بقلم: د. سمير الددا
يبدو أن الإدارة الأمريكية الحالية لم يحالفها الحظ في أي من الملفات الدولية المهمة التي وجدت نفسها منخرطة فيها سواء بارادتها اواجبرت على التعاطي معها, فمثلاً في ملف أوكرانيا, فإن أداء الساسة الأمريكيين يتسم بالقصور والتردد, وكل المؤشرات الواردة من جبهات المعارك هناك تشير الى فشل الولايات المتحدة التي تقود جهود حلف الناتو الرامية الى تحقيق أي انجازات ميدانية ايجابية تذكر تتماهى مع انهار المساعدات العسكرية الأمريكية والأوروبية المتدفقة على أوكرانيا, بل العكس هو الذي حدث, والقوات الروسية دمرت معظم الاسلحة والمنظومات العسكرية الغربية التي حصلت عليها اوكرانيا وروسيا هي التي حققت تقدماً مهماً واستولت على اراضي جديدة في اوكرانيا بعدما كبدتها خسائر بشرية ومادية فادحة.
وكذلك على المستوى الاقتصادي لم تكن للعقوبات الاطلسية الغير مسبوقة تاريخياً التاثير المتوقع على الجانب الروسي, بل الولايات المتحدة والدول الاوروبية هي عانت من آثار هذه العقوبات.
الفشل الأمريكي على الساحة الأوكرانية وارتفاع الأسعار وفشل السياسة الأمريكية في التصدي لنفوذ الصين وروسيا الذي يتزايد عالمياً بما في ذلك تحول الكثير من الدول في المنطقة واسيا وافريقيا باتجاه الشرق واخرها النيجر التي شهدت انقلاب عسكري سلمي الاربعاء الماضي 26 يوليو الجاري أطاح بالرئيس محمدو بازوم آخر مؤيدي الغرب في دول الساحل الافريقي الغربي ورفع مؤيدي الانقلاب العلم الروسي هناك (سيكون هذا موضوع مقال قادم ان شاء الله), هذا بالاضافة الى الارتفاع الحاد في الاسعار وتكاليف المعيشة في مختلف الولايات الامريكية والحوادث الدموية التي شهدتها ولاية الرئيس بايدن والتي راح ضحيتها العشرات من الابرياء وطلاب المدارس ورواد الاسواق والمنتزهات واماكن الترفيه في بعض الولايات ربما يكون هو الدافع لادارة الرئيس بايدن لمحاولة احراز انجاز ما في السياسة الخارجية لتسويقه الى المواطن الامريكي في الانتخابات الرئاسية المقررة العام القادم, لعل وعسى!
وهذا ما قد يفسر هذا الالحاح الأمريكي العجيب الغريب على تطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية والكيان الصهيوني والذي يكاد يكون الطموح الاكبر والهدف الاوحد للسياسة الخارجية الامريكية في الشرق الاوسط, وقد يكون البند الوحيد الذي حمله ويحمله كافة المسؤولين الامريكيين الذي دأبوا بإنتظام على الحجيج الى الرياض وجدة في الاشهر الأخيرة.
وفي هاذ السياق نقلت وكالة اسوشيتدبرس يوم الجمعة 28 شهر يوليو الجاري عن مسؤول في مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض، رفض كشف هويته، أن الرئيس الأمريكي جو بايدن أوفد مستشاره للامن القومي جيك سوليفان إلى السعودية لإجراء محادثات بشأن تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني, وأن الاخير اجتمع الخميس الماضي مع ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان وناقش الطرفان تطبيع العلاقات بين المملكة والكيان الصهيوني حسب الوكالة الامريكية, وكذلك شروط المملكة التي تتناولها وسائل الاعلام والمتمثلة في امتلاك برنامج نووي سلمي حر ومعاهدة دفاع مشترك تلزم الولايات المتحدة تجاه المملكة تماماً كالتزامها تجاه دول حلف الناتو طبقاً للبند الخامس من اتفاقية تاسيس الحلف وحصول المملكة على اي اسلحة امريكية نوعية بدون اي تقييدات بالاضافة الى المسألة الفلسطينية وفقاً لما نقلته وكالة اسوشيتدبرس.
من يتابع التغيرات الكبيرة التي تشهدها المملكة على كافة الأصعدة, يدرك تماماً ان طموح الرياض يتجاوز بكثير مجرد امتلاك برنامج نووي سلمي, فمثل هذا البرنامج لا يحتاج الى اذن من امريكا او غيرها, وان المملكة اليوم قادرة على الحصول على هذا البرنامج بكل يسر وسهولة ان ارادت لأنه حق طبيعي للمملكة او أي دولة تريد ان يكون لها مصادر طاقة سلمية نووية وفقاً للاعراف الدولية, , ولان ذلك ليس من شأن امريكا اصلاً, ومن المفروض ان امريكا هي أخر من يتحدث عن الشأن النووي, لانها هي أول من اوجدت السلاح النووي على ظهر الارض وقامت باجراء أول تجربة لقنبلة نووية في تاريخ البشرية بمدينة لوس الاموس (ولاية نيومكسيكو) في شهر يوليو عام 1945 (ضمن ما عرف حينها بمشروع مانهاتن), والمرعب انها سارعت الى استعماله فعلياً بعد اقل من شهرين من تاريخ هذه التجربة ضد اليابان في شهر اغسطس 1945 واسفر ذلك عن مقتل مئات الالاف من البشر في دقائق معدودة, مما خلق حالة من الرعب غير مسبوقة تاريخياً حول العالم, وهذا الاجرام الامريكي الدموي هو بالضبط الذي دفع دول اخرى الى تطوير السلاح النووي لحماية انفسهم بايجاد نوع من الردع لمواجهة هذا الارهاب الامريكي الارعن, وكان في مقدمة تلك الدول الاتحاد السوفيتي الذي بات يمتلك السلاح النووي عام 1949 ثم تلاه كل من الصين وفرنسا وبريطانيا والكيان الصهيوني والهند وباكستان وكوريا الشمالية وهناك دول تسعى للحصول على السلاح النووي, اي ان الولايات المتحدة هي السبب الاول والاخير في انتشار السلاح النووي في العالم, وهي التي سنت هذه السنة الاجرامية, وهي بالتالي تتحمل وزر ومسؤولية انتشار السلاح النووي وتتحمل ما قد يترتب على ذلك من تبعات ونتائج الى ان يرث الله الارض وما عليها.
المعروف أن الولايات المتحدة هي أول وهي آخر (اي الوحيدة) من استعمل السلاح النووي فعلياً ضد البشر في التاريخ, وها هي بكل وقاحة تتباكى تحسباً لانتشاره والأوقح انها تقف بالمرصاد لكل من يحاول اقتناء تكنولوجيا نووية للاغراض السلمية المدنية بحجة حرصها على سلامة وامن البشرية كما تزعم, والمؤكد ان البشرية ستكون بالف خير لو تركتها الولايات المتحدة لشأنها وسلمت من شرها!
البرنامج النووي السلمي لاغراض مدنية متاح للجميع بلا أي ثمن سياسي لكل دول العالم ما دام انه سلمي ويخضع لاشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية, واعتقد جازماً ان طموحات المملكة العربية السعودية أبعد من ذلك بكثير, فالمملكة باتت في صدارة العالم العربي اقتصادياً وسياسياً وفي غيرها من المجالات, كما انها تحظى بمكانة رفيعة ومميزة في قلب ووجدان العالم الاسلامي وتهوى اليها افئدة حوالي ملياري مسلم حول العالم, مما يمنحها نفوذاً وقوةً ناعمةً هائلين, وعليه فمن غير الوارد لدولة بهذا الحجم وبهذه المكانة وهذا النفوذ ان تقبل بمجرد برنامج نووي سلمي متاح لاي دولة, ان يكون موضوع تفاوض بينها وبين الولايات المتحدة او غيرها مقابل ثمن سياسي باهظ "كالتطبيع" مع كيان غاصب لاراضي شعوب عربية ومقدسات اسلامية, وقطعاّ من غير الوارد ان تقبل قيادتها التي يشهد العالم كله مدى صلابتها وقوتها وكفاءتها ونضوجها وطموحها ووعيها وبعد نظرها ان يكون هذا البرنامج العادي جزء من ثمن لصفقة سياسية ضخمة بوزن التطبيع, فقد أكدت المملكة مرات عديدة وفي محافل دولية متعددة وعلى كافة المستويات ان التطبيع مع الكيان الصهيوني سيكون فقط وفقاً لمبادرة السلام السعودية التي اقرتها قمة بيروت عام 2002 واصبحت مبادرة عربية اهم بنودها انسحاب العصابات الصهيونية المغتصبة من الاراضي الفلسطينية التي سطت عليها بقوة السلاح عام 1967 واقامة دولة فلسطينية عليها عاصمتها القدس الشرقية وتسوية قضية اللاجئين الفلسطينيين وفقاً لقرارات الشرعية الدولية ذات العلاقة.
أما القول بأن الولايات المتحدة تقايض المملكة على عقد صفقة تتضمن تعهد امريكي بحماية المملكة من اي اعتداءات خارجية كتعهدها لاي دولة من حلف الناتو وفقاً للبند الخامس من اتفاقية تاسيس الحلف, المملكة يمكنها ان تحصل على مثل هذه الحماية من مصادر اخرى (دولية او حتى اقليمية) بمقابل مالي وبدون ان تكون مضطرة لدفع مقابل سياسي ضخم يمكن ان يؤثر على مكانتها او نفوذها في العالمين العربي والاسلامي.
أما القول بأن المملكة تطالب بمقايضة التطبيع بالحصول على اسلحة امريكية متطورة كطائرات اف 35 او منظومة الدفاع الجوي "ثاد", فهذا ايضاً يمكن الرد عليه بنفس المنطق السابق, حيث ان هناك دول عظمى على اتم الاستعداد بل تتمنى ان تلبي للمملكة كل طلباتها وما تحتاجه من احدث واكفاً انواع الاسلحة بما يفوق اف 35 وثاد وما بعدهما.
من يدرك أهمية ووزن المملكة العربية السعودية ويدرك مدى طموح قادتها من المنطقي ان يتبادر الى ذهنه ما هو اكبر من كل هذه البديهيات, وانها لن توقع على اي اتفاقيات تطبيع قبل قيام دولة فلسطينية كما اشرنا وهذا الان بات في متناول يدها واقرب من اي وقت مضى, وهذا ما تنادي به المملكة منذ عقود وفقاً لكل قرارت الامم المتحدة ومجلس الامن وقرارات القمم العربية والاسلامية, وثانياً لن تقبل الرياض بأقل من برنامج نووي لكافة الاغراض وحسب ما تقتضيه مصالحها واحتياجاتها سواءاً المدنية او غيرها.
آخر الكلام:
لم يعد سراً ان هدف زيارات المسؤولين الامريكيين المنتظمة للمملكة هو محاولات مستميتة لثني المملكة عن التحول شرقاً وابقائها باتجاه الغرب وخصوصاً ان العديد من وكالات الانباء الاقليمية والعالمية تداولت بكثافة في الاونة الاخيرة ان المملكة تنوي الانضمام لمجموعة "بريكس" التي اسستها الصين وروسيا كمنافس أو بديل منتظر لمجموعة السبع الكبار التي تتزعمها الولايات المتحدة, هذا ومن المقرر ان يعقد زعماء دول "بريكس" اجتماعاً على مستوى القمة يوم الاحد القادم 6 اغسطس في جنوب افريقيا وتشير معظم التقارير التي تناولت هذا الاجتماع ان طلب انضمام السعودية وغيرها من الدول سيكون على اجندة هذه القمة, وان حدث ذلك وهو المرجح, ربما يؤثر ذلك على مكانة الولايات المتحدة عالمياً وربما على امنها القومي, وهذا هو ما يدفع الامريكيين لمسابقة الريح على امل ان تنجح مساعيهم لاقناع الرياض بتغير رأيها, ويرى الامريكيون ان انجع الوصفات التي تضمن إبطاء او تعطيل توجه المملكة شرقاً هي توقيعها لصفقة تطبيع علاقاتها مع الكيان الصهيوني الذي تعتبره واشنطن الولاية الامريكية الحادية والخمسين.
الظروف الدولية الحالية تتيح للمملكة فرصة ذهبية لتفرض على الولايات المتحدة كل شروطها وحتى شروط اشقائها العرب, وكل المؤشرات والمعطيات الدولية المستجدة تشير الى انه بإمكانها فرض كل ما تريده بل وما يريده اشقاؤها من براثن الولايات المتحدة بما في ذلك حصولها على قدرات نووية غير مشروطة وكل الاسلحة التي تحتاجها كماً ونوعاً, وحل القضية الفلسطينية وفقاً للرؤية السعودية التي تبنتها القمة العربية التي انعقدت في بيروت عام 2002, مما يتوجهها للتربع على عرش العرب بلا منازع لقرون قادمة وهي مؤهلة لذلك وقادرة على تحقيقه ان شاء الله وبكل جدارة, مما يذكر بما تنبأ به في مطلع التسعينات زبيغو بريجينسكي مستشار الامن القومي في ادارة الرئيس الامريكي الاسبق جيمي كارتر قائلاً "ان العربية السعودية هي من تستطيع حل القضية الفلسطينية".
سؤوال المليون دولار كما يقولون, هل سنحت الظروف الدولية لنبوءة بريجينسكي أن تصبح واقعاً.
الأيام القادمة كفيلة بالاجابة.