الشريط الأصفر
تاريخ النشر : 2023-06-11
الشريط الأصفر

الأديبة القاصة: آمنة عواد سليم دغاغمة

ما أجمل ملامح الشروق تجرّ الشمس من جدائلها ـمعلنة ميلاد يوم جديد ,يكتظّ بالحكايات الشمس تتخللها بضع غيمات , ترسل خيوطها خجلى حين تلامس قطرات الطَّل العالقة على أشجار الأحراج المقابلة لمخيم العروب.

ليتني أجيد فنَّ الرسم كما أجيد الكتابة ؛ لرسمت لكم كيف تنثر أشعتها الصباحية من علٍ ,فتحضنها أشجار السرو والصنوبر بعد طول انتظار.

بضع دقائق ونحن على مرمى الذهاب صباحا للمدرسة ,(مدرسة بنات بيت أمر الثانويّة)

مخيمي وبلدة صوريف آنذاك آخر صفّ فيه الثالث الإعدادي , هكذا كان اسمه , حتى المسميات تغيرت في وقتنا الحالي , وبعدها نلتقي معا في مدرسة مركزية واحدة ( مدرسة بنات بيت أمر الثانويّة).

تقع المدرسة الثانوية في أقصى شمال البلدة( بلدة بيت أمر), مسافة قصيرة بعدها تدخل في حدود قرية صوريف, ويتجمع في هذه المدرسة طالبات ثلاث مدارس هي:

بنات البلدة, كنا نطلق اسم الوطنيّات عليهنّ,لا نسبة للعمل الوطني ؛بل لإمتلاك ذويهنّ الأراضي, وبنات صوريف , وبنات مخيم العروب, ويطلق علينا (اللاجئات) , فنهضمها بكل فخر , وأحيانا يتسلل الوجع شقوق جلودنا فنضمدها بتفوقنا على كل الطالبات .

كالمعتاد ينتظرنا أبو وسيم _سائق الحافلة_على قارعة الطريق ؛ليقلنا من مخيم العروب للمدرسة

أبو وسيم , اسم على مسمى , ما شاء ربي ! في العقد الرابع من عمره, يغزو الشيب مفرقيه,

عيونه لوزيّة شكلا ولونا, فريد من نوعه ؛ لا ينظر في المرآة حين يخاطبنا, ونحن وسط الحافلة نبحث عن مقعد مناسب لنا, فلا نسمع منه إلا عبارة :(اقعدن يا عمّ , وارجعن آخر الباص) عندما يكتظ التجمع بالقرب منه.

كم كنّا نحب ذلك الصباح, صباح نافذة العبور نحو أمل جديد , صباح السعادة الّذي يعانق أرواحنا, نستنشق منه طعم الحياة , وعبير الأيام , ونحن نتوجه بكل فخر نحو العلم.

بين الشيء واللاشيء, بين الحقيقة والسراب , بين عشيّة وضحاها , تُنسج أحيانا قصصٌ من الواقع , لا نتخلص منها, بل تختزنها الذاكرة ؛لنستلها ذات يوم فتكون حديث شوق بين الأصدقاء.

في نهاية صيف عام (1981) ألف وتسعمئة وواحد وثمانين ,بداية عام دراسيّ جديد بكل مكوناته : المكان , الإدارة والهيئة التدريسيّة , ويصل الأمر الى وجود قوانين غير ما تعودنا عليها في مدرستنا الأم .

تدور عجلة الزمن ,ونبني دعائم علاقات جديدة بكل حذر ؛ كان يطلق على هذه البلدة ( بيت أمر ) باريس الصغرى ؛حيث جمال البنات ,والتقليد المنفتح بلا حدود.

في صباح يوم السبت من ذاك العام الذي أذكره الآن حاضرا, وصلنا محطة الانتظار عند بوابة المخيم , ينتظرنا ( ابو وسيم ) ،وغالبا نكون من الدفعة الأولى التي تصل المدرسة ؛ ليتم التدريب الرياضي ضمن مباريات كرة الطائرة ,فنحن فريق( بنات العروب) يشار إلينا بالبنان في هذه اللعبة طيلة السنوات السابقة على مستوى الضفة ,نتمتع بلياقة بدنية وحركة دائبة , نعرف قوانين اللعبة , نحتج على الحَكم أثناء المباراة؛ دفاعا عن حقوقنا إذا شعرنا بالظلم, ولا أزال احتفظ بالميداليات منذ عقود من الزمن.

الكل فينا متواجد للصعود في الحافلة, وجدت صديقتي هيام تحجز لي مكانا بنفس المقعد, نتبادل الحديث الصباحي خلال المسافة ما بين العروب ومدرسة بيت أمر , لا نتناقش في أسئلة امتحان مثلا , بل جل الحديث عن المباريات واللعب والتدريب قبل وبعد الدوام.

جلست جوارها بعد ابتسامة عريضة , فقالت في عصبيّة : ابتضحكي ؟ والله ياخوفي نضحك على حالنا في المباراة القادمة مع الخليليّات.

أخذت نفسا عميقا وقلت لها: توكلي على الله , منذ خمس سنوات ونحن نحقق الفوز بالمركز الاوّل أو الثاني.

هيام : يا خوفي , نحصل على المركز الثالث السنة يا آمنة.لم يتبقّ على موعد المباراة إلا أسابيع, لو تسمح المديرة نطلع بحصص الفن والعلوم المنزلية , ونكثّف التدريب.

قلت لها : لا تتوافق حصصنا ؛ فكل واحدة في مرحلة مختلفة، فالحل هو: التدريب الصباحي نصف ساعة ,وفي الاستراحة, وبعد انتهاء الدوام نغادر المدرسة في آخر دفعة للحافلة , على الأقل نحقق شوطا من اللعب.

قالت هيام: يا ريت لو المديرة تسمح خلال حصص الفن , لكن ما أعتقد ترضى.

قلت لها : والله يا هيام مديرتنا صعبة , خاصة في معاملتها لبنات المخيم , بكفي سمّة البدن الصبح لما تستقبلنا أول ما ننزل من عتبة الباص , هذا مخالف وهذا ممنوع .

هيام بعصبية : ليش يا حبيبتي , لمين الكأس لما نحصل عليه؟؟؟باسم مدرستها وبلدها.

أنهينا حديثنا بموعد وصول الحافلة لبوابة المدرسة, ولحسن الحظ لم نجد المديرة وقتها في مكانها المعتاد, ضحكت هيام من الأعماق ؛ لأني راهنتها على وجود المديرة.

(هيام الياسوري )من تكون؟ كابتن الفريق تسبقني بصف , خلوقة ,يطفح قلبها عشقا للكرة ,الأولى على مستوى الرياضة فقط ,لا تجيد غير ذلك, تحاول دوما أنت كون قريبة من الشبكة؛ لأنها تجيد عملية القفز , وضرب الكرة بقوة لتسحق أرض الملعب في الجهة المنافسة لنا, تشبك يدها بيد من ستحل مكانها فتجري عمليّة تبديل المكان حال سماع صافرة الإرسال .

أما أنا أجيد الإرسال من علٍ, فيأتي كما نسميه (كسح) وأرابط بمنطقة الوسط ؛ حيث أغلب الإرسالات تقع في هذه المنطقة , وأسلّم الكرة (لهيام)وهي قريبة من الشبكة ويتم ضربها بقوة من محاذات الشبكة فلا ترد من الفريق المقابل بسهولة ,أو ترد لكن خارج الملعب نتيجة قوة الضربة.

الساعة الآن السابعة والربع , الشبكة جاهز من قبل أعضاء الفريق المتواجد , من بنات صوريف :(ميس الحيح , ميسر حميدات ..)ومن بيت أمر:(أمل العلامي , خلود أبو عيّاش....)

والأغلب من العروب , خاصة الفريق الأساسي ( هيام ونعمة الياسوري,آمنة ,أحلام الطيطي..)

اندفعنا على عجالة نحو الملعب ,نلقي الحقائب غير آبهين بها, كاندفاع الخيل من حبل مجريها, يتوقف اللعب عند سماع صوت الجرس ؛ لننتظم في الملعب , وتتم الفعاليات الصباحيّة, وكلّ منّا يدخل غرفته الصفيّة , ولم نعلم ماذا يخبىء لنا القدر ؟

تتشابه الأيام والصباحات , وتكون نسخة مكررة من الأمس, لكن هذا اليوم كان مغايرا, لم نكن نعلم ما يحمله في طياته, كان همّنا الوحيد اللعب والفوز , وإذا به يطوي قصة تمرّ أمام ناظري كشريط تسجيل لم يصبه التلف منذ أربعة عقود, أحاول الآن استدراج ذاكرتي المكتظة بسرد الأحداث, أتناول ريشتي من قارورة ملأى بحبر الذكريات, وأحتاج حقيبة مليئة بمفردات الوجع لما ألمّ بنا وقتها ,فبعد أن كانت روحي مليئة بأمنيات الفوز أصبحت الآن مضرجة بالخوف من المجهول.

تدور عقارب الساعة معلنة العاشرة والربع تقريبا , موعد الاستراحة بعد ثلاث حصص , نحاول على عجالة أن نلتهم ما معنا ؛ لنوفّر الوقت الكافي للتدريب. عدت أدراجي ؛ أبحث عن رفيقاتي

سمعت صراخا , ورأيت تجمعا,أخذت أركض إلى الأمام ؛ لتقديم المساعدة ,سمعت أصواتا تتعالى أكثر من خلفي, حاولت إغماض عيني قليلا ؛ كي تتضح الصورة أكثر.

أمعقووول؟

هذه هيام ...والله هيام الياسوري, ترتعش , تنتفض ، تصرخ , ماذا أصابها؟

كانت تلك أطول لحظات مرة في حياتي ,استوطن الرعب في أوصالي .يا إلهي كم كان حدثا مرعبا وقتها ,أصبحت الأصوات تتعالى كحوار الطرشان , لا أحد يسمع الآخر, تعبت الأصوات

الحالات كثيرة .كلما مرّ الوقت زاد عدد الطالبات بهذه الأعراض , وكأنّ الامر أصبح حالة نفسيّة معدية ,أجوب بنفس المكان والخوف مشاع بين الجميع, أصبحت أركض خلف ظلي أرواحنا ظامئة , زادها الصراخ والحوار عطشا, كأننا نقفز للأعلى , ونهبط بلا مظلة على واقع مؤلم, المديرة في يدها سماعة يدوية أشبه بالبوق القديم تنادي بمكبر الصوت وتقول: يا بنات ,الرجاء عدم الاقتراب من البنات المصابات ,ما حد يقترب من شجرات الصنوبر, بوابة المدرسة الخلفية فاتحة , غادرن من الساحة بهدوء , سنتولى أمر المصابات , كأنها تعرف شيئا, أو أنّ الحادثة مرت عليها من قبل. المعلمات كل واحدة منهنّ تسمر قدمها في المكان ,الأهالي توافدوا ممن كان جارا للمدرسة, أو مارا بالمكان ,سيارات الإسعاف وصلت , شعرت وقتها أننا على قارعة الضياع ,لا نعرف ما سبب كلّ ذلك؟

ما أمرّ إحساس العاجز عن فعل أيّ شيء وقتها! طفح قلبي خوفا ورعبا, كنت بحاجة لجرعات زائدة من القوة , ولعصا تشق عباب الخوف مما أرى, أو لعكازتين تمنحني قوة الاستناد .

سيارات الإسعاف نقلت المصابات إلى مشفى عالية الحكومي في الخليل ,وسيارات الأهالي قدّموا المساعدة , وتمّ توجيه ما تبقى من إصابات إلى مشفى المصحة النفسيّة في بيت لحم؛لأن مشفى

عالية الحكومي لم يستطع استيعاب أكثر ممن وصل إليه.

تمّ نقل كل المصابات, واطمأنّ قلبي بعد نقل( هيام) للمشفى ,وكان ممن أصبن معلمة التربية الإسلامية, والبعض منا ولّى هاربا خلال كروم العنب جريا على غير هدى ,وانا خطر في بالي اللجوء إلى أقارب جدتي من عائلة (صليبي), فهم جيران للمدرسة أعرفهم منذ صغري , وكنت أزورهم معها.

وصلت المكان , وصورة الحدث حاضرة أمامي. استقبلوني بكل حفاوة, سمعت تمتمة تلعن العملاء واليهود, وتقول صاحبة المنزل لجارتها المفزوعة: (هذه مش أول مرة , قبل سنين مرت رشوا مادة صفرا تحت شجر الصنوبر في الوقت يلي ( البسيسة)ـالصنوبر الحلبي_ فيه بتجف وتتساقط على الأرض ؛ ليخفوا جريمتهم, وهذه المادة وقتها قالوا بتسبب عقم عند البنات ,ما بدهم الشعب الفلسطيني يتكاثر). فهمت من هذا الحوار كلّ شيء.

 المهم الآن الرجوع للبيت , شربت كوبا من الشاي على مضض , فالخبر طفحت أزقة المخيم بسماعه , ولن يصل الخبر لأهلي بسرعة ؛ فنحن نسكن خارج المخيم .

سمعت أبو محمود يقول لزوجته: يلا خلينا نوصل البنت وتشوفي الحجة _يقصد جدتي_.

مرّ هذا اليوم مضرجا بالأحداث, وكلّ واحد منا يحمل حقيبة مليئة بالأسئلة.

ماذا جرى؟ مَن المسؤول؟ كيف....لماذا .....أيعقل......؟

تؤلمني قسوة التساؤلات ,وحقيقة الحدث أكثر؛ فالجرح في الكف , وابن جلدتنا هو المسؤول الأول والأخير

شريط يمرّ بذاكرتي دوما ,ملون بصفرة ليس بجمال البقرة التي تسرّ الناظرين, بل بلون الشمس وهي عاصبة الجبين, تتعطل حروف الأبجدية للتعبير عنه , ويقف بعض الكلام في حنجرتي.