النيجر.. إفريقيا لم تعد مجرد منجم وأهلها ليسوا مجرد عبيد
تاريخ النشر : 2023-08-07
النيجر.. إفريقيا لم تعد مجرد منجم وأهلها ليسوا مجرد عبيد
د. سمير الددا


النيجر.. إفريقيا لم تعد مجرد منجم وأهلها ليسوا مجرد عبيد

بقلم: د. سمير الددا

يبدو أن ايمانويل ماكرون اختار المهنة الخطأ ودخل الاليزية في غفلة من الزمن وبالصدفة, وهناك من بين الفرنسيين من حاولوا أن يفهموه ذلك على طريقتهم, فمنهم من صفعه على وجهه, ومنهم من بصق في محياه, ومنهم من رشقه بالبيض الفاسد ومنهم من رماه بالطماطم التالفة, الا انه لم يحس ولم يخجل وكابر وما يزال.

برهن ماكرون غير مرة أنه يستمرئ الفشل ويراهن على الخيارات الخاطئة معظم الاحيان, ليس فقط في ممارساته السياسية بل حتى في حياته الخاصة بما في ذلك اختياره لزوجته التي تكبره بربع قرن ولها ثلاثة ابناء من زاوج سابق (زوجها الاول اندري اوزري) وابنها البكر سيباستيان (مواليد 1975) يكبر ايمانويل ماكرون بسنتنين في حين ان اوسطهم لورانس اوزري في عمر ماكرون بالتمام والكمال (كلاهما مواليد 1977).

والأمر ينسحب على خياراته السياسية, فالرجل أفقد فرنسا هيبتها كونه بلا كاريزما وكرسي الرئاسة اكبر من مقاسه بكثير, هو أفشل من تولى الرئاسة في فرنسا في العصر الحديث.

يبدو أن افريقيا لعبت بواحد من أكبر وأهم أوراقها في مسيرتها المحفوفة بالمخاطر للتخلص من نير الاستعمار الذي أطبق على عنقها طيلة أكثر من قرن من الزمن وكان يكتم على انفاسها ونهب ثرواتها ويستعبد أهلها ويتركهم فريسة للجهل والجوع والفقر والعوز والمرض, رغم أن يعيشون على أرض تحتضن في داخلها كنوز كفيلة بأن تجعلهم من اثرى شعوب الأرض.

الجنرال عبد الرحمن تشياني, اسم سيخلده تاريخ افريقيا, فهو البطل الذي حمل روحه على راحته وتجرأ على ازاحة   احد أهم رجال فرنسا وربما اخرهم في دول الساحل الغربي لافريقيا, وليعلن انتهاء حقبة الاستعمار الفرنسي في بلاده ليحذو حذو كلاً من الكولونيل اسيمي غويتا في مالي والنقيب ابراهيم تراوري في بوركينا فاسو والكولونيل مامادي دومبوي في غينيا كوماكري, ليكتمل مشهد اكبر انتفاضة افريقية في وجه فرنسا اقبح وجه استعماري في العصر الحديث وبتأييد غير خفي من غينيا, يعلن الابطال الافارقة الثلاثة ان الوجود الفرنسي لم يعد مرغوباً في ارضهم, بل ذهبوا ابعد من ذلك وأوقفوا التعاون والتعامل مع فرنسا بما في ذلك منعها من سرقة المزيد من ثروات بلادهم وخصوصاً اليورانيوم والذهب والنفط والغاز والفحم وغيرها, وليصرخوا في وجه فرنسا وامريكا بأعلى أصواتهم "كفى اعتبار ارضنا مجرد منجم وشعبنا مجرد عبيد".

لم يكن انقلاب السادس والعشرين من الشهر الماضي في النيجر هو الاول في القارة الافريقية واغلب الظن أن الأطماع الاستعمارية في ثروات هذه القارة والتدخلات الاقليمية والدولية في شؤون دولها الداخلية كما رأينا ونرى هذه الايام, تشي بأنه لن يكون الاخير.

لم تكن الانقلابات في هذه الدولة الافريقية أو تلك تسترعي كل هذا الانتباه, ولم نكن نتصور ان الانقلاب الذي قاده الجنرال عبد الرحمن تشياني رئيس الحرس الجمهوري في جمهورية النيجر انه سيثير كل هذا القلق وتلك المخاوف في الغرب, علماً بأنه ليس الانقلاب الاول او الوحيد التي تشهده هذه الدولة البائسة الاشد فقراً عالمياً, فقد شهدت خمسة انقلابات خلال السنوات العشر الاخيرة فقط, وتقع في منطقة وسط غرب افريقيا وهذه منطقة معروفة بنشاطها الانقلابي الملفت حيث شهدت ما يقارب 10 إنقلابات خلال الاعوام الثلاثة الأخيرة فقط., لذا اصبح يطلق عليها "حزام الانقلابات", وهذه المنطقة جزء من افريقيا اكثر قارات العالم من حيث عدد الانقلابات التي شهدتها دولها والتي قدرتها مراكز دراسات استراتيجية غربية بحوالي 200 انقلاب في العقود الستة الاخيرة فقط.

لم يندهش العالم من انقلاب النيجر بحد ذاته, ولكن ما ادهش العالم هو ردود الفعل الهستيرية التي صدرت عن كبار الساسة في دول الغرب بما فيهم الرئيس الامريكي جو بايدن ووزير خارجيته انطوني بلينكن والرئيس الفرنسي ماكرون وكبار اركان حكومته, اورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضة الاوروبية الذراع التنفيذي للاتحاد الاوروبي وجوزيب بوريل مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد وغيرهم الكثير.

يكمن السر وراء كل هذه الهستيريا الفرنسية والغربية من الانقلاب الاخير انه هو الوحيد الذي لم يكن بترتيب أو إخراج فرنسي من بين كل الانقلابات الخمسة السابقة التي شهدتها النيجر خلال العقد الماضي, هذا بالاضافة الى عدة اسباب ازاحت عنها الستار احداث الايام القليلة الماضية ومنها:

أولاً: النيجر من أكبر دول العالم انتاجاً لليوارنيوم, والبعض يصنفه الثاني عالمياً بعد كازخستان, والملفت ان كل اليورانيوم الذي ينتج في كل انحاء هذا البلد المصنف من بين الدول الاشد فقراً في العالم تحتكره منذ عام 1971 شركة آريفا الفرنسية (العمود الفقري لقطاع الطاقة النووية الفرنسي) يشكل حوالي 40% من الاحتياجات النووية الفرنسية (العسكرية والمدنية) ويتم الاعتماد عليه في انتاج 70-80% من كهرباء فرنسا وبتكلفة زهيدة جداً تتراوح ما بين 150 الى 200 مليون دولار سنوياً ولم يطرأ اي تغير على هذه الاسعار طيلة الخمسين عاماً الماضية وفقاً لما اكده الرئيس النيجري السابق محمدو إيسوفو في مقابلة مع قناة الجزيرة.

هذا, في حين تبيع فرنسا كهرباء تنتجها مفاعلاتها النووية (التي يقارب عددها من الستين مفاعلاً وتعتمد في تشغيلها على اليورانيوم الذي ياتي نصفه تقريباً من النيجر) الى عدد من الدول اوروبية منها مثلاً  المانيا, اسبانيا, ايطاليا وغيرها بأكثر من 12 مليار دولار سنوياً, ولدى سؤال الرئيس السابق ايسوفو لماذا لم يغير هذه الاتفاقية البالغة الظلم ويعدل الاسعار عندما كان في السلطة ولديه صلاحيات تخوله ذلك,  تردد برهة قبل ان يجيب باقتضاب انه "لم يستطيع", مما يفسر مدى النفوذ والسيطرة الهائلين التي تملكهما فرنسا في هذا البلد الذي خضع لسيطرتها وكتمت انفاسه ونهبت ثرواته طيلة اكثر من قرن من الزمن تقريباً.

كل ذلك انتهى باعلان المجلس العسكري الذي استلم السلطة في النيجر مؤخراً تبنيه نفس الاجراءات التي سبقه في تطبيقها كلا من مالي وبوركينا فاسو وغينيا كوناكري الذين قرروا الوقف الفوري لشحنات اليورانيوم والذهب وغيرها الى فرنسا والغاء اتفاقيات التعاون معها, وهذا من شأنه ان يضع قطاع الطاقة الفرنسي امام تحدٍ حقيقي ويلقي بظلال كثيفة على مصير كهربة كل فرنسا وايضاً على مصير صادراتها الهائلة من الكهرباء المقدرة سنوياً بحوالي 12 مليار دولار, ويولد ضغوطاً اضافية على قطاعة الاوروبي والذي يعاني اصلاً من ازمة كبيرة منذ اكثر من عام اثر توقف امدادات الغاز الروسي الى اوروبا على اثر الحرب الروسية الاوكرانية في فبراير العام الماضي.

وربما الأهم من كل ما سبق في هذا السياق تداعيات هذا التطور على سير الحرب الاوكرانية الروسية, وربما اضطرار دول اوروبا بما فيها فرنسا الرجوع الى الغاز الروسي لتعويض النقص الهائل الناتج عن توقف امدادات اليورانيوم والنفط والغاز من الدول الافريقية (النيجر ومالي وبوركينا فاسو وغينيا), وهذا التطور سيدعم موقف روسيا الاستراتيجي امام دول حلف الناتو وخصوصاً الاوروربية, ومن شأنه ايضاً ان يعزز مطالبها باعادة النظرفي بعض العقوبات الغربية المفروضة عليها.

ثانياً: توجد في النيجر أكبر قاعدة للطائرات بدون طيار في العالم (قاعدة اغاديز) والتي بنتها امريكا عام 2019 ويوجد بها حالياً اكثر من 1000 عسكري امريكي وتقول مصادر غربية ان هذه القاعدة هي الاعلى تكلفة من بين مثيلاتها الامريكية, وتساور واشنطن مخاوف جدية من ان تتمكن روسيا الوصول لهذه القاعدة او تضع يدها على بعض طائراتها وتكشف سر تقنيتها المتطورة.

ثالثا: فرنسا لها هي الأخرى قاعدة جوية كبيرة للطائرات المقاتلة والمسيرات وبها حوالي 1000 جندي, وتساورها نفس المخاوف الامريكية.

رابعاً: بالاضافة إلى أن النيجر من أكبر الدول المنتجة والمصدرة لليورانيوم في العالم, فهي غنية ايضاً بالذهب والنفط والفحم, وبكميات هائلة, فمثلاً تقدر قيمة كميات الذهب المستخرجة سنوياً من مناجم تقع في محيط قاعدة اغاديز الجوية الامريكية في منطقة آرليت بحوالي 7-9 مليار دولار سنوياً, تصدر معظمها الى الامارات العربية المتحدة.

خامساً: والجزائر بالاضافة الى بوريكنا فاسو ومالي وغينيا كوناكري, اعلنت وقوفها مع الحكومة الجديدة في النيجر ضد اي تدخل خارجي, وهذا يعزز الانطباع السائد مؤخراً بأن محوراً جديداً بدأ يتشكل في هذه المنطقة من العالم والتي كانت لاكثر من 100 سنة منطقة نفوذ فرنسي, والانباء الواردة من هناك التي تفيد وصول اعداد كبيرة من قوات مجموعة فاغنر الروسية تكشف النقاب عن طبيعة هذا المحور قيد التشكيل.
 
على إثر تنديد المجلس العسكري باعلان فرنسا والغرب ومجموعة دول غرب افريقيا النية على استعمال القوة لاعادة الرئيس المعزول محمد بازوم, خرج معظم ابناء شعب النيجر الى شوارع العاصمة نيامي دعماً للمجلس العسكري الانتقالي، ووصلت الجماهير الى مبنى السفارة الفرنسية الذي يحتل موقعاً مميزاً في العاصمة نيامي وتدافعوا في محيطها وحاولوا حرقها باضرام النار في مداخلها, الا أنهم اكتفوا بحرق العلم الفرنسي هناك, في حين رفع بعضهم اعلام روسية ولوحوا بها امام المبنى, ولم يسجل اي اصابة بين الدبلوماسيين الفرنسيين اللذين كانوا داخل المبنى, ويرجع هذا التاييد الشعبي المبكر واللافت للانقلاب في نظر الكثير من المراقبين لعدة اسباب منها:

إن الشعب النيجيري شعب قبلي, والرئيس بازوم من الاقلية العربية, في حين ان قائد الانقلاب الجنرال تيشاني من الاكثرية الافريقية التي تمثل اغلبية سكان البلاد.

إن الشعب النيجيري من افقر شعوب العالم ومحبط تماماً من النظام المخلوع, وربما يرى في النظام الجديد بارقة امل في تحسين مستواه المعيشي على قاعدة لن يكون اسوأ مما نحن فيه.

الشعب النيجيري (الذي يصنف بأنه من افقر شعوب الدنيا رغم وفرة ثروات بلاده الطبيعية) ضاق ذرعاً بالاستعمار الفرنسي واعوانه (بما فيهم الرئيس بازوم), فالفرنسيون ينهبون خيرات البلاد بالمجان تقريباً ولا يأبهون بحال الشعب صاحب الثروات ويتركونه بين براثن الفقر والجهل والجريمة.

ينظر الفرنسيون لشعب النيجر أنهم مجرد تابعين لمنظمومة الفرانكوفونية وواجبهم الاساسي خدمة اسيادهم الفرنسيين ومن الطبيعي ان يمتلك الفرنسيون ثروات النيجر كونهم يمتلكون الارض وما عليها, وشعب النيجر يشعر بشدة بهذه الفوقية المقززة, وهذا الانقلاب يشكل فرصة ذهبية للانعتاق من هذه العبودية.

آخر الكلام:

· على المسؤولين في النيجر ان لا يقفوا مكتوفي الايدي امام نية وتصريحات السلطات الفرنسية ووما تبقى اتباعها التدخل في شؤونهم الداخلية وتصريحات المسؤولين الفرنسيين بامكانية استعمال القوة العسكرية لافشال انقلاب الجيش النيجيري, وعليهم ان يخرجوا من منطقة الدفاع الى مربع الهجوم لانه خير وسيلة للدفاع, بمعنى بدلاً من ان يعلنوا انهم سيتصدوا لتدخل فرنسا العسكري لاعادة رجلها المخلوع الى السلطة, عليهم المبادرة برفع دعاوي امام كل المحافل والمحاكم الدولية بطلب تعويضات من فرنسا مقابل استعمارها لبلادهم وسرقة مواردها طيلة اكثر من 100 عام والتي قد تفوق قيمتها التريليون دولار, ربما النظام الدولي القائم الخاضع لهيمنة الغرب (بما فيه ادواته القانونية) سيحيد عن الحق وسينحاز على الارجح للمسيطرين عليه ولن يكون منصفاً, ولكن بكل تأكيد فان النظام الدولي قيد التشكيل الذي تقوم على تأسيسه الصين وروسيا وبتأييد من دول وازنة كالهند والبرازيل وجنوب افريقيا ومعظم دول العالم في امريكا اللاتينية وافريقيا واسيا وحتي بعض دول اوروبا, سيكون اكثر عادلاً وسينصف النيجر وشعبها المستعبد طيلة اكثر من قرن الزمن, وكذلك سيكون الحال مع بقية الشعوب التي ظلمها الغرب ونهب مقدراتها وهذا اكثر ما يخيف الغرب ويدفعه لمحاربة اي تغيير في النظام القائم الذي يمنحهم مزايا لا تحصى بما فيها الحصانة من اي مطالبات للشعوب المظلومة التى وقعت تحت احتلال واستعمار وحتى استرقاق دول الغرب لهم ولعشرات وربما مئات السنوات بالاضافة الى الاستيلاء على ثرواتهم وتسخيرهم عبيداً للعمل في مناجم اليورانيوم والذهب وغيرها واستخراجها هذه الثروات ونقلها الى دول الاستعمار في الغرب مقابل الفتات وربما بدون مقابل.

· وأخيراً, فرنسا تستنكر وترفض ما اسماه المسؤولون الفرنسيون انقلاباً على رئيس النيجر, في حين ان النظام الفرنسي الحالي هي سليل اشهر الثورات في التاريخ والتي قادت انقلاباً في اواخر القرن الثامن عشر ادى الى اسقاط نظام حكم كان قائماً منذ مئات السنين بالقوة, وكل العالم صفق لهذا الانقلاب لانه كان انحيازاً الى جانب شعب مقهور ومضطهد, وهذا الحالة يمكن اسقاطها على الحالة النيجيرية مع الفارق ان الاخيرة كانت سلمية ولم تراق فيها نقطة دماء واحدة بعكس الحالة الفرنسية التي كانت في منتهى القسوة وسالت انهار الدماء في شوارع وساحات باريس التي تحولت حينذاك الى مدينة موت ورعب يشيب له شعر الوليد وابرز معالمها الباستيل, والمقصلة ولويس السادس عشر وماري انطوانيت التي لم تشفع لها نعومتها ولا دقة رأسها الصغير فقطعوه بلا رحمة وسط ساحة الكونكورد بتلك المقصلة المرعبة التي باتت من ابزر معالم الثورة الفرنسية.

ومن بيته من زجاج ..؟؟