الخروج من القمقم: الفلسطينيون فوق الاحتلال
تاريخ النشر : 2023-05-25
الخروج من القمقم: الفلسطينيون فوق الاحتلال
د. لبيب قمحاوي


الخروج من القمقم: الفلسطينيون فوق الاحتلال

بقلم: د. لبيب قمحاوي

استشهاد عشرات أو مئات أو آلاف الفلسطينيين لن يقضي على الشعب الفلسطيني، تماماً  كما أن اعتقال آلاف الفلسطينيين لن يشل من قدرة الشعب الفلسطيني على الحركه . اسرائيل تعلم كل ذلك والعالم يعلمه الآن أيضاً . صحيح أن الفلسطينيين دفعوا الثمن وما زالوا، وصحيح أن الله قد إبتلى الفلسطينيين بأشرس وأقذر عدو، ولكنه في المقابل إبتلى الاسرائيليين بأصلب خصم واكثرهم تصميماً وعناداً على الحفاظ على حقوقه . كل صاحب حق جبار وهكذا هو الشعب الفلسطيني . ولكن ما نشاهده الآن وما نحن بصدده لا يعكس جوهر الأمور وحقيقتها . الاسرائيليون يريدون كل الأرض الفلسطينية بل وأكثر من ذلك فهم لا يريدون معها أي بشر من الشعب الفلسطيني،  وهم يملكون من أدوات القوة والدعم الأمريكي والغربي ما يمكنهم من محاولة فرض تلك الرؤية بالقوة أو بالإكراه . الفلسطينيون في المقابل لا يقبلوا بالتنازل عن وطنهم أو أية أجزاء منه ولن تخدعهم رواية الآخرين مرة أخرى لتشجيعهم على الهجرة من وطنهم،  مع أنهم مدركون أن قوى الأرض تسير في معظمها في الركاب الاسرائيلي، ناهيك عن تعرضهم إلى ظلم ذوي القربى من عرب التطبيع والذي قد يكون أشد مضاضة وألماً من ظلم العدو وجبروته.

ما جرى ويجري مجدداً من عدوان اسرائيلي وحشي على الفلسطينيين وعلى قطاع غزة الذي يحوى أكبر تجمع بشري مُقاوِم ومؤثِّر في فلسطين هو أمر في غاية الخطورة، كونه يعكس حقيقة نوايا الاسرائيليين العنصرية والاجرامية تجاه الفلسطينيين خصوصاً بعد أن تم تدجين وتحييد واختراق الضفة الفلسطينية المحتلة أمنياً من خلال التنسيق الأمني مع الاحتلال تحت اشراف سلطة محمود عباس، الى أن انطلقت المقاومة الفردية مؤخراً  كرد  فلسطيني شعبي على تعاون السلطة أمنياً مع الاحتلال في اختراق المقاومة الفلسطينية،  مما جعل قطاع غزة هو الملاذ الأهم للقضية الفلسطينية المقاوِمَة داخل فلسطين المحتلة . عدوان اسرائيل الهجمي والتدميري والمتكرر على قطاع غزة يهدف عملياً الى كسر شوكة المقاومة الفلسطينية والقضاء على أي قطب مقاومة جاذب للفلسطينيين تحت الإحتلال بشكل عام.

وفي نفس السياق الاسرائيلي، فإن ما يجري الآن في القدس وللقدس هو جزء متمم لهذه المعادلة التي تهدف الى تحويل القدس من مدينة محتلة الى مدينة يهودية،  وتحويل الرمز الاسلامي الأهم فيها وهو المسجد الأقصى الى منطقة مُقَدَّسَة متنازع عليها مع أتباع الديانة اليهودية الذين يعتبروها مركز الهيكل اليهودي المزعوم . وهذا الوضع إذا ما قُيِّض للإسرائيليين النجاح فيه  يهدف الى تحويل  القدس بالنتيجة من عاصمة للفلسطينيين الى مدينة يهودية وأرض مقدسة للديانات الثلاث طبقاً للمنظور الابراهيمي والذي يعطي الاقدمية والأولوية لليهودية ويعتبر في أعماقه أن المسيحية والاسلام هي ديانات دخيلة على القدس اليهودية التي يجري العمل حثيثاً على قدم وساق لإفراغها من سكانها الفلسطينيين لإستكمال عملية تهويدها . هذا هو الحل من المنظور الاسرائيلي اليهودي لمدينة القدس الفلسطينية المحتلة وهو يأتي منسجماً تماماً مع التفكير الاسرائيلي في استعمار كامل الأرض الفلسطينية بالقوة ومن ثم تغيير ملامحها ومحتواها الديموجرافي الفلسطيني إنتهاءً  بتزوير تاريخ مدينة القدس كعاصمة فلسطين وتغيير  واقعها  وتحويلها الى مدينة يهودية.

الدور العربي تجاه القضية الفلسطينية في حقبة ما بعد التطبيع المجاني والدخول في الكَنَفَ الابراهيمي سوف  يجري تحويله عملياً  من دور داعم للقضية الفلسطينية والفلسطينيين الى دور وساطة بين الفلسطينين والاسرائيليين،  لا يكتمل ولا يأخذ مداه الحقيقي إلاّ بالقبول والرضى من الجانب الاسرائيلي، والخضوع وابتلاع جرعات السم من الجانب الفلسطيني.

 الوساطة العربية هي في دورها وطبيعتها ومداها النهائي صيغة مبتكرة لصيغة اتفاقات أوسلو وللدور الذي لعبته في تدجين الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال . وجهود الوساطة العربية المذكورة تتجاهل حقيقة الدور الأمريكي الداعم لإسرائيل بلا تحفظ وبشكل مستمر، وأن أمريكا الشريك في جهود الوساطة تلك، هي في الواقع العمق الحقيقي للعدوان الاسرائيلي على فلسطين والفلسطينيين، ولا يمكنها ولا تستطيع بالتالي أن تكون طرفاً محايداً  أو وسيطاً.

الواقع الذي فرضته اسرائيل بالقوة والدعم الغربي جعل من قضية الحقوق الوطنية والإنسانية للفلسطينيين قضية خِلافِيًّة خاضعة للجدل والنقاش على المستوى الدولي لتنتقل مؤخراً الى  المستوى العربي  بعد أن تحول دوره من داعم للفلسطينيين الى وسيط بينهم وبين الاسرائيليين . الفلسطينيون هم الضحية الدائمة،   لم  ولن  يشفع  أي شئ لهم سوى صمودهم على الأرض . النقاش والحجة والقانون الدولي والقانون الانساني والحقوق التاريخية ....الخ كل هذا لن يجدي اذا لم يقترن بالصمود على الأرض والتواجد الفلسطيني البشري المُقاوِمْ على أرض فلسطين.

محاولة الكثيرين الاقتراب من القضية الفلسطينية أو تناول أبعادها المختلفة من خلال استعمال الوسائل والنهج التقليديين سواء باللجوء الى التاريخ أو الاستعانة بمنظومة القوانين والاعراف الدولية لن يجدي لأن إنشاء دولة اسرائيل على الوطن الفلسطيني لم يتم من خلال القانون الدولي والإنساني، وانما تم من خلال مخالفة التاريخ والقوانين والشرائع والانظمة الدولية والاكتفاء باستعمال القوة والتآمر والاعتماد على دعم أمريكا وبريطانيا والدول الغربية . وهكذا فإن اللغة التي تفهمها اسرائيل والاسرائيليون  في التعامل مع الفلسطينيين هي بالضرورة نفس اللغة التي استعملوها لانشاء كيانهم وهي لغة القوة، وهي نفس اللغة التي يجب أن يستعملها الفلسطينيون في التعامل مع اسرائيل.

القوة لا تعني بالضرورة وفي هذه المرحلة اللجوء الى السلاح حصراً، فهذا الخيار مازال يعكس تفوقاً اسرائيلياً  ملحوظاً،  ولكن القوة تعني أيضاً وبالاضافة الى مفهومها الكلاسيكي، عدة أشياء أخرى منها المقاومة على أرض فلسطين الى الحد الذي يُلغي مفهوم الاحتلال الهادئ والرخيص، والقوة  تعني أيضاً الثبات على الأرض وبناء مجتمع العلم والمعرفة والتكنولوجيا، والقوة تعني بناء الصناعة والاستثمار الفلسطيني والعربي على الأرض الفلسطينية، القوة تعني رفض الأمر الواقع الردئ والعمل على بناء واقع فلسطيني جديد، القوة تعني النِدِّيَة في القدرة على التصدي للإحتلال وليس الاستسلام لواقع التفوق العسكري الاسرائيلي، القوة هي أن يفرض الفلسطينيون على الاسرائيليين التفكير في جدوى الاستيطان من خلال رفع كلفة الاستيطان على المجتمع الاسرائيلي بما في ذلك الكلفة الأمنية والبشرية والاقتصادية.

قد يفرض واقع موازين القوى السائد حتى الآن ، وهو لصالح اسرائيل في مختلف المجالات،  إبداء بعض المرونة المؤقتة من قِبَلْ الفلسطينيين في تعاملهم مع الاحتلال، ولكن ذلك يجب أن لا يؤدي الى التخلي عن الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني . فالمرونة لا تعني ولا يجب أن تعني التنازل عن الحقوق الوطنية بقدر ما قد تعني القبول بالمرحلية في التعامل بشكل مؤقت وفي قضايا اجرائية حكماً وليس التنازل بشكل دائم وعلني عن الحقوق الوطنية أو بعضها مقابل وعود فضفاضة فارغة كما حصل في أوسلو.

إن بقاء اسرائيل واستمرار وجودها مرتبط ارتباطاً عضوياً ببقاء النظام الدولي السائد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهكذا فإن تغيير هذا النظام يصب في صلب المصلحة الفلسطينية . ومن هنا يصبح التخطيط الفلسطيني لصياغة تحالفات استراتيجية مبكرة بين الفلسطينيين والدول الصاعدة المرشحة لوراثة النظام الدولي القديم مثل الصين والهند والبرازيل أمراً في غاية الأهمية لمستقبل القضية الفلسطينية مما يُحَتِّم  عدم ترك الساحة مفتوحه أمام المخططات الاسرائيلية أو مخططات اليهودية العالمية لاختراق منظومة الدول المرشحة لوراثة النظام الدولي القديم سواء أكان ذلك  الإختراق  مباشرة  أو من خلال المنظمات الصهيونية.

الفلسطينيون أنفسهم بحاجة الى نهج ومنظور جديدين في التعامل مع قضيتهم . فالأساليب القديمة والتقليدية لن تجدي نفعاً في التعامل مع واقع جديد يستند الى حقائق القوة العسكرية الاسرائيلية الغاشمة والتقدم التكنولوجي الملحوظ . وهكذا، وكما أثبتت الاحداث، فإن الحل أو بعض الحل لن يأتي بالنسبة للفلسطينيين من الخارج بل من داخل الأرض الفلسطينية حصراً . الحل لن يأتي إلا بعد إيصال المجتمع الاسرائيلي الى قناعة بأن لا حل لمشاكله الا بالتفاهم مع الفلسطينيين وليس الاستمرار  في قمعهم أو قتلهم ومصادرة أراضيهم وحقوقهم . وهذا الأمر يتطلب استمرار البناء الذاتي الفلسطيني وتنمية قدرات المجتمع الفلسطيني التكنولوجية وإستمرار الصمود المقاوِمْ على الأرض وتطوير القوة  الرادعة الفلسطينية خصوصاً  الصاروخية والتي ستزيد كفاءتها من كلفة أي عدوان اسرائيلي جديد على الاسرائيليين أنفسهم بشراً ومادياً وحياتياً وبما يؤدي الى ارغامهم على التفكير مرتين قبل القيام بأي عدوان على الفلسطينيين.