قمة جدة.. مؤشر نجاحها توظيف المتغيرات الدولية لتدشين عهد عربي جديد
تاريخ النشر : 2023-05-24
قمة جدة.. مؤشر نجاحها توظيف المتغيرات الدولية لتدشين عهد عربي جديد
د. سمير الددا


قمة جدة.. مؤشر نجاحها توظيف المتغيرات الدولية لتدشين عهد عربي جديد

بقلم: د. سمير الددا

يبدو أن المتغيرات الدولية المتطاردة التي يمر بها العالم اليوم قد ألقت بظلالها على أجواء القمة العربية الاخيرة التي أحتضنتها نهاية الاسبوع الماضي مدينة جدة السعودية عروس البحر الاحمر, وقد بدا ذلك جلياً في كثير من مجريات هذه القمة ومن أبرزها مشاركة الرئيس الاوكراني فلوديمير زيلينسكي المفاجئة بكلمة في الجلسة الافتتاحية للقمة, واخذ عليه انه لم يراع آداب دعوته للقمة العربية ولم يشير لا من قريب ولا من بعيد الى القضية المركزية التي تناولتها هذه القمة وهي القضية الفلسطينية ولو من باب المجاملة, ولكن الطبع يغلب التطبع, فالرجل يهودي وله ارتباطات وثيقة بالنازية الجديدة وعلاقات وطيدة بالدوائر الصهيونية ويؤيد الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين بشكل اعمى, على الرغم ان بلاده تعاني مما يعانيه الشعب الفلسطيني.

وكذلك تلقت القمة رسالة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دعى فيها الى تطوير العلاقة العربية الروسية على قاعدة الاحترام المتبادل وتعزيز التعاون والعمل المشترك لحل المشكلات، واكد ان روسيا مستعدة للمساعدة في حل الصراع العربي الاسرائيلي على قاعدة الشرعية الدولية والقرارات الدولية ذات الصلة والمبادرة العربية للسلام, كما تلقت القمة رسالة مماثلة من الرئيس الصيني شي جين بينغ, سعى هو الاخر الى خطب ود العرب, وتاتي رسالتي الرئيسين الروسي والصين للقمة لتأكيد ادراكهما ما هي مكانة العرب وحجم قدراتهم والدور الحاسم الذي يمكنهم القيام في صياغة النظام العالمي الذي هو قيد التشكيل حالياً وامكانية ان يكونوا رقماً رئيسياً فيه لو احسنوا توظيف امكانياتهم ومقدراتهم بشكل صحيح لتحقيق تطلعاتهم.

تتميز قمة جدة عن سابقاتها بعدة جوانب, ابرزها الحضور, فقد تميز اجتماع جدة بتمثيل عربي له شخصية جديدة مختلفة عن ما عهدناه في الماضي, معظم القادة في قمة جدة كانوا من الشباب وخصوصاً في الدول الوازنة, اي ان القرار العربي اصبح اليوم في ايدي شابة وهذا يعني الكثير.

معظم هؤلاء الشباب (ان لم يكن كلهم) محررون من التزامات وتحالفات سابقة املتها على اسلافهم ظروف دولية قاهرة ولت بلا رجعة, وبالتالي يشعر هؤلاء القادة الشباب بانهم في حل من كل ذلك وانهم باتوا ينسجون علاقات بلدانهم مع دول العالم باستقلال تام عن اي دول اخرى, وفقاً لمصالح بلادهم وامتهم فقط وعلى اساس الشراكة والمصالح المشتركة والاحترام المتبادل وبعيداً عن اي تدخلات خارجية مهما كان مصدرها.

لا اعرف ما اذا كان الامريكان يدركون ان المتغيرات الدولية التي يعيشها عالم اليوم اجبرتهم على تراخي قبضتهم على ما كانوا يعتبرونها حدائق خلفية لهم, وكان يحرم على منافسيهم (خصوصاً الروس والصينيين) مجرد أن تطأها اقدامهم, بينما هم يسرحون ويمرحون فيها بالطول والعرض, ومن أهم هذه المناطق الشرق الاوسط وخصوصاً الدول العربية وعلى الاخص دول الخليج العربية.

أصبحت هذه الدول تعتمد معايير اكثر موضوعية في بناء العلاقات الدولية وتصنيف أعدائها وأصدقائها وخصومها وحلفائها, وتعتمد مصالحها القومية بالدرجة الاولى وتليها المصلحة العربية المشتركة كمعيار لمثل هذه التصنيفات, وليس املاءات من دول خارجية او تفرضه تحالفات او تبعيات او تقتضيه التزامات وارتهانات تاريخية فرضتها ظروف دولية واقليمية لم تعد قائمة وأمست في ذمة الماضي.

في ظل الظروف الدولية الراهنة التي خلقها التنافس الغير شريف بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين من جهة وبين روسيا والصين وحلفائهما في الشرقين الاقصى والاوسط من جهة اخرى وذلك على زعامة العالم واقامة نظام عالمي جديد اكثر عدلاً كما تقول كل من بكين وموسكو, وما يستدعيه ذلك من محاولات كلا من المعسكرين لاستقطاب دول من منطقة الشرق الاوسط الى جانبه, وهذا الامر اتاح مساحة اوسع لدول المنطقة للتحرك بدافع من مصالحها هي فقط وبمعزل عن ارتباطات استدعتها ظروف برزت في حقبات زمنية غابرة لم تعد قائمة.

المتغيرات الدولية المستجدة وفرت للقادة العرب وخصوصاً قادة الدول العربية الوازنة ربما للمرة الاولى في العصر الحديث, امكانية التفكير بطرق متشابهة الى حد كبير في قضايا مركزية ومن منطلق عربي صرف بما في ذلك كيفية توظيف الامكانيات العربية الهائلة لايجاد مكانة تليق بهم وبوزنهم الحقيقي في المنظومة العالمية المرتقبة مما يضمن لهم تحقيق قدر اكبر من العدالة والانصاف لشعوبهم, والسؤال المطروح, هل ستكون قمة جدة رافعة تمكن الزعماء العرب من التحدث بلغة موحدة...؟, على الاقل في مجالي السياسة الخارجية والدفاع.....!!!!, وفيما عدا ذلك تحتفظ كل دولة بنظامها وقيادتها وكامل سيادتها على ترابها ومواردها وشعبها وخصوصيتها في كل جوانب الحياة, لان وجود مثل هذا التضامن او التنسيق بين العرب هو مصلحة ملحة لهم جميعاً, ويضمن لهم هيبة هائلة ومكانة متقدمة جدا في العالم المنتظر تتناسب مع وزنهم مجتمعين سياسياً, اقتصادياً, ديمغرافياً, جغرافياً, عسكرياً واستراتيجياً, هذا بالاضافة الى انه يفرض احترامهم على مختلف الدول, علاوة على ذلك, سيكون كفيلاً بتجنيبهم لكافة التدخلات الخارجية في شؤونهم الداخلية وتحريرهم من الضغوط الدولية والحفاظ على امنهم القومي من اي اعتداءات مهما كان مصدرها, وكل ذلك سينعكس ايجاباً على علاقاتهم الدولية وتجارتهم وكافة تعاملاتهم مع دول العالم, وهذا ما لمح اليه في كلمته الافتتاحية الامير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي الذي ترأس جلسات وأعمال القمة.

مثل هذا التصور ربما ليس متاحاً حالياً ولم يكن متاحاً سابقاً رغم طرحه من مستويات عربية عليا, والسبب بسيط, ان الولايات المتحدة التي كانت تهيمن على المنطقة لم تكن تسمح بذلك وتجبر قادة العرب على رفض اي نوع من وحدة الصف العربي وليبقوا مفترقين لتنفرد بكل منهم على حدة وليسهل عليها السيطرة عليهم ونهب مقدراتهم وتفرض عليهم تحالفاتها وسياساتها توجيههم وفقاً لمصالحها هي فقط.

الولايات المتحدة فرضت على العرب ألد أعدائهم (الكيان الصهيوني) فرضاً واجبرت بعضهم على اقامة علاقات معه تحت طائل الترهيب تارة من خطر ايران وما شابه, وبالترغيب تارة اخرى باقامة مشاريع مشتركة واستثمارات وما شابه, بل وصل استخفاف واشنطن بالعرب انها تريد تنصيب الكيان الصهيوني الغاصب كزعيم لهم وقائد لمنطقتهم على الرغم ان أكثر من 90% من سكانها عرب أقحاح يتحدثون العربية ينتمون لحضارة اسلامية انارت معظم اركان المعمورة, وحكم اسلافهم شرق الارض وغربها من الصين شرقاً الى شبه جزيرة ايبريا غرباً مروراً بدول افريقيا.

والمدهش ان الامريكان مستغربين ان العرب سارعوا بالاتجاه نحو الشرق (محور الصين وروسيا) عندما اتيحت لهم الفرصة وسمحت لهم الظروف الدولية بذلك متهمينهم بالاخلال بالاتفاقات والتحالفات ومنكرين للجميل للقوى التي تحميهم من الشرور المحدقة بهم من كل جانب ولوجه الله تعالى كما يدعون....!!!!!!!!, اما انهم اغبياء او انهم يتغابوا.......وعلى الارجح انهم كلاهما....!!!!!

هذا وفي سياق غير بعيد, كان ملفتاً مدى الحفاوة التي احاطت بعودة سوريا الى الجامعة العربية ومشاركة الرئيس بشار الاسد في قمة جدة, ولكن كان ملفتاً اكثر مدى القوة التي عادت بها القضية الفلسطينية الى موقعها الطبيعي في صدارة العمل العربي المشترك وفي قلب ومركز اهتمامات الدول العربية بدون استثناء كما جاء في كلمات جميع القادة وتأكيدهم على ضرورة قيام الدولة الفلسطينية على الاراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية وعودة اللاجئين وفقاً للمرجعيات والقرارات الدولية وخصوصاً مقررات قمة بيروت عام 2002, ويأتي هذا الاجماع العربي على ضرورة قيام الدولة الفلسطينية وفي هذا التوقيت وفي هذا الظروف الدولية الحرجة رداً على ترهات روجت لها دوائر صهيونية على اعلى مستوى في الآونة الأخيرة زاعمة ان الكيان الصهيوني استطاع القفزعلى القضية الفلسطينية وتجاوز مقررات قمة بيروت (التي تنص على قيام دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية وعودة اللاجئين شرط مسبق للاعتراف بالكيان الصهيوني وإقامة علاقات معه), وانه نجح في تطبيع علاقاته مع عدد من الدول العربية في الشرق والغرب وانه اوهم مستوطنيه انه على وشك تطبيع علاقاته مع عدد اخر من الدول العربية قريباً جداً كما يزعم, وهنا يكمن اهمية قمة جدة وكلمات القادة العرب والبيان الختامي ليشكل ذلك طعنة في قلب حلم الصهاينة وتتبخر آمالهم وتذهب ادراج الرياح.

ورغم كل هذه التطورات خرج الى الاعلام مؤخراً وزير خارجية الكيان ايلي كوهين يزعم من جديد بقرب التطبيع مع السعودية وحدد مدة 6 اشهر, تجدر الاشارة الى ان هذا الشخص كان قد كذب عدة مرات في هذا الشان عندما كان رئيساً للاستخبارات في حكومة نتياهو السابقة بالادعاء ان كيانهم المصطنع على وشك التطبيع خلال ساعات او ايام وثبت انه كاذب, وكل ذلك يأتي في سياق التشويش الذي دأبت عليه الدوائر السياسية والاعلامية والعسكرية الصهيونية وربما ايضاً في سياق التمنيات لا أكثر.

آخر الكلام:

• من المعروف في هذا الشأن أن المملكة العربية السعودية اكدت مرات عدة على لسان كبار المسؤليين ان شرطها لاي علاقات مع الكيان تاسيس دولة فلسطينية على كامل اراضي عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية وعودة اللاجئين الى بيوتهم واراضهم وفقاً للمرجعيات الدولية ذات الصلة وفي مقدمتها المبادرة السعودية التي اقرتها قمة بيروت عام 2002.

• تأتي هذه القمة بعد تطور دولي غير مسبوق, اذ شهدت اروقة الامم المتحدة انعقاد جلسة خاصة لأحياء الذكرى ٧٥ لنكبة الشعب الفلسطيني (والتي صادفت في الرابع عشر من شهر مايو أي قبل 5 ايام من انعقاد قمة جدة), ورغم محاولات المندوب الصهيوني منع هذه الجلسة, إلا ان المنظمة الدولية اصرت ونجحت في اقامتها وأعتبر الكثير من المراقبين ذلك بمثابة نوع من الإعتراف الاممي الغير مسبوق تاريخياً من قبل الامم المتحدة والمجتمع الدولي الذي تمثله بالمسؤولية التاريخية عن مأساة تشريد حوالي 750 الف حينها من ابناء الشعب الفلسطيني وسرقة بيوتهم واراضيهم وكافة مقدراتهم وممتلكاتهم وارتكاب عدد من المجازر بحقهم راح ضحيتها الالاف من النساء والاطفال والشيوخ في هذا الحدث المأساوي المشؤوم والذي ما زالت مرارته ماثلة في الاذهان الى اليوم وستبقى في وجدان الاجيال الفلسطينية المختلفة الى ان يشاء الله ويمن عليهم بالعودة الى بلادهم وبيوتهم والتي تشير كل المتغيرات الدولية وغيرها من المؤشرات الى انها اصبحت ممكنة وأقرب من اي وقت مضى.