في مقدمة عبقرية الفشل للمفكر خالد الحسن
تاريخ النشر : 2023-03-21
في مقدمة عبقرية الفشل للمفكر خالد الحسن
بكر أبو بكر


في مقدمة عبقرية الفشل للمفكر خالد الحسن

بقلم: بكر أبو بكر

كتب المفكر العروبي الكبير الشهيد خالد الحسن (1928-1994م) عضو اللجنة المركزية لحركة التحرير الوطني الفلسطيني-فتح، كتابًا هامًا تحت عنوان "عبقرية الفشل" عام 1987 وكانت مقدمته الصاخبة والمفاجئة كالتالي:

((في جلسة حوار سياسي فكري مع صديق ديغولي فرنسي تجاوز الستين من عمره تطرق البحث بيننا الى عوامل التفكك والعجز في القيادات، وبالتالي في حركتها النضالية، سياسية كانت أواقتصادية أو إعلامية...الخ.

وأثناء الحديث توقف صديقي عن الكلام برهة، ثم قال سأروي لك القصة التالية:

عندما استلم ديغول[1] رئاسة الجمهورية الخامسة كانت الشبهات تحوم حول أحد كبار الموظفين في قصر الرئاسة بأنه يعمل لمصلحة دولة كبرى، وقد عجزت كل الأجهزة المختصة من الوصول الى دليل مادي واحد لتحويل التهمة من شك الى قضية مادية.

وفي النهاية رُفع الأمرُ الى ديغول حيث قام باستدعاء الموظف المشتبه به الى مكتبه.

وحال دخوله استثمر الرئيس ديغول عنصر المفاجأة وهيبته الرئاسية ليطرح على الموظف بشكل مباشر وصريح السؤال التالي:

منذ متى وأنت تعمل لمصلحة دولة (...)؟

فأجابه الموظف برد فعل سريع: منذ عشر سنوات

واستمر الحوار كما يلي:

ديغول: كيف تتلقى التعليمات؟

الموظف: لا أتلقى تعليمات

ديغول: كيف تُرسل تقاريرك؟

الموظف: لا أرسل أية تقارير

ديغول: كيف يتم الاتصال بك إذن؟

الموظف: لا يوجد أي اتصال

ديغول: كيف تعمل إذن لصالح دولة (...)؟

الموظف: إن مهمتي تنحصر من خلال موقعي بأن اختار دائمًا أسوأ الموجودين من حيث الفهم والاختصاص الى عضوية اللجان التي تبحث المواضيع المطلوب دراستها، وتقديم التوصيات بشأنها، لتكون التوصيات أبعد ما تكون عن الصواب، وقد قمتُ بهذه المهمة منذ ذلك الوقت الى الآن.

عندما سمعتُ هذه القصة أحسست بقشعريرة هائلة تسيرُ في جسمي في كافة الاتجاهات، وكدتُ أفقد توازني في الحديث مع صديقي الديغولي بعد أن مثلت أمامي صورة الأعداد الهائلة من الرجال الذين يحتلون مواقعًا ليسوا في مستواها، ومع أن أحدا منهم ليس عميلًا لدولة كبرى أوصُغرى، ولكن النتيجة واحدة، هي الفشل في الأعمال والممارسات.

ولكن، الخلاف النوعي بين الحالتين أن الموظف الفرنسي كان عميلًا بإرادته لدولة أجنبية، أما عندنا فإننا نمارس ذلك تبرعًا وطواعية وبلا وعي.

وهنا احسستُ بعمق الألم الذي يعانيه كل أولئك الذين ينادون بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب بعد أن وعى هؤلاء الظاهرة الممتدة في وطننا العربي التي تعطي فيها الأولوية للولاء الشخصي، بدلًا من الولاء الوطني والقومي، وإلى حُسن الحديث في المديح والإعجاب بدلًا من الكفاءة وشجاعة إبداء الرأي.. ورحم الله من قال:

صديقك من أصدقك لا من صدقك[2].

وفي خضم هذه المشاعر التي انتابتني تساءلت: هل نمتلك عبقرية خاصة اسمها عبقرية الفشل؟))-انتهت المقدمة.

وفي إطلالة سريعة فقط على الصفحات الأولى من الفصل الأول من فصول ثلاثة بالكتاب لتشويق من يرغب بالقراءة والفهم والتعلم، يكتب  "أبوالسعيد" عن العداء الأمريكي (حتى النخاع- كما أسماه- للأمة العربية والمصالح العربية والشعب الفلسطيني ونضاله).

إنه العداء الامريكي المستند لقيَمه المصلحية الرأسمالية الخاصة بعيدًا عن أية قيم أخلاقية مهما كانت، فهو يفتخر كان ومازال بعقلية (الكاوبوي) والسرقة والقتل والكذب، ويدعي الدفاع عن حقوق الانسان، ويتعامل بالمقاييس المزدوجة المتناقضة تجاه القضايا المتماثلة (ص22)،

إنه الرأسمالي صاحب شهوة السيطرة على العالم منذ الحرب العالمية الثانية على الأقل الذي سعي لتركيع أوربا والسيطرة عليها وضمها تحت جناحيه.(ص28)

وفي منطقتنا يهدف الأمريكي لإفقاد العرب قدرتهم السياسية وتعطيل التنمية وقدرة السوق في (عربدة امريكية).

 وبعد شرح هام مدعّم بالأمثلة والأدلة يتساءل قائلًا (من غير المفهوم إطلاقًا حتى بمفهوم الضعيف، الصمت على هذه العربدة الامريكية والإهانات.....)(ص16).

ثم يعدد لاحقًا الأمثلة على السلوك الأمريكي المهين ضد أصدقائها!؟ ليؤكد بعدها (أن الحملة الامريكية الرسمية والاعلامية لاتزال مستمرة ومليئة بالحقد والتحريض العدواني للرأي العام الأمريكي والأوربي والغربي على الشعب الفلسطيني والأمة العربية بشكل هستيري بعيدًا عن كل أنواع المنطق او التبرير...) (ص24).

ونحن اليوم في العام 2023 فهل رأينا انزياحًا أمريكيًا ولو بمقدار عقلة أصبع!؟ عن تحريضها وعدوانيتها الهستيرية ضدنا بأي شكل من الأشكال؟

وفي حديث الأخ خالد الحسن "أبو السعيد" عن مبرر عدم الرد العربي على العربدة الأمريكية المتواصلة الكثيرة آنذاك، يقول ص25 أن (الإرادة هي التي تحول الامكانات-ذاكرًا قدرات الأمة الهائلة ولكن غير المستخدمة-الى قدرات فاعلة على الساحة الدولية).

وعندما يتطرق لبعض الأمثلة عن السطوة الامريكية من لقاءاته مع المسؤلين الغربيين يفاجئه أحدهم وهو محامي أمريكي شهير بقوله (ص28):

((إنكم تعتقدون أن أمريكا دولة رأسمالية وهذا خطأ كبير، لأن أمريكا هي الرأسمالية ذاتها: أما أوربا واليابان واستراليا ونيوزلندا فهي فقط دول رأسمالية نصف مجتمعها يقوم على المساعدات الخيرية (أمور الضمان الاجتماعي للفقراء والعاطلين والمرضى)

 ثم قال: لذلك فإنكم تتعاملون مع الخدم كأنكم في أوربا ولستم في أمريكا.

قلت: كيف؟ ومن هم الخدم ومن هم السادة أو الملوك؟

قال: الخدم هم رئيس الدولة ومجلس الشيوخ والكونغرس والصحافة والجامعات...الخ. أما السادة أو الملوك فهم ملوك رأس المال الصناعي والزراعي والبنكي الذين ينفذ الخدم سياستهم.

ثم أضاف: لذلك عليكم أن تدخلوا حلبة الملوك، فإذا أصبح لكم فيها وجود كما هو للحركة الصهيونية تبدأ عملية نجاحكم في الولايات المتحدة الامريكية))

هذه كانت  بعص نفحات مثيرة من المقدمة والبدايات للكتاب الثمين. إنه في كتابه هذا من ثلاثة فصول يعرض للعداء الامريكي الهستيري للأمة العربية جمعاء والقضية الفلسطينية ودور الإرادة وكيفية الرد، ثم يطرح الخيارات المفتوحة أمام منظمة التحرير الفلسطينية، وصولًا للفصل الثالث حيث يعنونه: غياب القرار القيادي يُسقط شرعية استمرار القيادة

وقد نعود في مرحلة قريبة لتبيان مفاصل هامة من كتابه الثمين من 208 صفحة وهو الذي أنزلناه في موقع أكاديمية فتح الفكرية على تلغرام، والله الموفق.

***
بكر أبوبكر

رئيس اكاديمية فتح الفكرية

اكاديمية الشهيد عثمان أبوغربية

2023م

[1]  يرجع الكثير من الفرنسيين الفضل إلى الجنرال ديغول (1890-1970م) في استقلال بلادهم من الجيوش النازية أثناء الحرب العالمية الثانية إذ لم يتوقف وهو في لندن من إطلاق الشعارات التي كانت تلهب قلوب الفرنسيين وتدفعهم إلى المقاومة، ومن أشهر نداءاتة «أيها الفرنسيون لقد خسرنا معركة لكننا لم نخسر الحرب. وسوف نناضل حتى نحرر بلدنا الحبيب من نير الاحتلال الجاثم على صدره». وهو أول رئيس للجمهورية الفرنسية الخامسة، وعرف بمناوراته الاستعمارية تجاه الجزائر، منها مشروع قسنطينة، القوة الثالثة، الجزائر جزائرية، مشروع فصل الصحراء الجزائرية.

[2]  صديقك من صدقك لا من صدّقك تنسب أحيانا لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال: "الطمأنينة إلى كل أحد قبل اﻹختبار عجز".