قراءة من زاوية قريبة في اتفاق استئناف العلاقات السعودية الإيرانية
تاريخ النشر : 2023-03-22
قراءة من زاوية قريبة في اتفاق استئناف العلاقات السعودية الإيرانية
د. سمير الددا


قراءة من زاوية قريبة في اتفاق استئناف العلاقات السعودية الإيرانية

بقلم: د. سمير الددا

رغم مضي حوالي 10 أيام على الاعلان عن التوصل إلى اتفاق على استئناف العلاقات الطبيعية بين السعودية وإيران في العاشر من الشهر الجاري, إلا أن هذا الاتفاق ما زال يزاحم الأحداث الدولية على صدارة الاهتمامات العالمية على المستويات السياسية والاعلامية. 

لعل أكثر لفت الانظار في الاتفاق السعودي الإيراني الذي نص على عودة العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين خلال شهرين, هو أن الصين هي  الطرف الراعي للاتفاق وهي بالتالي الطرف الضامن له وهذا يعني التعهد بحماية الاتفاق بما في ذلك توفير حماية امنية وعسكرية لكلا طرفيه وبرضاهما وإنهما باركا ذلك, وهذا وفق منطق الأمور يقتضي تواجد عسكري وأمني صيني كمي ونوعي يتناسب مع حجم هذه المهمة في منطقة الخليج, وهذا النوع من التواجد غالباً ما يكون ذات طابع استراتيجي متوسط أو طويل المدى ويستوجب توفر إمتيازات وتسهيلات محددة تحكمها أطر قانونية وسياسية وعسكرية وأمنية, وهذا بحد ذاته تطور خطير في منطقة كانت طيلة اكثر من 80 عاماً منطقة نفوذ أمريكي خالص, ولم تكن الصين أو غيرها تستطع التجرؤ على مجرد الاقتراب منها.

نعم, هذا يشير إلى تغيير كبير يطرأ على خريطة النفوذ في الشرق الأوسط, ويعود ذلك الى سببين رئيسيين الأول أن الولايات المتحدة تخلت عن جزء مهم من نفوذها في المنطقة على إثر تخفيضها لوجودها العسكري والأمني هناك الذي اقتضاه التحول الكبير الذي طرأ على سياستها وسلم أولوياتها واهتماماتها والتي فرضته تغيرات عالمية, فأصبح يحتل قمة الأولويات في السياسة الأمريكية ما يجري في  أوكرانيا منذ أكثر من عام وسيطرة روسيا على حوالي ربع الأراضي الأوكرانية وكذلك الصين الذي تهدد علناً باستعادة تايوان ولو بالقوة وهذه قضية في غاية الأهمية بالنسبة لواشنطن, إذ يعتبر الأمريكيون أن تايوان بمثابة حاملة طائرات أمريكية ثابتة, ومن ثم كوريا الشمالية وتجاربها النووية والصاروخية المتتالية التي تشكل قلقاً كبيراً لواشنطن وحلفائها في شبه الجزيرة الكورية ومحيطها.

والسبب الثاني ما يشهده العالم من تغير على تركيبة النظام الدولي القائم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية منتصف الأربعيات والتي هيمنت عليه الولايات المتحدة منفردة منذ اكثر من 3 عقود, وهذا هو الجهد التي تقوده حالياً كلاً من موسكو وبكين بمباركة العديد من عواصم العالم كطهران, نيودلهي, برازيليا, كيب تاون, كاراكاس, بيونغ يانغ, انقرة, مينسك, بيونس ايرس, القاهرة والجزائر, اسلام اباد وغيرها وهذا ما شدد عليه الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جين بينغ في مؤتمر صحفي مشترك خلال زيارة الاخير التاريخية والبالغة الاهمية من حيث الدلالات والتوقيت لموسكو يوم الاثنين الموافق العشرون من شهر مارس الجاري بقولهما: "روسيا والصين تعملان على بناء نظام عالمي عادل قائم على القانون الدولي".

وفي سياق متصل, أثار الاتفاق على إعادة العلاقات بين السعودية وإيران موجة عارمة من ردود الفعل وكلها بالمطلق رحبت بهذا الاتفاق ما عدا حالة الهلع  التي اجتاحت الكيان الصهيوني وردود الفعل الصادرة عنه والمعاكسة لردود فعل كافة دول العالم بما فيها الولايات المتحدة راعي الكيان وأهم ركائز بقائه بما يبرهن أن هذا الكيان شاذ وغريب وغير منسجم مع المزاج العالمي ولا يبالي بتوجات المجتمع الدولي ويعادي الفطرة السليمة ومنطق السلام والوئام والوفاق الاقليمي.

لكن شذوذ الكيان الغاصب عن طبيعة البشر (حب الخير والجنوح إلى السلم) قد يبدو في نطاق واقع هذا الكيان ويتفق مع طبيعته المجبولة على الشر, فهذا الكيان قام اصلاً على اشلاء وجماجم ودماء الشعوب العربية في فلسطين ومصر ولبنان وسوريا والاردن وغيرها, ومثل هذا الكيان الذي نشأ في مثل هذه الاجواء يعيش يزدهر وينتعش فقط في مثل هذه الاجواء التي نشأ فيها اي اجواء الحروب والقتل والدم والخراب والدمار وقطعاً لا يستطيع العيش والبقاء في ظل اجواء الاتفاق والوفاق والوئام والسلام.....لذا من المنطقي ان لا يقبل عودة علاقات طبيعية بين بلدين شقيقين وجارين.

رد فعل الكيان الصهوني الهسيتري بكافة اطيافه السياسية, يعكس مدى ضخامة الآمال التي كان يعقدها الصهاينة على إقامة علاقات مع السعودية الدولة الاهم اسلامياً وعربياً وخليجياً واقليمياً, رغم أن وزيرالخارجية السعودي الأمير سعود بن فرحان أوضح بما لا يدع مجال للشك وفي أكثر من مناسبة وعبر وسائل إعلام عالمية وعربية أن انسحاب الصهاينة من الأراضي المحتلة عام 1967 وإقامة دولة فلسطينية عليها وعاصمتها القدس الشرقية وعودة اللاجئين الفلسطينيين لبلادهم وبيوتهم ومدنهم وقراهم وفقاَ لمبادرة قمة بيروت العربية 2002 هو الشرط الرئيسي لاعتراف بلاده بالكيان الصهيوني وإقامة علاقات معه.

في الكيان المحتل أجمع كافة الأطراف السياسية على تحميل الحكومة الحالية ورئيسها نتنياهو مسؤلية التوصل لهذا الاتفاق بين الرياض وطهران, ووصفوه بأنه فشل ذريع لنتنياهو شخصياً الذي كان يتشدق طيلة سنوات حكمه السابقة بقدرته على الالتفاف على قرارات قمة بيروت التي تشترط انسحاب الصهاينة من الأراضي المحتلة عام 1967 واقامة دولة فلسطينية عليها وعاصمتها القدس الشرقية وعودة اللاجئين لبيوتهم وبلادهم كشرط مسبق لاعتراف الدول العربية بالكيان الصهيوني واقامة علاقات معه كما سبقت الاشارة, وادعاءاته بأنه قادر على تجاوز القضية الفلسطينية واقامة علاقات مع الدول العربية بغض النظر عن مقررات قمة بيروت, بل كان أهم عنوان لحملته الانتخابية الاخيرة الذي جاءت به إلى السلطة كان زعمه بأنه على وشك توسيع ما يسموه "اتفاقات ابراهام" وكان تركيزه في تلك الحملة  على ما اسماه "التطبيع مع السعودية" ويرى الكثير من المحللين ان نتنياهو خدع بهذا الوهم معظم الذين صوتوا له بسبب هذا الوعد, والذين احبطهم بشدة اعلان العلاقات السعودية الايرانية الى طبيعتها وهذا الامر شكل خيبة امل كبيرة لنتنياهو ومنتخبيه وبخر احلامهم في التقارب مع اهم دولة عربية وخليجية وهذا ما دفع كبير المحللين في صحيفة يديعوت احرونوت العبرية لوصف الاتفاق السعودي الايراني بأنه "بصقة في وجهه نتنياهو وحكومته", وقد يشكل المسمار الاخير في حياة نتنياهو السياسية, لأنه ببساطة لم يحقق لناخبيه أهم ما وعدهم به وبالتالي من المنطقي انهم لن ينتخبوه مرة اخرى, مما يعني انه ينتظره مستقبل قاتم بعد انتهاء فترة حكمه التي لن تستمر كثيراً بسبب موقف المجتمع الدولي الرافض لكثير من اعضاء حكومته المتطرفين جداً واللذين يعيشون داخل خرافات ايدولوجية يلفظها جميع دول العالم بلا استثناء لانها بلا أصل ولا وجود الا داخل عقول هؤلاء الارهابيين المتعفنة اللذين يعيشون خارج اطار هذا الزمن.

المعارضة الصهيونية بالاجماع ارجعت التوصل إلى هذا الاتفاق إلى طبيعة الحكومة الصهونية الحالية التي تضم ارهابيين وشديدي التطرف, وفقدان ثقة جميع الفرقاء بها عالمياً واقليمياً, وحملتها المسؤولية لفشلها عن التنبؤ بما كان يجري في بكين والتاُثير عليه والسبب في نظر أقطاب المعارضة هو انشغال هذه الحكومة بمصالح رئيسها الشخصية والبحث له عن مخارج لتخليصه من جرائم الرشوة خيانة الامانة والفساد التي تنظرها المحاكم الصهيونية, وفي هذا السياق يرى رئيس الحكومة السابق وزعيم المعارضة يائير لابيد ان نتنياهو يتحمل مسؤولية التوصل إلى الاتفاق السعودي الايراني وقال في هذا الصدد "ان الاتفاق قضى على حلم نتنياهو باقامة تحالف مع الدول السنية المعتدلة ضد ايران وعزلها عن العالم" واضاف "الاتفاق يعكس عدم الثقة في شخص نتننياهو وحكومته وكذلك عدم الثقة في مشروعه الذي يهدف الى عزل ايران والوقوف في وجه مشروعها النووي كما يعكس عدم الثقة بقيادة واشنطن للعالم اليوم" كما قال.

هذا وحمل وزير الدفاع الأسبق أفيغدور ليبرمان هو الآخر نتنياهو المسوؤلية عن هذا الاتفاق, وطالبه على اثر ذلك بالاستقالة لفشله الذريع في سياسة "التطبيع" الذي بدأت في عهد الرئيس الامريكي السابق دونالد ترامب على حد قوله.

أما رئيس الوزراء الأسبق نفتالي بينت فقد وصف الاتفاق بأنه "أكبر فشل سياسي يمنى به الكيان الصهيوني وهو ضربة قاتلة لجهود بناء تحالف إقليمي ضد إيران، بل انهيار للجدار الذي تم تشييده لدرء الخطر الايراني وفشل ذريع لحكومة نتنياهو ناجم عن مزيج من الإهمال السياسي والضعف العام والصراع الداخلي" واضاف بينيت قائلاً "ان استئناف العلاقات بين السعودية وإيران هو انتصار سياسي لإيران وتطور خطير يهدد إسرائيل".

من جهتها قالت زعيمة حزب (العمل)، ميراف ميخائيلي، إن "السعودية تجدد العلاقات مع إيران العدو الأكبر لإسرائيل وهذا فشل كبير لنتنياهو وحكومته، هذه حكومة خطيرة لن تدوم طويلاً، وهذا أمر مفرغ منه، لكن الضرر الهائل الذي سببته لأمننا، سنستغرق سنوات لإصلاحه".

وفي سياق آخر ذا صلة, للاتفاق السعودي الايراني تداعيات مهمة على الصعيد الاقليمي, فمن المتوقع بقوة انه سيكون له تاثير ايجابي كبير على ما يجري في اليمن, وقد بدأت بوادر ذلك في الظهور الى العلن, اذا نقلت وسائط التواصل الجماعي عن الحوثي ان السعوديين اشقاءنا وان مشلكتنا مع الامريكيين والصهاينة, ومن جهته رحب حسن نصر الله امين عام حزب الله بالاتفاق ووصفه "بالجيد" لكل الاطراف ويأمل المراقبون ان ينعكس ذلك ايجاباً على انفراج الازمة الطاحنة التي تعصف بلبنان في السنوات القليلة الماضية, وكذلك رحبت كل من حماس والجهاد بالاتفاق على امل ان ينعكس ايجاباً على حالة الانقسام التي تحكم المشهد الفلسطيني منذ حوالي 17 عاماً, كما رحب بالاتفاق الحشد الشعبي العراقي ومن المتوقع ان سيكون للاتفاق انعكاسات ايجابية على الحالة الامنية العراقية باذن الله.

يعزز الاتفاق حجم النفوذ السعودي في المنطقة الذي من المتوقع ان يمتد الى مناطق جديدة يتيحها هذا الاتفاق وما لازمه من تفاهمات مع طهران واذرعها في المنطقة, من جهتها ايران ستستفيد من هذا الاتفاق الذي من المتوقع ان يساعدها على التوصل الى اتفاق نووي جديد قد يكون اكثر ملاءمة لتطلعاتها في ظل التفاهمات الجديدة مع السعودية التي كانت ترفضه في السابق, لانه من المفترض ان يكون  الملف النووي الايراني قد طرح للبحث وتم التوصل الى صيغة مرضية للرياض وطهران حوله كجزء من اتفاق استئناف العلاقات بينهما.

الاتفاق يهيئ أجواء المنطقة لاعادة تشكيل التحالفات الجيوسياسية القائمة هناك وفقاً لما تم الاتفاق عليه بين البلدين, وبما يراعي مصالحهما بالدرجة الاولى وهذا بالطبع على حساب المصالح الصهيونية والامريكية التي قوضها هذا الاتفاق.

صهيونياً, الكيان الصهيوني كان هو الخاسر الأكبر جراء هذا الاتفاق كما اعترف كبار قادته كما سبقت الإشارة, فقد كان الكيان المحتل يوظف الخلاف مع ايران للولوج إلى المنطقة تحت ذريعة تشكيل حلف مع دول المنطقة لمواجهة الخطر الإيراني,  ليأتي هذا الاتفاق ليفجر مفاجأة غير سارة للكيان ويبدد اوهام واحلام كانت تراوده للسيطرة على المنطقة والالتفاف على مقررات قمة بيروت وتصفية القضية الفلسطينية والتنكر لحقوق الشعب الفلسطيني المظلوم.

آخر الكلام:

هذا الاتفاق يعزز مقررات قمة بيروت, ويؤكد على أن السبيل الوحيد امام الكيان الصهيوني اذا ما رغب في اقامة علاقات مع السعودية  هو الاستجابة للشروط السعودية المنبثقة عن مقررات قمة بيروت, وعندها فقط سيكون هذا تطور استراتيجي قد يكون الاهم في تاريخ هذا الكيان المحتل نظراً لوزن السعودية السياسي والاقتصادي الضخم ونفوذها المؤثر عالمياً واسلاميا وعربياً.

بدأت بوادر عودة إيران إلى جوارها العربي الطبيعي تلوح في الافق, فقد تناقلت وكالات الانباء الاربعاء 22 مارس الجاري ان الامارات العربية المتحدة تدرس تقليص تمثيلها الدبلوماسي في تل ابيب وهذا يعني في الاعراف السياسية ان العلاقات بين الطرفين متردية ومستمرة في التردي ولا امل في تطورها في الامد المنظور, ومن ناحيته صوت البرلمان الاردني بالاغلبية على طرد السفير الصهيوني من عمان على اثر خطاب القاه بتسلئيل سموترتش وزير المالية والوزير في وزارة الدفاع الصهيونية في باريس قال فيه "انه لا وجود لشئ اسمه الشعب الفلسطيني وعلى العالم كله ان يسمع ذلك" مما اثار حفيظة الحكومة الاردنية التي احتجت بقوة على تصريحات الوزير الصهيوني وخصوصاً انه كان يتحدث امام جمع حاشد وعلى منصة تحمل خريطة ما أسماه "خريطة اسرائيل" كانت تشمل كل اراضي فلسطين والاردن, والمغرب بدأ ينتكر للاتفاق الذي وقعه مع الامريكان والصهاينة, والسودان لم يتخذ اي خطوة رسمية في اتجاه انشاء علاقات جدية مع الصهاينة, اما البحرين فسياستها الخارجية  منسجمة مع سياسات محيطها الخليجي وعلى الارجح سيكون مستقبل علاقتها مع الكيان الصهيوني رهناً لهذه المقاربة.

يبدو أن اتفاقات كوشنر في طريقها إلى المكان الأجدر بها.. إلى مزابل التاريخ... وهناك يجب أن تكون.. لأن هذا فقط ما تستحقه...!