جنين تبحث عن الحياة
بعد الاجتياح الكبير الأخير لمخيم جنين، والذي جاء بعد اجتياحات متعددة أصغر منه في الشهور الأخيرة، وبعد نشوة النصر وتعزيز الصمود من جهة وبكاء الشهداء وألم الجرحى ومنظر الدمار من جهة أخرى، ربما آن الأوان أن نفكر خارج البوتقة، خارج الصندوق أو خارج الخزان: ماذا بعد؟ إلى أين تسير الأمور في جنين؟
لقد تعودنا على الحياة التي لا تخطيط لها، فنحن نستقبل قدرنا كل يوم ونتمسك بأملنا الجميل دون أن نخطط بعقل وروية وبُعد نظر. ربما انقساماتنا وكثرة أشلائنا هي السبب، ربما يأسنا وخيبات أملنا هي السبب. لكن النتيجة واحدة: نحن نتقبل قدرنا كل يوم كما هو، مقتنعين أن هذا هو الموجود. علينا أن نقتنع أنه يجب تغيير الموجود للحصول على المنشود! من حقنا أن نحلم بالنصر والعودة والتحرير، ومن أجل ذلك، علينا حالياً أن نحيا لنحقق الأمل!
لا يختلف إثنان على أن جنين لها وضع أمني خاص سواء من ناحية النشاط المسلح لشباب المقاومة أو من ناحية مدى السيطرة الأمنية للسلطة الفلسطينية الرسمية، سواءً من الشرطة والقوى الأمنية الأخرى إلى البلدية وأذرعتها وحتى الحمائلية وقوتها والتأثير القوي لشخصيات معينة أو فصائل معينة.
باختصار فإن الوضع هناك مركب ومعقد، سواء في جنين المخيم أو جنين المدينة، وحتى بعض الأماكن المجاورة للمدينة. هذا الوضع مستمر منذ سنوات، إلا أنه أخذ بعداً جديداً مؤخراً قبل وبعد اقتحامات جيش الاحتلال الأخيرة والتطورات الأمنية الحادة في الأشهر الأخيرة.
هذا الوضع ليس بالوضع الطبيعي مقارنة بباقي مناطق الضفة بما في ذلك مدينة نابلس. وهذا يستوجب وقفة تأمل وتفكير.
ما من شك أن الإجماع على مسألة مقاومة الاحتلال ليس عليه أي نقاش وليست هي المقصودة بسوء الوضع الأمني في المدينة، إنما الانفلات الأمني هو محل النقاش، وهو أمر محتلف. و
لقد بلغ سوء الفوضى الأمنية في المدينة درجة تجعل المواطن في المدينة يخشى من سيطرة بعض الجهات غير المسؤولة على مقدرات المدينة والتنكر للسلطة الشرعية الفلسطينة وهذا يؤدي طبعاً إلى ضرب الحياة الاقتصادية وأمن السكان وربما عزل المدينة أمنياً واقتصادياً عن باقي أنحاء الوطن، وهذا يصب أولاً وأخيراً في مصلحة الاحتلال .
إن شرعية السلطة الوطنية الفلسطينية يجب أن تبقى هي الأساس وهي الضمان الأكبر لأمن المدينة ولحياة سكانها الاجتماعية والاقتصادية واليومية، ولضمان عمل جهازي التعليم والصحة والموارد المختلفة للمدينة وليس هناك من يمكن أن يكون بديلاً عن ذلك .
يحتاج المواطن أولاً وبشكل لا يقبل النقاش إلى لقمة عيشه. ولقمة العيش تعتمد أولاً على توفر العمل وتوفر الطعام والملبس وسير التجارة والزراعة والصناعة بشكل طبيعي ومتواصل، وهذا لا يتوفر إذا لم يتوفر الأمن اليومي لمجمل المواطنين في المدينة ، وهذا ما يجب توفيره والحفاظ عليه قبل كل شيء آخر. جنين يجب أن تبقى كباقي المدن الفلسطينية، مدينة آمنة تعج بالحياة ، ويجب تجنب تحويلها لمخيم لاجئين كبيرمحاصَر ومعزول ومخنوق. وهذا لا يتم إلا باحترام السلطة الشرعية للدولة، وأجهزتها الأمنية، وضمان عمل الوزارات المختلفة والمؤسسات والغرف التجارية، وعدم ترك المواطن في الشارع تحت رحمة القدر و الاحتلال.
إن منع الاجتياح الاحتلالي القادم والاجتياح الذي يليه هو مسألة وطنية من الدرجة الأولى، لا تقل أهمية عن تأمين سير مجرى الحياة الآمنة في المدينة. وهذا لا يتم إلا بالسيطرة الأمنية الكاملة للسلطة الفلسطينية الشرعية وعدم التمرد عليها من أي طرف كان.
الانفلات في جنين المدينة والمخيم ليس أمنياً فقط، بل له تأثير كبير على الحياة التجارية وعلى مدخولات آلاف العائلات في المنطقة كلها.
يعلم الجميع أن جنين تتنفس وتحيا من تلاحمها التجاري اليومي مع فلسطينيي الداخل، وهذا ما يمنح الحياة لآلاف العائلات في المدينة. لهذا فإن التسبب المتكرر بالاغلاقات للمعابر الشمالية للضفة يخنق هذه العائلات وله تداعيات سلبية شتى على المدينة، ويجب تجنبه بكل مسؤولية. التاجر في جنين لا يحصل على بضاعته من المدينة، ولا يبيعها فقط لأهل المدينة. فقسم من البضائع يأتي من مدن أخرى ومن القرى المجاورة ومن الداخل الفلسطيني. والمواد الغذائية الأساسية تأتي بنفس المساروتباع في نفس المسار.
إن بائع الخضار في جنين يحصل عليها من فلاحي القرى المجاورة وليس من شوارع المدينة. بائع الملابس يحصل على بضاعته من المدن الأخرى ومن المستوردين في الضفة والداخل، ويبيعها أيضاً لأهل الضفة والداخل، وليس فقط لأهالي مدينة جنين. هذا يعني أننا نتنفس جميعاً من نفس الهواء. وهذا يعني أن خنق جنين يعني خنق نابلس ورام الله. يعني خنق الفلاح في يعبد والسيلة وباقي القرى المحيطة. يعني أيضاً منع العامل من الوصول لعمله سواء في أنحاء الضفة أوفي الداخل خلف الجدار. هذه المسألة يجب أن تكون أساسية في تفكيرنا وأساسية في جدول أولوياتنا.
نحن نريد، قبل كل شيء، للمواطن أن يعيش. أن يحصل على لقمة عيشه بكرامة. نريد ذلك ليس لمواطني جنين المدينة فقط، بل لسكان المخيم والقرى المجاورة الأخرى التي تتنفس من جنين. لذلك فالمطلوب: ضمان الأمن العام في المدينة وضمان الحياة الاقتصادية وازدهارها، ضمان التعليم والعناية الصحية، ضمان الحصول على أماكن عمل والوصول إلى هذه الأماكن، وكل ذلك يتم عن طريق السلطة الشرعية الفلسطينية وليس عن أي طريق أو أي طرف آخر.