دور حفلات التخرج في تدمير العقل والذائقة
تاريخ النشر : 2023-06-01
دور حفلات التخرج في تدمير العقل والذائقة
ناجح شاهين


دور حفلات التخرج في تدمير العقل والذائقة
 
بقلم: ناجح شاهين
 
المدرسة جهاز التعليم والتثقيف الأول فيما يخص الناشئة. والمدرسة بحسب فهم غرامشي ومهدي عامل وألتوسير وقائمة طويلة من المفكرين هي جهاز الهيمنة الأيديولوجية الأول في يد الطبقة المهيمنة. وبهذا المعنى فإن أحد أدوار المدرسة الأساس يتمثل في إعادة إنتاج الواقع القائم أو تعميقه أو "تطويره". وباختصار المطلوب أساساً هو المحافظة على الوضع القائم وليس تغييره. ومن هنا فإننا لا نستطيع أن نحلم في إطار المدرسة الحكومية التي ينفق عليها النظام من جيبه الخاص أن يكون هناك تربية ناقدة من أي نوع، وذلك لأن النقد –وخصوصاً الجذري منه- قد يسهم في تقويض الهيمنة التي تتمتع بها الطبقة السياسية-الاقتصادية الحاكمة والمسيطرة. يجدر بنا في هذه المقدمة أن نضيف فكرة أخرى جوهرية: مهما كانت مهارة المعارضة وأدواتها النضالية من أجل التغيير في مضمار "البنية الفوقية" فإن الثقافة السائدة تظل –مثلما أوضح ماركس منذ زمن طويل- دون لبس ثقافة الطبقة السائدة. ولذلك لن نعدم الأمثلة الدامغة على الفعل الثقافي المعارض المشابه إلى حد يثير السخرية للفعل الثقافي للآخر الطبقي الذي يتوخى مقاومته، وهكذا فهو بهذا المعنى ينتصر له بينما يتوهم أنه يقوم بمعارضته.
 
الوضع الاقتصادي الراهن في فلسطين لا يستدعي تنمية الإبداع ولا الروح العلمية ولا النقد ولا أي شيء من هذا القبيل. والسبب واضح وبين بذاته: لا يوجد إنتاج من أي نوع يحتاج إلى العقول المدربة، بل إن وجود العقول المدربة سيكشف عن الخلل البنيوي المريع في بنية الإنتاج التبعي الفلسطيني. من هنا ينحدر التدريب الأكاديمي الفلسطيني إلى مستويات قياسية. وهنا تبرز ظواهر محزنة لا تخطئها العين من ناحية أنه لا فرق في المعرفة وطريقة التفكير بين الخريجين. وبهذا المعنى فإن خريج/ة الهندسة قد يكون لديه/ا معرفة باللغة العربية تضاهي أو تتفوق على خريج اللغة العربية. وينجم ذلك جزئياً عن تفوق الفرع العلمي في المعارف كلها على الفرع الأدبي، لكن جزءاً آخر من التفسير يجد مآله في واقعة فشل الجامعات في إكساب الطلبة أية مهارات أو معارف تصنع الفارق. وهكذا يبدو وكأن الطلبة يحتفظون بما كان لديهم من خبرات ومعارف حصلوا عليها في المدرسة. وهذا يذكرنا بنكتة طريفة فحواها أن العلم في الجامعة يتراكم على الرغم من كل شيء: يأتي الطلبة إلى الجامعة ومعهم القليل من المعرفة من أيام المدرسة، ولكنهم يغادرون الجامعة دون أن يأخذوا معهم شيئاً، وهكذا ييقى العلم في الجامعة متراكماً فوق بعضه على الرغم من قلته. وعلى الرغم من أن هذه "نكتة" لا أكثر إلا أنها للأسف نكتة محزنة في السياق الفلسطيني بسبب من مطابقتها للواقع على نحو غريب.
 
ليس الأداء الضعيف في المدرسة المحلية حكراً على النشاط الأكاديمي البحت، وإنما يمتد ذلك ليشمل النشاطات الترفيهية والحفلات والمسابقات وكل ما يسمى بالنشاطات اللا منهجية. وهذا ما يطم الوادي على القرى على حد تعبير فيلسوفنا العظيم ابن رشد.

كنت مدعواً هذا العام إلى أكثر من حفل تخرج في المدارس الخاصة والحكومة على السواء. وقد اشتملت الأنشطة على العناصر المعتادة في المهرجانات الترفيهية في بلادنا، من قبيل الصراخ بسبب أو بدون سبب، والنبرة العالية، والسجع الذي يأتي لذاته وبذاته على حساب التواصل والمعنى، وخلط الحابل بالنابل، والموسيقى الصاخبة الفرايحية التي تصم الآذان وتقتل الذائقة الموسيقية، وذلك غيض من فيض.
 
أود أن أستميح القارئ/ة عذراً في استعراض فقرات أحد الاحتفالات واحدة واحدة علنا نشاهد اللوحة في تكاملها الذي يعزز الواقع السائد من ناحية إعادة إنتاج الممارسات الثقافية الهابطة والخالية من المعنى والترابط والدلالات الجمالية العميقة ناهيك عن الإبداع والتفكير في مستوياته المتقدمة علماً بأن الفن حقل مميز من حقول الصراع في مستوى الهيمنة وهو أيضاً حقل مميز في تنمية الوعي والذائقة وقدرات التفكير العامة.
 
بالطبع يبدأ الحفل بالسلام الوطني يتلوه آيات من الذكر الحكيم اختار من نظم الحفل أن تقوم به طفلة صغيرة من الصف الأول الأساس قامت بإلقاء أسماء الله الحسنى جميعاً (وعددها بالطبع تسع وتسعون)، تعثرت الطفلة أكثر من مرة وبدا أن الوقت يسير بطيئاً بينما بدا على بعض الناس شيء من النعاس في حين تردد على ألسنة الكثيرين كلام من قبيل: "يا الله ما أشطرها، يعني أنا مش حافظ أسماء الله كلها." وفي هذا السياق لا يخفى على القراء أن جزءاً أساساً من المباراة الشعبية الرائجة تتصل بتحفيظ الأطفال ما تيسر من معاني الكلمات الإنجليزية والعربية، والأناشيد، في باب "شباك يعني وندو وباب يعني دور،" ويهنئ الأهل أنفسهم على نبوغ أبنائهم، بينما يتم في الواقع في هذا الوقت المبكر التخلص من قدرات الأطفال المشحوذة في إطار الإتيان بالمدهش من أسئلة واقتراحات، لمصلحة تحويلهم إلى آلات تسجيل صماء. وسوف تستمر هذه العملية بالطبع في السنوات اللاحقة حتى التخرج من الجامعة بما يسمح بالإجهاز النهائي على قدرات التلاميذ العقلية، وتحويلهم إلى مدمنين للحفظ الصم الذي يتحول إلى غاية في ذاته.
 
بعد ذلك قدم البرنامج أغنية الحلم العربي الشهيرة جداً والتي لا يدري أحد شيئاً عن الغاية منها: هل هي تأريخ للمنطقة، أم استعراض لمواهب "نجوم" الغناء العرب، أم.... في الأحوال كلها يعلم القاصي والداني أن هذه الأغنية التي لا تقول شيئاً محدداً قد راجت على نطاق واسع وحشرت كل شيء في كل شيء دون مغزى واضح، اللهم إلا إذا افترضنا أن هناك خطة لدى من رعى الأغنية لحشر الواقع العربي كله في خانة واحدة بحيث تختفي الفروق والاختلافات مما يجعل النهج الناصري مثلاً مطابقاً للنهج الساداتي الذي يشكل في هذه الحالة استمراراً له وليس قطعاً معه. غني عن البيان أن هذا إنما يعني إضعاف قدرة المرء على رؤية التطور والتغير والاختلاف لمصلحة الهوية الثابتة الواحدة.

والصحيح أن الأطفال الذين شاركوا في الأغنية قاموا بشيء واحد هو التمايل أمام الجمهور بينما كان "ستيريو" عملاق يصم الآذان بالإيقاعات الصاخبة المميزة "للفن" العربي منذ بعض الوقت. لكن ذلك بالطبع ليس شيئاً خارج السياق الاجتماعي الراهن لأن هذا السياق بالذات يميل إلى الجعجة والصخب والزعيق الذي يغطي على المعنى أو يستبعده قصداً أو سهواً. وقد خطر ببالي أن شيئاً من عمل آلات التطبيل يذكر بفيلم "التقرير" لدريد لحام عندما جلس ليتناول عشاءه فانطلق طبل هائل بشكل جعله يفزع وتسقط اللقمة من يده. في حالتي الشخصية أحسست بوقع الطبل الشديد على أذني وقلبي بدرجة اضطررت معها إلى وضع قطعتي قطن في أذني لأخفف من قوة الصدمة على طبلة أذني.
 
في الفقرة التالية انطلق "الستيريو" بأغنية أناديكم المشهورة للفنان أحمد قعبور، واستمع الجمهور لقعبور بينما كان عشرات الأطفال يقفون أمامنا في بلاهة دون أن يفعلوا شيئاً باستثناء الإشارة إلى عيونهم عندما تقول كلمات الأغنية "وأهديكم ضيا عيني" وقد فكرت بإحباط أن جهاز التعليم هنا يستعمل الأطفال في هذه الحالة وسيلة تعليمية تساعدنا نحن الحضور على معرفة موقع العين من الجسد لحظة يرد ذكرها في الأغنية باعتبار أننا لا نعرف مكان العين أو لا نعرف العين. ومن المؤسف أن الأطفال لم يكونوا تحت سن السادسة وإنما في بداية المراهقة مما يعني أنهم بدورهم يعرفون العين ولا داعي لتدريبهم على موقعها. كان الأطفال يلوحون بأيديهم في الهواء دون أن يكون هناك صلة بين كلمات الأغنية وبين حركة قبضات أياديهم في الهواء، الفعل الهادف ذو المعنى لا مكان له هنا، فالمهم أن هناك أغنية رائجة يمكن إسماعها، ولا يهم أنها جميلة أصلاً وذات اتجاه إيجابي، فقد تم إفراغها من سياقها تماما.

بعد ذلك جاء أحد عرفاء الحفل وذكرأسماء آخر الشهداء دون أن يكون هناك أي سياق؛ وربما أن المقصود هو التهييج في أي اتجاه ممكن، بما ينسجم مع ثقافة الجعجعة التي لا تقود إلى شيء باستثناء إلغاء العقل. ومن الدلائل على ذلك أن حديث الشهداء قد تلاه أغنية صاخبة لفنان الشعب الفلسطيني القادم عبر ام.بي.سي محمد عساف، وطبعاً تمايل الجمهور طرباً ونشوة، لينقطع الغناء فجأة ويحل محله أغنية "يما هدوا دارنا" في رفقة أطفال وقفوا على المسرح يلوحون بأيديهم مع مساحيق ثقيلة على وجوه البنات الصغيرات، وضحكات، وبهجة واضحة على محيا الأطفال المشاركين في الأغنية في انفصال تام عن كلمات الأغنية التي يفترض أنها تتحدث عن هدم المنزل. لا بد هنا أن نسجل أن لحن/إيقاع الأغنية أصلاً فرايحي، وربما أن هذا أدى دوره من بين عوامل أخرى في عدم إدراك الأطفال أننا أمام موقف مأساوي لا مكان فيه للرقص والضحك والهرج والمرج.
 
الطفلة الرائعة التي كانت "عريف" الحفل نفذت فيما يبدو تعليمات الجهاز الفني للتدريب بدقة تامة، فكانت تصرخ بأعلى صوتها طوال الوقت بغض النظر عن طبيعة المحتوى، وهكذا غاب عن الطفلة الذكية أن هناك مواضع للهمس وأخرى لرفع الصوت قليلاً..الخ الصراخ كان سيد الموقف مثلما يحصل على الأغلب في الاحتفالات المحلية كلها. من نافلة القول إن الفتاة قد ألقت كلاماً يصعب عليها وعلى معظم الجمهور فهم معناه لأنه سجع منسوخ على عواهنه من "غوغل".

لا بد بالطبع من تكريس القيم السائدة هي هي دون تغيير. فالمدرسة هنا لا تقوم بغير إعادة إنتاج الواقع. وفي هذا الباب جيء بعشرات الأطفال من الروضة ووقفوا في لباس عروسة وعريس دون أن يبدو عليهم أنهم يعرفون ماذا يراد منهم أو لهم، ثلاثة منهم انخرطوا في البكاء وتركوا لمصيرهم لأن لا أحد يهتم بالأطفال فقد كان الكل مشغولاً بالحفل البهيج. وفي السياق ذاته قدمت فقرة عبارة عن حوار أريد له أن يكون كوميدياً حول "ثيمة" قديمة بخصوص جمال "البيضا والسمرا" ودار حوار بين طفلتين سمراء وبيضاء كل تدعي أنها الأجمل، وفي ختامه تدعو السمراء زوج البيضاء إلى تطليقها لأنها ليست جميلة ولن يحصل معها على السعادة، وفي مقابل ذلك تدعو البيضاء زوج السمراء أن يتزوج عليها ضرة بيضاء لتعويض ما فاته. هكذا دفعة واحدة ونحن في لحظة قتل النساء –التي لم يتعرض لها الحفل بالطبع- بامتياز تعيد المدرسة على مسامعنا إنتاج الموقف من المرأة بصفتها وعاء المتعة للرجل الذي من حقه أن يطلقها أو يتزوج عليها إذا كانت لا تستطيع تلبية احتياجاته من السعادة والمتعة.
 
وفي سياق خلط الحابل بالنابل لينعدم خط المعنى نهائياً تأتي بعد هذه الفقرة مباشرة أغنية جوليا بطرس "يا ثوار الأرض". وبالمناسبة هذه أفضل طريقة من أجل أن يفقد المرء قدرته على إضفاء المعنى على معطيات الحياة إذ تتجاور الوقائع المتناقضة وتصبح كلها فسيفساء لا يربطها رابط مجردة من السياق أياً كان نوعه. وهذا نمط ميلودرامي مميز في كفاءته في محاربة الرؤية العلائقية ومحاربة الالتزام الجدي تجاه أي قضية أو موضوع. ومن أجل تعبئة الزمن بما تيسر جاء بعد ذلك فقرة عبارة عن أغنية مارسيل "شدو الهمة" وقف في مرافقتها عشرات الأطفال يتمايلون حتى انتهت الأغنية.
 
طبعاً من حقنا أن نسأل قبل أن نواصل قراءة الفقرات: ما هو دور الأطفال في هذا الحفل البهيج الطويل؟ ماذا تعلموا؟ وكيف نمت شخصياتهم، وإبداعاتهم، ومواهبهم؟ يبدو أنهم تعلموا شيئاً يخص الوقوف والتمايل ورفع الأيادي، لا شيء أكثر؛ دون مبالغة لاشيء.
 
تلا ذلك أغنية محمد عساف –الذي كان حاضراً بقوة طوال الوقت- "علي الكوفية" والصحيح أنهم لم ينجحوا حتى في إحضار كوفية، وقد أتبعوا الأغنية الممتعة –بالنسبة للجمهور- بأغنية "اشهد يا عالم علينا وعا بيروت" دون أن يكون هناك فيما أعلم مناسبة تعيدنا إلى بيروت 1982، لكن ما هم؟ المهم أن نعبئ الوقت بأي شكل. وقد سبق هذه الأغنية بالذات وقوف الطفلة التي تصرخ لتقول شيئاً من قبيل: "لا يسار ولا يمين، فلسطين هي اليقين" الحق أنني لم أفهم المراد بهذا الهتاف، وهل هو شعار سياسي أو ديني –خصوصاً أن هناك عبارة تشابه ذلك هي: لا شرقية ولا غربية، إسلامية إسلامية-. لكن الفهم هنا ليس أحد أهداف الاحتفالات بالعكس قد يكون الهدف المقصود أو النابع من البنية الثقافية المسيطرة هو قتل الفهم والإدراك وعلى أوسع نطاق ممكن، وإلا كيف نفسر أن تمتد حفلة مدرسية ساعتين ونصف دون أن يقدم فيها الأطفال أي شيء فعلوه بأيديهم. كان السابق يتضمن –حتى عهد قريب- أن يقرأ الأطفال نصوصاً كتبها غيرهم، لكن الإبداع في مدارسنا لا حد له: فقد تم الاستغناء عن الطلبة نهائياً وتنفيذ احتفال مهيب يعتمد كلية على "الستيريو" لكنني نسيت، عذراً: يقف الأطفال على المسرح يلوحون ويتمايلون.