الغرب والصهيونية والقيم المشتركة
تاريخ النشر : 2023-03-30
الغرب والصهيونية والقيم المشتركة

بقلم: إياد البرغوثي - أكاديمي فلسطيني مقيم في رام الله

يكرّر الزعماء الأميركيون، والغربيون إجمالاً، أن بلدانهم تتشارك مع إسرائيل في القيم، وكأن أحداً ينكر ذلك. ومن شدة إعجاب هؤلاء الزعماء بالصهيونية، يتحينون الفرص للتأكيد على أنهم من مؤيديها، أو أنهم صهاينة، بصريح العبارة وبالفم الملآن.

ضمن هذا السياق، يقرّر الطرفان، الغرب الإمبريالي والصهيونية، انتماءهما للعالم «المتحضر»، وينكرون ذلك على الآخرين، الذين يصنفون عندما يقتضي الأمر، وتحين الفرصة، بالبرابرة والمتخلفين. ومن البديهي أن ما ينطبق على أبناء العالم «المتحضر»، لا يمكن أن ينطبق على غيرهم، وما يجوز لهم لا يجوز لغيرهم. ومن هنا نصرخ نحن، ويصرخ كل الذين لم تتح لهم فرصة الانتماء إلى العالم المتحضر، بأن الغرب يكيل بمكيالين، أحياناً لنتهمه بذلك ونحرجه، وأحياناً أخرى للفت انتباهه إلى ذلك، وكأننا نعتقد أنه غير مدرك لهذه «الكبيرة» التي يقع فيها، أو أنه يخجل من هذا التصرف، وهو يعتبر أن الكيل بمكيالين هو من متطلبات كونه عنصراً متحضراً يختلف بالطبيعة عن الآخرين.

قبل فترة ليست بعيدة، وصف الرئيس الأميركي جو بايدن، في رسالة وجهها إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، العملية التي قام بها شاب فلسطيني في مستوطنة النبي يعقوب بالقدس، وأدت إلى مقتل سبعة مستوطنين إسرائيليين، بأنها «اعتداء على العالم المتحضر». من نافل القول إن هذه العملية جاءت في أعقاب عملية للجيش الإسرائيلي في مخيم جنين، قتل فيها الجيش 11 فلسطينياً، لم يكن لبايدن فيها أي رأي، كما لم يكن له أي رد فعل، في كل العمليات التي تقوم فيها إسرائيل بقتل فلسطينيين. بايدن، لا يرى في هجوم المستوطنين على المخيم أي شيء غير طبيعي، بينما ينزعج عندما يثأر المخيم لشهدائه، على رغم ما يحمله تاريخ العلاقة بين المستوطنة والمخيم في فلسطين، من ظلم وعدوان وغياب لكل ما هو إنساني. فالرئيس الأميركي لا يكترث إلا عندما يكون «الاعتداء» على العالم «المتحضر»، الذي تمثّله الولايات المتحدة وإسرائيل والغرب عموماً. أمّا العالم «الآخر»، غير المتحضر، «المتخلف»، فهو لا يخضع لنفس المعايير التي تنطبق على الغرب.

الغرب والعنصرية

لا يمكن لأحد إنكار التقدّم الذي أحرزه الغرب في كثير من المجالات، كما أنّ الأنظمة والقوانين التي يطبقها داخل بلدانه تستحق في كثير منها التقدير والإعجاب، لكن المشكلة تكون عندما يقترن ذلك بالإمبريالية والتسلط والسعي للهيمنة، حيث يوظف ذلك بطريقة عنصرية يتم فيها اضطهاد الآخر، وتبرير ذلك الاضطهاد، بحيث تتم ممارسته بضمير «مرتاح».

لكن المشكلة الأساسية تكمن في الموقف العنصري الذي يتخذه الغرب من الآخر، والذي تحول تلك العنصرية دون فهمه جيداً. فالغرب لا يعتبر أن الأخلاق والإنسانية والمساواة والعدل قيم تنطبق على الآخرين. فضحايا الحرب في أوكرانيا، التي جند لها الغرب كل إمكانياته، لا يشبهون ضحايا الحرب في العراق وأفغانستان وفلسطين، وكل ضحايا الحروب خارج العالم الغربي.

أمّا الأمن المطلوب للإسرائيليين والأوروبيين والأميركيين، فهو ليس مطلوباً للفلسطينيين وللعرب وللروس وغيرهم من غير الغربيين. والمساعدات التي تُقدّم لأوكرانيا، لا يستحقها ضحايا الزلازل في سوريا وحتى تركيا العضو في حلف «الناتو».
لقد أظهر الموقف الغربي من اللاجئين الأوكرانيين «الأوروبيين المتحضرين»، عنصريته تجاه اللاجئين من آسيا وأفريقيا، وأظهرت المواقف الغربية من تقديم المساعدات لضحايا الزلازل في سوريا وتركيا عنصريته في هذا المجال أيضاً، كذلك فعلت تصرفات الغرب مع لقاح «كورونا»، الذي حرمت منه الشعوب الفقيرة إلى حد بعيد، بعكس بلدان الغرب الغنية.

ومن أجل أن يحافظ الغرب على «طهارته» الأخلاقية، فإنه يحاول أن يبعد عن أراضيه ما يمكن أن يمس بسمعته في مجال حقوق الإنسان. فأميركا، على سبيل المثال، تقوم بفتح سجون لها في دول عدة خارجها (غوانتانامو وغيره)، حيث تمارس التعذيب كما يحلو لها، متحللة من أي رادع قانوني أو أخلاقي. وهي كذلك تنشئ المختبرات البيولوجية الخطيرة خارجها، حتى تكون بعيدة من الأضرار الصحية و«الأخلاقية».

الغرب «البلطجي»

يعتبر الغرب الإمبريالي، وبخاصة الولايات المتحدة، أن الحق هو القوة. وأن تحقيق «المصالح» يبرر كل شيء. لقد حولت الإمبريالية، ومعها الصهيونية، العدوان على الآخرين إلى «مهنة»، وتحوّل التسلط إلى نوع من الاحتراف. تتطلب بلطجة الغرب على «الآخر» شيطنته. في القرن الماضي تمّت شيطنة الاشتراكية والاتحاد السوفياتي. منذ مطلع هذا القرن، وقبل ذلك أيضاً، تمت شيطنة الإسلام ديناً وثقافة وبشراً. وربط الإرهاب بالإسلام. ويجري النظر إلى شعوب الشرق بدونية، حيث يعتبر الاعتداء على أراضيها وممتلكاتها ومقدساتها، أو خطاب الكراهية ضدها، والتحريض عليها، وكأنه أمر طبيعي، بخاصة إذا صدر من قبل الغرب «الأرقى». هذا جرى تاريخياً مع الأفارقة، ومع الشعوب الأصلية في أميركا وأستراليا ونيوزيلندا، والآن يجري مع شعوب روسيا الاتحادية، ومع الصين التي تم إلصاق فايروس «كورونا» بها - «الفيروس الصيني».

في سياق «البلطجة» التي يستخدمها الغرب لتحقيق مصالحه تستثنى الأخلاق، وكل القيم التي قد تشكل عائقاً أمام ذلك. كل المؤامرات هنا واردة. والكذب، من أرفع شخصياته، على أهم المؤسسات الدولية، مقبول، مثلما جرى عندما كذب كولن باول، وزير الخارجية الأميركي في ذلك الوقت، على الأمم المتحدة، من أجل تبرير العدوان الأميركي على العراق.

هذه القيم والثقافة المشتركة، والمستندة أساساً إلى العنصرية والتفوق العرقي، وإصرارهما على تمثيل العالم المتحضر، هي بالضبط ما يستخدمه الطرفان، برأي إدوارد سعيد، لتبرير وشرعنة الاستعمار

الغرب والصهيونية... وحدة حال

لم تخف الصهيونية يوماً ارتباطها العضوي بالاستعمار الغربي، حيث وضعت نفسها معه استراتيجياً وحضارياً منذ اليوم الأول. وأظهرت عنصريتها بخاصة تجاه الشرق. وفاخرت بمشاركتها له في القيم. كان ذلك على رغم أن الصهيونية تدعي أنها نشأت من أجل حماية اليهود من «اللاسامية»، فوجدت نفسها في حلف مع أشد اللاساميين وضوحاً.

أهم ما يجمع الصهيونية بالإمبريالية الغربية، هو العنصرية المستندة إلى التفوق العرقي والديني، وتموضعها الحضاري معه ضد الآخر وبخاصة الشرق «المتخلف» واحتقارها له. هذا لم يكن ضمناً بل جاء علناً في تصريحات كثيرة للقادة الصهاينة.

من الجانب الغربي، ربما كان أوضح حديث في هذا المجال، لرئيس الوزراء البريطاني الأشهر ونستون تشرشل، الذي أوضح أنه لا يؤمن أن ظلماً وقع على الهنود الحمر، لأن البيض «أرقى وأوسع حكمة»، فيما كانت نظرته للمسألة الفلسطينية تعتبر أن اليهود عرقاً أرقى، وبالتالي يحق لهم احتلال فلسطين.

أمّا على الجانب الصهيوني، فعلى سبيل المثال، قال ثيودور هرتزل: «بالنسبة إلى أوروبا سنمثّل جزءاً من السدّ أمام آسيا، سنخدم في الخط الأمامي لندافع عن الحضارة ضد البربرية». أما جابوتنسكي، فقال: «نحن اليهود ننتمي إلى أوروبا... ونحن ذاهبون إلى أرض إسرائيل، أولاً من أجل أراضينا القومية، وثانياً من أجل توسيع حدود أوروبا حتى نهر الفرات». اكتفى بنهر الفرات لأن الخليج لم يكن مهماً في ذلك الوقت. من جهته، اعتبر بنيامين نتنياهو، عندما خطب بمناسبة أحداث الحادي عشر من سبتمبر، أن «الحرب ضد الإرهاب الدولي ضرورية من أجل استمرار الحضارة الغربية». فهو اعتبر أن لاحتلال فلسطين بعداً حضارياً، إضافة إلى الأبعاد الأخرى.

من القيم التي تتشارك فيها إسرائيل مع الولايات المتحدة، كون أن كليهما هو استعمار استيطاني يقوم على التخلص من الشعب الأصلي. فالولايات المتحدة وغيرها من البلدان في «العالم الجديد»، جاءت إثر «اكتشاف» ذلك العالم، وكأن المكان لم يكن مأهولاً قطعياً، وكذلك فلسطين التي اعتبرها الصهاينة أرضاً بلا شعب، هي «اكتشاف» أيضاً بشكل أو بآخر.

وتتشارك الولايات المتحدة وإسرائيل الحديث عن «طهارة» جيشيهما. فكل الجرائم التي ارتكبتها الولايات المتحدة والمهاجرون الغربيون الأوائل، من أيام الهنود الحمر، مروراً بهيروشيما وفيتنام وكوريا وأفغانستان والعراق وسوريا، وغيرها، هي من فعل الضحايا أنفسهم. وكذلك فإن الجرائم التي يرتكبها الإسرائيليون، بسبب الفلسطينيين والعرب. لذلك تصر الدولتان على عدم جواز محاكمة أي جندي أميركي أو إسرائيلي أمام محاكم غير الأميركية والإسرائيلية. كما تتشارك الدولتان في تحميل الضحايا مسؤولية الجرائم التي ارتكبت بحقهم، وتطالبهم بتبني الرواية الأميركية والإسرائيلية للأمور. أحد الحاخامات الإسرائيليين صرح عند قتل الجيش الإسرائيلي لكثير من الأطفال الفلسطينيين أثناء الانتفاضة الأولى في الثمانينيات، بأن «الله لن يغفر للفلسطينيين أنهم أجبرونا على قتلهم». هو يريد من الله أن يلاحق الضحايا أيضاً ويتبنى الرواية الإسرائيلية.

ضحايا أميركا أيضاً يتبنون روايتها؛ اليابانيون يعتبرون «سوء تصرفهم» هو سبب القنابل النووية في هيروشيما وناغازاكي. كذلك يفعل الألمان، في تبني رواية الأميركان حول ما جرى في الحربين العالميتين.

العنصرية جوهر الداء

هذه القيم والثقافة المشتركة بين الإمبريالية الغربية والصهيونية، والمستندة أساساً إلى العنصرية والتفوق العرقي، وإصرارهما على تمثيل العالم المتحضر، هي بالضبط ما يستخدمه الطرفان، برأي إدوارد سعيد، لتبرير وشرعنة الاستعمار والاحتلال واستغلال شعوب العالم وثرواتها. وهذا يفسر إصرارهما على إلغاء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3379 الذي صدر بتاريخ 10 تشرين الثاني 1975 الذي اعتبر أن الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري.

لهذا السبب، فإن العمل على قيام نظام عالمي خالٍ من العنصرية بأيديولوجياتها المختلفة، هو حاجة ماسة للبشرية. وأي نظام عالمي جديد يلد بوجود تلك الأيديولوجيات، لا يمكن أن يكون إلا مولوداً مشوهاً.