بقلم: محمد محمد محمد أبو ريا
إنها توجيهي ، تلك المرحلة المُخبر عنها، تلك التي استطاعت أن تشق لنفسها طريقاً، فتربّعت في المجتمع ذِكراً وموسماً، وخبراً لا يُؤجل، والآن دعونا نتخطى مرحلة استحقاقها من عدمه، ونتخطى حديثنا حول معيارية التصنيف، ونتجاوز -على مضض- كلاماً طويلاً حول توجيهي؛ لنتخطى ذلك كله إلى كيفية اختيار تخصصك صديقي.
أرجو منك صدراً رحباً، فأنا أعلم أنك ضقت ذرعاً من الآراء ووجهات النظر، ومن حديث الناس الطويل، فاحتملني ودعنا نصفف حديثنا تدريجياً.
اعلم أنّ الناس تحب مشاركة مشاعرها وتجاربها، وكذلك تحب السخرية من هموم حياتها بروايتها، وتحب إرداء وجهات نظرها رداء الحقائق، وغالبيتهم يرون بالذاتيّة على حساب الموضوعيّة، المهم لا منجاة من حديثهم، ولكن هناك طريقة تلقي واعية، عليك التسلح بها.
أما أنا آتٍ إليك بحديثٍ آخر، وأيقن أني لست باحثاً أكاديمياً، ولا شيخاً محني الظهر، ولست مستعيراً لسان التنمية البشرية، والوقائع الوردية، ولست المعري بفلسفته السوداوية، ولكني أحاول وصفاً لمسار، من مسارات عديدة تجدها في معترك حياتك.
يا صديقي، إن كنتُ رفضتُ لك نصائحهم، أفتظنني آتٍ لتليين عضلة لساني عندك وتقديم نصيحتي لك على أنها الصواب؟ أو هل تظنني قادم لأخبرك ما تسلك؟.
لا، ليس ذلك كله، ما أحاول إخبارك به قد وصلنا لمنتصفه، تنفّس بأسطري القادمة وأوجز لنفسك.
أنا يا صديقي في صفّك، ومع اختيارك، ولكن ما أحاول تسليط الضوء عليه هو أننا في مضمار الحياة، تلك الحياة التي علينا الإيمان بتخطي ضفتيها بلا أدني تصنيف، علينا الإيمان بخوضها متخطين قولبتها بنجاحٍ أو فشل، إلى رحلةِ ما بعد ذلك، مرحلة الخوض، سيخبرك الناس ناصحين بقلبٍ رؤوف: "تغلطش غلطي".
وأنا أقول لك خذ بنصيحتهم هذه، ولا تخطئ خطأهم، ولكنني أدعوك لتخطئ خطأك، ولتخض تجاربك، ولترغم أنفك بالتراب، وفي الحياة متسع، الحياة تتسع بالتجارب، وتضيق بالقوالب وبالنصائح الروتينية، وبالصراعات وبتصنيفات النجاح والفشل المطلقة، الحياة خوض، والخوض أبعد مرحلةً مما نسميه نجاحاً أو فشلاً.
إذن استمع يا صديقي للجميع، لكن اعلم كيف تستمع، استمع وفق وعيك الذي تشكله بنفسك، وعيك المستقل، فالوعي هو الضامن الوحيد لك، فسافر في نفسك واستمع لها في ظلِّ الواقع، واستمع لنصائح الآخرين وابحث في بعض أحاديثٍ منهم بين ما تغلبه الذاتيّة، وما تنتصر فيه الموضوعيّة، ثم استنتج، ثم لا شيء مطلق، وكلٌّ يحتمل وجهاً آخر.
نعم، ما أودّ اخبارك به، هو أن تخض طريقك، وتابع كما يتابع الآخرين، لكن بوعي، ولا تعمم الحالات الشاذة المرتدية زي البطولة على أنها قاعدة، ولا تستفرد بالتميز كأنه لك، كما لا تعش دور الضحية، والمطحون في آلة الطحن الجماعية، وشق طريقك حسب رغبتك كإنسان وسط أناسيّ كثيرا، وبحسب رغبتك، رغبتك في ظل الواقع، فالإبداع هو الرغبة الواقعية، والحمق هو الرغبة الوهمية، ولا ضير من تشبع التخصصات، فنحن في الهاوية، وكل التخصصات مزدحمة، ولكن عليك أن تشق طريقك فيما ترغب، ورحم الله امرئ عرف قدر نفسه، ما تحبه سيحبك صدقني، فلا تضيّع سنوات عمرك في وهم، ولا تحرقها في عَدَم، ودعنا نقف عند مثالين:
إن تحدثتَ بمصداقيّة مع نفسك، وعرفتها، لن تضطر لتضييع أربع سنوات في كلية التربية (مثلاً، نظراً لأن مفتاح تنسيقها من 65%) ومن ثم تتخرج زاحفاً، ومن ثم مصطفاً في طوابير البطالة، وبدلا من ذلك تأخذ الطريق من قصيرها، وتعلم أنك تبدع مهنياً لا أكاديمياً، وتسلك صنعةً تُظل بها مستقبلك من الهجير المقيم.
وفي مثالٍ آخر، لو لم تعلم نفسك، واستمعت للآخرين، لاصطدمتَ بكذبة العصر المروّج لها: "ادرس الIT وقص ذهب". فتساق كما الأغنام، ناظراً أمامك ذهباً، والحقيقة أنك تسبح في سراب، فتخصص الIT ليس بفتاةٍ لقيطةٍ لا مدفوعاً لها مهرا أو مهارة، فلو تناسيت مطلب نفسك، وأخذت مجرد النصيحة، وسلكت طريق المستقبل، ستجد أنك تبحث عن زر الENTER، فاعلم درجة توافقك، فما يطلبه العصر بشدةٍ عالية، لا يعني ذلك صكٌّ للولوج والخروج بجدوى وقيمة، والواقع خير دليل، والخريجون شاهدون.
ذلك كله دعوة صريحة لأن تستمع لنفسك جيداً، وتعبر طريقك بخطواتك لا بخطوات الآخرين، خذ من الآخرين أوصاف الطريق ولكن لا تهمّش عينيك، ولا تخطو بأقدام غيرك إن أردت المسير.
في النهاية تسلح بالوعي، ذلك المتجدد المستمر، الذي يبدأ من نقطةٍ لا تراها، فهي لا تظهر في بهرج الأضواء، مستكنةٌ داخلك، ثم تمرّد على تصنيفات المجتمع، والمعايير المقولبة للإنسان العظيم، الذي يسبق بوجوده هذه التصنيفات وهذه المعايير، ذلك الإنسان هو المصطلح الحقيقي، قبل تلكم المصطلحات العديدة التي أصبحنا نذل أنفسنا تحتها لتعطينا تعريفات حول من نكون!
فدعونا ننهي حديثنا من حيث بدأنا، فشقّ طريقك، وأخطأ خطأك، والحياة تتسع بالتجارب.
هي دعوة منكشفة لتشكيل المساحة التي تليق بك أنت، هي دعوة لتشكيل وعيك المستقل، للتمرد على المصطلحات المقولبة، للأضواء المنافقة، ولتشق طريقك بسلامٍ وطمأنية وفي الحياة، لا في تصنيفات الحياة.