؤية 2030 وهذه المبادرة الصينية, ها هي السعودية  تشارك ايضاً في مشروع الممر الاقتصادي من منطلق انه مشروع استثماري واقتصادي يتفق مع توجهاتها الاستراتيجية الجديدة, ويتساوق مع سياستها الجديدة الرامية الى بناء علاقات دولية متوازنة مع الشرق والغرب والانفتاح على الجميع والاستفادة من التكنولوجيات والخبرات المختلفة غرباً وشرقاً, كما يعزز سياسة تنوع المحافظ الاستثمارية وتنوع مصادر الدخل وفقاً لرؤية المملكة 2030.

بالاضافة الى ذلك, انضمام المملكة للمشروعين يمكنها من مساحات اضافية من التحرر السياسي والاقتصادي وتفويت الفرصة على أي جهة مهما كانت التأثير على القرار السعودي, مما يعزز استقلالية القرار وتكريسه فقط لخدمة المصالح الوطنية لا غير, كما يتيح للمملكة امكانية الخيار بين اي من المشروعين في حالة تعثر احدهما.

للمرة الاولى نرى الكيان الصهيوني ضمن مشروع اقتصادي اقليمي يضم عدة دول كلها لها علاقات معه, ما عدا السعودية التي تشترط عدة شروط لمثل هذه العلاقة, لذا فعلى الارجح ان هذا يشير الى ان الولايات المتحدة استجابت للشروط الامنية والعسكرية والسياسية السعودية وهي ابرام عقد دفاع مشترك يلزم واشنطن الدفاع عن السعودية في حال تعرضت لاي اعتداء خارجي تماماً كأنها عضو في حلف الناتو, ضمان حصول السعودية على أي اسلحة تحتاجها مهما كان كان مستواها التقني ودرجة تطورها وبالكمية التي تريدها وبدون اي قيود, حصول السعودية على برنامج نووي بتقنية امريكية يشمل تخصيب اليورانيوم داخلياً في المملكة بما في ذلك نقل التقنية والمعرفة والخبرة للكفاءات السعودية, هذا بالاضافة الى الشرط السياسي الذي دأب المسؤولون السعوديون على التأكيد عليه طيلة فترة الصراع العربي الصهيوني وهو تسوية القضية الفلسطينية وفقاً لقرارات الامم المتحدة ومقررات قمة بيروت بما في ذلك اقامة دولة فلسطينية على الاراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية, وهذا ما اشار اليه ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان في مقابلة اجرتها معه محطة فوكس نيوز بثتها الخميس 21 سبتمبر 2023 عندما قال ردا على سؤال حول التطبيع مع الكيان الصهيوني "القضية الفلسطينية مهمة جداً بالنسبة" واعتذر ولي العهد عن اعطاء مزيد من التفاصيل حول المفوضات مع الجانب الامريكي المتعلقة بهذا الامر ولكنه اكد انه يرىد ان يرى حياة طيبة للفلسطينيين.

وهذا ما اكد عليه وزير الخارجية الامريكي انطوني بلينكن في مقابلة معه الاربعاء 13 سبتمبر الجاري مع البرنامج الإذاعي "Pod Save the World" ونقلتها عدة وكالات انباء وقال فيها: "من الواضح أيضًا مما نسمعه من السعوديين أنه إذا أريد لهذه العملية المضي قدمًا، فإن الموضوع الفلسطيني سيكون مهما جدا أيضاً" وأكد بلينكن ان "السعودية أبلغت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بأن حل القضية الفلسطينية أمر بالغ الأهمية لأي اتفاق تطبيع مع إسرائيل".
وفي نهاية مقابلته شدد بلينكن: "على ان التطبيع الصهيوني مع العالم العربي وأي من الجهود الجارية لتحسين العلاقات بين الكيان الصهيوني وجيرانه، لا يمكن أن يكون بديلا عن حل قضية الفلسطينيين وتوفير مستقبل أفضل بكثير لهم", وختم بلينكن حديثه مشدداً "ذلك يجب أن يشمل حل الدولتين".

هذا التطور يعكس صلابة الموقف السعودي من القضية الفلسطينية, ومدى قوة تأثير المملكة ونفوذها الدولي والاقليمي والذي يستند الى مقومات اقتصادية ضخمة, وقوة عسكرية هائلة, ومكانة روحية ودينية كبيرة في العالمين العربي والاسلامي, وموقع استراتيجي مميز, ومساحة جعرافية شاسعة, وقوة ديمغرافية كبيرة, فدولة بهذه الامكانيات وخصوصاً في هذه الظروف الدولية الدقيقة التي تتنافس خلالها القوى العظمى الرئيسية على اجتذاب الدول الاقليمية المؤثرة وفي مقدمتها السعودية مما يعزز من نفوذها وقوتها ويمكنها من فرض شروطها، وهذا ما لمسه الجميع, وبالفعل فقد اثبتت التطورات المتلاحقة ان الولايات المتحدة لم يكن امامها الا تلبية الطلبات والشروط السعودية, وان السعودية الجديدة لم تعد تتردد في البحث عن مصالحها وتعزيز طموحاتها بغض النظر عن اي اعتبارات سواءاً امريكية او غيرها, وقد برهنت العديد من الاحداث والمواقف في السنوات الاخيرة ان السعوديين لديهم استقلالية تامة في رسم سياساتهم وتحديد خياراتهم وترتيب اولوياتهم، ويرفضون حصر أنفسهم في أطر متوارثة من الخيارات القسرية وقوالب مسبقة الصنع للعلاقات الدولية، ولن يقبلوا بأي حال من الاحوال من الان وصاعداً التفريط بجزء من مصالحهم حتى لو كان ذلك لحساب أطراف دولية نافذة.

أضف الى ذلك, فاصرار السعودية على حل القضية الفلسطينية ينم عن بعد نظر علاوة على انه احد ثوابت السياسة السعودية, فالكل يعلم ان احدى نقاط الضعف القاتلة للمشروع ان ميناء حيفا في فلسطين المحتلة يقع في مرمى نيران تنظيمات مسلحة (وبغض النظر كون البعض يراها حركات مقاومة او البعض الاخر يراها تنظيمات ارهابية), وقد سبق ان استهدفت بعض هذه التنطيمات هذا الميناء واخرجته من الخدمة, ويبدو ان الرياض ترى ان خير ضمانة لسلامة المشروع ومن اهم عوامل نجاحه ان يتم احلال السلام في المنطقة وحل القضية الفلسطينية.

وفي هذا السياق يرى معظم المحللين ان السعودية تختلف عن الدول التي طبعت مع الكيان, فتلك الدول اضطرت للذهاب الى مستنقع التطبيع تحت ضغوط احتياجات معينة (أمنية او سياسية او اقتصادية) في حين دولة بوزن السعودية لا يمكن ان تسمح بابتزازها او المساس بكرامتها وهويّتها الية وبثوابتها الوطنية، لقاء مكاسب متواضعة من هذا القبيل.....فالسعودية اكبر بكثير....وهي عمود الخيمة الذي ترتكز عليه القضايا العربية وخصوصاً القضية المركزية (قضية فلسطين) التي يوليها القادة السعوديون اولوية مطلقة توارثوها جيل بعد جيل.

مبادرة الحزام والطريق الذي اعلنت عنها الصين قبل حوالي 10 سنوات, مشروع عملاق,  يهدف إلى إحياء طرق التّجارة القديمة البريّة والبحريّة وليس له اهداف سياسية وليس موجه ضد احد كما صرح الرئيس الصيني شخصياً واكثر من مرة, ومن غير المنطقي مقارنته بمشروع الممر الاقتصادي فنياً ومن الصعب تخيل ان الثاني يمكنه ان ينافس الاول اذ لكل منهما طبيعته واهدافه المختلفة كما سنبين لاحقاً.

يرى معظم الخبراء ان الحزام والطريق هو اضخم مشروع بنية تحتية عرفته البشرية, فهو عبارة شبكات من الموانئ البحرية والطرق البرية وسكك الحديد والمطارات وخطوط الطاقة (الطاقة المستدامة, الكهرباء, النفط, الغاز), وخطوط الاتصالات ونقل البيانات الرقمية, ويربط بين شرق الكرة الارضية بغربها وشمالها بجنوبها ويشمل حوالي 30 منظمة دولية بالاضافة الى حوالي 150 دولة في العالم يسكنها اكثر من 60% من البشر وتساهم بأكثر من 50% من الناتج الاجمالي العالمي, وتبدأ من الصين شرقاً ومعظم دول قارة اسيا عبر هانوي الى اندونيسيا وسنغافورة وماليزيا عبر مضيق ملقا ثم سريلانكا والطرف الجنوبي للهند عبر جزر المالديف مروراً بمعظم دول افريقيا من مومباسا شرق إفريقيا، إلى جيبوتي، ثم عبر البحر الأحمر عبر قناة السويس إلى البحر الأبيض المتوسط ومن ثم الى 18 دولة اوروبية من إسطنبول وأثينا إلى أعالي البحر الأدرياتيكي إلى تقاطع تريست بشمال إيطاليا إلى وسط أوروبا والاتجاه نحو الى بحر الشمال, ثم الابحار للوصول الى العديد من دول في امريكا اللاتينية, وطبقاً لتصريحات وزير الخارجية الصيني فان المبادرة تشمل 3000 مشروع ضخم بما في ذلك 50 منطقة صناعية على طول خطوط سير المبادرة وتخلق حوالي نصف مليون فرصة عمل وتساعد على انتشال اكثر من 40 مليون انسان من تحت الفقر في الدول التي يمر بها, وقد بلغت تكاليف تلك المبادرة العلاقة حتى مارس الماضي حوالي تريليون دولار حسبما جاء في تصريح الوزير الصيني.

تجدر الاشارة الى ان الصين هي الشريك التجاري الاول للدول العربية بما فيها الخليجية، ومنطقياً ان تكون هذه الدول ضمن الحزام والطريق, وهذا ما صرحت به في بكين المتحدثة باسم الخارجية الصينية ماو نينغ، خلال مؤتمرها الصحفي في الثامن من شهر ديسمبر الماضي بقولها "إن الدول العربية تعد جزءا هاما من حضارة طريق الحرير وشريكا طبيعيا بمبادرة الحزام والطريق", ورغم ذلك لا يمر مساري المبادرة الصينية, لا الحزام ولا الطريق بأي من الدول العربية بما فيها الخليجية حيث أهم منتجي ومصدري النفط والغاز في العالم, عدا أنه يمر بالبحر الاحمر وقناة السويس, وهذا يعزز الاعتقاد أنّ اهداف المبادرة الصينية بمساريها البحري والبري لا تقتصر على تنمية التّجارة الدولية فقط, رغم تصريحات الرئيس الصيني ان المبادرة ليس لها ابعاد سياسية.

أما الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا هو مخطط هدفه المعلن تعزيز التنمية الاقتصادية من خلال تعزيز الاتصال والتكامل الاقتصادي بين آسيا والخليج العربي وأوروبا ويتكون الممر الاقتصادي من ممرين منفصلين، الممر الشرقي ويربط بين ميناء موندرا على الساحل الغربي للهند وبين ميناء الفجيرة ثم يستخدم خط السكة الحديد عبر السعودية والأردن لنقل البضائع عبر حاويات موحدة إلى ميناء حيفا على ساحل البحر الابيض المتوسط, والممر الغربي ويربط بين ميناء حيفا وموانئ اوروبية  على البحر المتوسط, وهذا الممر هو جزء من مشروع عالمي اعلنت عنه دول مجموعة السبع في اجتماع قادتها في شهر يونيو العام الماضي بجبال الالب البافارية بالمانيا واطلقت عليه (PGII – Partnership for Global Infrastructure and Investment Scheme) او "الشراكة من اجل البنية العالمية والاستثمار", وقدرت تكلفته بحوالي 600 مليار بكافة مساراته من الهند الى دول الاتحاد الاوروبي بالاضافة الى “ممر عبر إفريقيا” يربط ميناء لوبيتو الأنغولي بالمناطق غير الساحلية بمقاطعة كانانغا في جمهورية الكونغو الديمقراطية ومناطق تعدين النحاس في زامبيا كما قالت اورسولا فون ديرلاين رئيسة المفوضية الاوروبية في نيودلهي إبان الاعلان عن مشروع الممر, وهذه التكلفة الباهظة هي السبب الرئيسي وراء تعثر المشروع الى الان بسبب الاوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمر بها هذه الدول بسبب تخصيصها جزء مهم من مقدراتها للحرب في اوكرانيا.

يتمتع المشروع الذي تتوقع ان يستغرق انشاؤه حوالي 10 سنوات بأهمية اقتصادية كبيرة، فهو يهدف إلى إنشاء رابط اقتصادي مباشر بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا, وهذا سيؤدي هذا إلى زيادة التجارة والاستثمارات بين هذه المناطق، والى تطوير البنية التحتية للنقل والطاقة وسيؤدي إلى تعزيز النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل وتعزيز فرص السلام والاستقرار في المنطقة.

الهند ترى في المشروع فرصة لا تتعوض في الحصول على الدعم الامريكي لمنافسة الصين اقتصادياً وتعتقد ان هذا الممر ربما يساعدها في تحقيق هذا الطموح واغراء بعض الشركات الامريكية الكبرى العاملة في الصين للانتقال الى الهند, اضافة الى ذلك سيوفر المشروع للهند فرصًا جديدة للتصدير إلى الأسواق الأوروبية، كما سيساعد في تطوير البنية التحتية الهندية, اما الامارات والاردن من المتوقع ان يساعد المشروع في تطويرهما اقتصاديًا وتحقيق دخل اضافي بالاضافة الى تعزيز استقرارهما السياسي.

التنافس الفني (التنافس صحي ومحفز على زيادة الجودة ورفع كفاءة الاداء وتحسين مستوى الخدمة مع مراعاة تناسبية التكلفة), بين مبادرة الحزام والطريق ومشروع الممر الاقتصادي غير متكافئ  فالاول مشروع عملاق يحيط بالعالم من الشمال والجنوب برا وبحراً ويربط بين قاراته الاربع الرئيسية اسيا وافريقيا واوروبا وامريكا اللاتينية وتقدر تكاليفه بتريليونات الدولارات كما سبقت الاشارة, في حين ان الممر الاقتصادي يقتصر على بعض دول اسيا (الهند, الامارات, السعودية وفلسطين المحتلة) مع قارة اوربا, ولا يشمل بقية دول اسيا ومنها دول كبيرة ومؤثرة كايران وباكستان وتركيا وغيرها, ناهيك انه يتجاوز دول الخليج الاخرى, عمان, الكويت, البحرين وقطر, والاخيرة اكبر مصدر للغاز في العالم والهند من بين اكبر الدول المستوردة للغاز القطري, كما ان المشروع يتحدث فقط عن ثلاث دول من دول الساحل الغربي لافريقيا (اأنغولا, الكونغو الديمقراطية وزامبيا) في حين يتجاهل أهم الدول في قارة السمراء حيث اكبر مناجم المواد الخام كالنفط والغاز والالماس والذهب واليورانيوم والمنغنيز والليثيوم وغيرها, مما يثير الكثير من علامات الاستفهام حول طبيعة أهداف هذا المشروع.

المشروع "سياسي" بامتياز كما تراه واشنطن, فهو يهدف الى الالتفاف على المشروع الصيني المعروف بالحزام والطريق.....

وفي سياق غير منفصل, احتلت الصين المرتبة الاولى عالمياً في التبادل التجاري العالمي, فقد بلغ حجم التجارة الخارجية للصين عام 2022 حوالي 6.5 تريليون دولار من اجمالي التجارة الدولية العالمية التي بلغ حجمها في العام نفسه ما يقارب 25.5 تريليون دولار.

وبلغت نسبة صادراتها اكثر من 25% من من اجمالي الصادرات الدولية عام 2022 مما يؤهلها لتحتل المركز الاول عالمياً في حجم الصادرات العالمية وبفارق هائل عن اقرب منافسيها الولايات المتحدة التي تساهم بحوالي 12% فقط من صادرات العالم, فيما تقترب الولايات المتحدة من الصين في نسبة حصتها من حجم الواردات العالمية بحوالي 9% من اجمالي الواردات حول العالم وذلك وفقاً لبيانات منظمة التجارة العالمية لعام 2022.

وفقاً لبيانات منظمة التجارة تستحوذ الصين على اكثر من ربع الصادرات الدولية, مما يؤهلها لتكون الشريك التجاري الاول لمعظم دول العالم مثل دول الاتحاد الاوروبي ودول منطقة الخليج والمنطقة العربية ومعظم دول افريقيا ودول امريكا اللاتينية, بل هي الشريك التجاري الاول للولايات المتحدة نفسها بتبادل تجاري تجاوز 755 مليار دولار عام 2022 وبفائض في الميزان التجاري لصالح الصين بمبلغ 317 مليار دولار تقريباً, علاوة على ان الصين هي  اكبر سوق في العالم, ومنطقياً من الصعب تخيل جدوى مشروع يعني بالتجارة الدولية بدون اهم واكبر شريك تجاري في العالم واكبر شريك تجاري للدول المهتمة به.

و بالاضافة الى ما سبق, تأتي الولايات المتحدة في المرتبة الثانيةً من حيث مساهمتها في التجارة الدولية وتشكل مع الصين صاحبة المرتبة الاولى اكثر من ثلث تجارة العالم, ومشروع من هذا النوع لا يتعاطى مباشرة مع اي منهما فيما يتعلق بالتجارة الدولية لكليهما ستكون جدواه محل تساؤل.

هذا, ومن ناحية اخرى فإن حجم التجارة الدولية الذي وصل العام الماضي 2022 الى حوالي 25,5 تريليون دولار وفقاً لتقرير منظمة التجارة الدولية ينمو بنسبة تتراوح من 5 الى 9% سنوياً, ووهذه نسبة نمو عالية, وتقتضي توفير بنية تحتية قادرة على استيعاب هذا النمو وخدمة هذا الحجم الهائل, بما في ذلك مرافق التصدير ونقل السلع والخدمات كالحزام والطريق والممر الاقتصادي وغيرهما.

بالاضافة الى ما سبق, فان حجم الصادرات الصينية التي تقترب من ثلث الصادرات العالمية بالاضافة الى قدراتها التنافسية العالية وشراكاتها الاقتصادية مع معظم دول العالم, كل ذلك يضمن تشغيل مسار الحزام والطريق بوتيرة عالية بغض النظر عن اي مسار او ممرات تجارية اخرى.

هذا ناهيك عن التصور المبدأي للمشروع, فهو يقوم على نقل البضائع من الهند الى منطقة الخليج بحراً وما يتطلبه ذلك من تحميل وشحن وتفريغ من الامارات وومن ثم السعودية ومن ثم نقلها براً الى الاردن وبعد ذلك الى الكيان الصهيوني وما يتطلبه ذلك من تكاليف ووقت ومجهودات للتحميل والشحن والتفريغ, ثم التفتيش على حدود كل دولة بما يتطلب تنزيل واعادة شحن وما شابه, ومن ثم التنزيل والتفريغ على موانئ الكيان الصهيوني للشحن بحراً مرة اخرى لاوروبا وما يطلبه من شحن وتفريع وتنزيل وهذه اجراءات طويلة ومكلفة جداً, وتحتاج الى الشحنة لتقطع اربعة دول والمحيط الهادي والبحر المتوسط بالاضافة الى الكيان الصهيوني الى شهر على اقل تقدير بالاضافة الى تكاليف تحميل وتنزيل عدة مرات وشحن بري وبحري متعدد المراحل, وما يصاحب ذلك عادة من مخاطر تعرض البضائع للتلف نتيجة الشحن والتفريغ عدة مرات.

لن يحتاج الأمر لخبراء لاكتشاف ان انشاء ممر بهذا الحجم من الهند الى اوروبا لن يكون اجدى اقتصادياً من الطريق الحالي عبر المحيط الهادي وباب المندب وقناة السويس (خصوصاً اذا استبعدت عنه تجارة الصين والولايات المتحدة) اذ لا يتطلب هذا المسار الا التحميل مرة واحدة فقط, والرحلة البحرية للناقلات والسفن لا تستغرق اكثر من شهر على ابعد تقدير من السواحل الغربية للهند الى البحر المتوسط, ومعروف بداهة ان تكاليف الشحن البحري اقل بكثير من تكاليف الشحن البري والجوي.

يمر في القناة السويس ما بين 12 الى 20% من التجارة الدولية اي 16% في المتوسط, او ما قيمته حوالي 4 تريليون دولار في المتوسط.

ووفقاً لبيانات هيئة قناة السويس فان عدد الحاويات التي تعبر قناة السويس سنوياً حوالي 35 مليون حاوية ضخمة سنوياً تزن حوالي 1.5 مليار طن.

سرعة قطارات نقل البضائع لا تزيد سرعتها عن 120 كيلومتر في الساعة وهذه تحمل على الاكثر 75 حاوية قطارات, والمسافة بين ميناء استقبال الشحنات من الهند على سواحل دولة الامارات الشرقية الى سواحل البحر الابيض المتوسط عبر اراضي الدولة, والسعودية والاردن وفلسطين المحتلة تقدر بحوالي 2500 الى 2700 كيلو متر ولو اشتغل القطار على مدار العام بدون توقف, فانه يحتاج يوم كامل تقريباً اذا صار بدون توقف لاجراءات التفتيش الامني والجمركي وقضايا التهريب وخلافه, ثم يحتاج لاسبوعين على اقل تقدير للوصول اليونان

أي اذا اشتغل القطار على مدار العام بدون تعطيل اي 365 يوم سنوياً سيتم نقل حوالي 27 الف حاوية سنوياً وهذا الرقم تكاد ان تحمله سفينة واحدة تقريباً من السفن الضخمة, حتى لو اشتغلت 100 قطار بالتزامن رغم ان ذلك مستحيل فنياً فان اجمالي عدد الحاويات التي يمكنها نقله لا يقارن بعدد الحاويات التي تعبر قناة السويس (35 مليون حاوية).

تكلفة نقل الحاوية سعة 20 طن براً بواسطة الشاحنات لمدة كيلو متر واحد تقدر بحوالي 30 دولار في حين تكلفة نقل الحاوية على قطارات السكك الحديدية لمسافة كيلومتر واحد حوالي دولار ونصف تقريباً, اما تكلفة نقل الحاوية بحراً لنفس المسافة عبر قناة السويس فهي حوالي 3.5 سنت لا غير.

المسافة من الهند الى الامارات حوالي 1800 كيلومتر وتبلغ تكلفة نقل الحاوية بحراً عبر هذه المسافة 55 دولار.

المسافة من الامارات الى حيفا حوالي 2700 كيلومتر, تبلغ تكلفة نقل الحاوية بالقطارات خلالها حوالي 4050 دولار.

المسافة بين حيفا واليونان حوالي 1000 كيلومتر, تبلغ التكلفة لنقل الحاوية بحراً لهذه المسافة حوالي 30 دولار.

بناء على ما سبق, تبلغ اجمالي تكاليف نقل الحاوية الواحدة عبر الممر الاقتصادي المقترح حوالي 4135 دولار,

وتحتاج الشحنة لتصل الى وجهتها النهائية قطع مسافة 2700 كيلومتر عبر 6 دول غير متجانسة لوجستياً, امنياً وجمركياً مما يعني تفتيش وتحميل وتنزيل عدة مرات بالاضافة الى قطع 1800 كيلو متر في المحيط الهندي و1000 كيلو متر في البحر المتوسط, ولو افترضنا اجراءات التنزيل والتفتيش واعادة التحميل تحتاج من اربعة الى خمسة ايام في كل مرة, فالشحنة ستحتاج الى حوالي شهر على اقل تقدير لتصل من الهند الى اليونان او العكس.  

اما تكلفة نقل الحاوية الواحدة من بومباي عبر الطريق المعتاد عبر باب المندب والبحر الاحمر وقناة السويس والبحر المتوسط, فهي حوالي 210 دولار, كون المسافة من بومباي الى اليونان بحراً تقدر بحوالي 7000 كيلومتر وبتكلفة 3 سنتات ونصف للكيلومتر الواحد وتحتاج السفن من 3 - 4 اسابيع لهذه الرحلة حسب وتيرة حركة الملاحة في قناة السويس.

اي لا وجه للمقارنة بين تكلفة شحنة عبر خط ملاحي يكلف 210 دولار ونقل نفس الشحنة عبر خط اخر بتكلفة 4135 دولار وفي نفس المدة الزمنية تقريباً.

وفي هذا السياق قال رئيس هيئة قناة السويس المصرية أسامة ربيع إن الطرق المركبة التي تشمل طرقاً برية وبحرية وسكك حديد، معقدة للغاية وتستهلك الكثير من الوقت وبالتالي لن تستطيع منافسة قناة السويس, وأضاف ربيع ردا على سؤال حول الممر الاقتصادي في حوار تلفزيوني "أن التكلفة الاقتصادية والأمان والسرعة ستكون للنقل البحري، ولو أخذت الطرق البديلة –نسبة من حجم التجارة – من قناة السويس فلن تكون أكثر من واحد بالمئة في المئة".

أخر الكلام:

· رغم أن التجارة الخارجية للولايات المتحدة لا تستفيد مباشرة من المشروع حسب المعطيات المتاحة الى الان, إلا انه من الواضح ان واشنطن تولي المشروع اهمية استثنائية وترى فيه "تغيير لقواعد اللعبة" حسب تعبير المسؤولين الامريكيين, لانه تعتقد انه يمكنها من تعزيز وجودها في منطقة الشرق الاوسط واحكام قبضتها عليها بعد ان ارتخت قليلاً في السنوات القليلة الماضية مما سمح بدخول الصين وروسيا الى المنطقة ونسج علاقات مع بعض قادتها, وهذا ما تعمل واشنطن بكل قوة على وقفه وبأي وسيلة كانت, ووفقاً لوسائل الاعلام الامريكية وما يدور حالياً في اروقة صنع القرار في واشنطن فان خير ضمان يكفل لها ذلك هو ادماج الكيان الصهيوني في المنطقة وتمكينه من لعب الدور الاهم في شؤون المنطقة لضمان بقاءها تدور في الفلك الامريكي ودحر  التنين الصيني والدب الروسي بعيداً عنها, والولايات المتحدة اعلنتها صراحة واكثر من مرة انها لا تثق باي دولة في المنطقة الا في الكيان الصهيوني للقيام بهذا الدور, والسر الاستراتيجي وراء ذلك ان كليهما (الولايات المتحدة والكيان الصهيوني) يعرفان جيداً ان بقاء سيطرة الاولى على المنطقة يعني ببساطة استمرار بقاء وجود الثاني على قيد الحياة والعكس صحيح.

· من جهته الكيان الصهيوني يرى في المشروع فرصة ذهبية لتجاوز كل المشاريع والمحاولات العديدة الفاشلة التي استهدفت ادماجه في المنطقة, مثل صفقة القرن, والتطبيع وقناة البحرين الاحمر والميت وقناة البحر الميت والبحر المتوسط وغيرها من المشاريع الغير قابلة للتطبيق والتي ولدت ميتة واطلق عليها البعض " المشاريع الافلاطونية", ويرى فيه بعض الامريكيين قفزاً على الشروط السعودية للتطبيع والتي اشار اليها عدة صحف امريكية رزينة منها النيويورك تايمز,  صحيفة وول ستريت جورنال وصحيفة الواشنطن بوست.

·  نتمنى للمشروع الاخير كل النجاح والتوفيق لعله يكون دافعاً لتحريك الواقع السياسي المتجمد, الا ان الواقع والمنطق والتجربة والمتغيرات الدولية والظروف الاقليمية وخصوصاً قوى التطرف في الكيان الصهيوني تبعث على القلق من ان لا يكون مصيره افضل كثيراً مما سبقه, وخصوصاً أن الظروف الاقليمية التي اوجدت التحديات الفنية والاستراتيجية التي اعاقت تنفيذ المشاريع المشار اليها هي نفسها لم تتغير بل تزداد تعقيداً يوما بعد يوم وخصوصاً في ظل وجود حكومة صهيونية يمينية تضم اشد الارهابيين تطرفاً وعنصرية وكرهاً للعرب والمسلمين في تاريخ الكيان الصهيوني.

· وأخيراً, عند التمعن في خط سير الممر, يلاحظ بوضوح انحرافه نحو الشمال ليمر في الكيان الصهيوني مما يزيد في طوله من 25-30% فيما و كان مستقيماً ليصل مثلا الى ميناء العريش شمال سيناء او ميناء غزة وكلاهما على البحر المتوسط تماماً كميناء حيفا, مما يعني ضغطاً اضافياً على ميزانية المشروع وعلى مصاريف التشغيل وتكاليف النقل.....ولكنها السياسة قاتلها الله, فرائحتها في هذا المشروع تزكم الانوف.