بقلم: زينب لعظم
ارتدت النساء ذاك التاج للمرة الثانية، و بريقه يخترق حجب الخيال بأشعته تارة، ويتلقى إيحاءات الصمود المرتقبة تارة أخرى... بريقه جعل ضوء المكان أكثر إشراقا، ضوء مصحوب بظل ... وعندما رأت النساء ذاك الظل، انجلى لديهن خياران: إما أن يسلطن بريق التاج، أو يخترن الهروب ومواصلة البحث عن ضوء أقل ظلا وبريقا...
وسط غابة (تيزي إيفري) بأميرة الريف (تارجيست) التابعة لأقليم الحسيمة، تقطن أعضاء تعاونية "نساء كرونة". كانت العاشرة إلا ربع وما هي إلا دقائق و تلتحق النساء، خلال هذه الدقائق انتابني إحساس غريب؛ فالمدينة التي كانت تتراءى لي من بعيد ليست كما خيل لي؛ شيء ما غير طبيعي بهذه المدينة، حاولت أن أتحسس وجوه أناسها من المارين أمامي لعلي أجد على محياهم إجابة، لكن لم تبصر عيني سوى عقولا شاردة ووجوها سمحة، وأخرى بريئة تعكس طيبة سكان هذه المدينة الذين يستقبلونك بابتسامتهم العفوية، وبعد أن تقوم بجولة تفقدية يتبين لك و بالملموس بأن البلدة هذه أشبه بالقرية منها بالمدينة !
التقيت تلك النسوة داخل مبنى صغير يضم أنواعا وأصنافا من الأعشاب الطبية والعطرية المرتبة بشكل جميل، و المعروضة للبيع كمادة خام.
وقد تبادر إلى ذهني و للوهلة الأولى لماذا هذه التسمية؟ "نساء كرونة" ! ابتسمت السيدة -أمينة اليعقوبي- رئيسة التعاونية ولم تتردد من سرد القصة بأكملها وهي تصف بكلمات من الماضي الذي لم تغرب شمسه عن الحاضر "يعود تاريخ تأسيس منطقتنا المسماة تارجيست إلى العقد الثالث من هذا القرن على يد الاستعمار الإسباني الذي أطلق عليها اسم "كرونة" بمعنى التاج La Corona ، وقيل أنها سميت بهذا الاسم نظرا لكونها محاطة بسلسة جبلية على شكل دائري، الشيء الذي يهبها شكلا هندسيا يشبه التاج .
تضيف باقي النساء بشيء من الفخر " أما بخصوص تسمية المنطقة ب (تارجيست) فإن أصلها أمازيغي وهو (تركازت) بمعنى الرجولة والصلابة والشهامة نظرا لغيرة سكانها على وطنهم، إذ اتخذت كقلعة حصينة ضد مطامع الإستعمار الإسباني آنذاك.
نساء التعاونية الفلاحية ''نساء كرونة'' أثناء جلسة حوارية مع فريق مشروع من فلاح الى فلاح بمنطقة تارجيست بالحسيمة
لقد كانت كلماتهن كقطرة من بحر زاخر، لمحة من دنيا الشعب العريضة الحافلة بألوانها الزاهية ... سطور و وريقات لاتفي بأن تكون عناوين صغيرة لجانب من معرفة تاريخ منطقتهن الذي ينشد صمود أبطالها، ويعيد شيم وكرم أبنائها وعلاقة كل ذاك بإنشاء هذه التعاونية النسوية للأعشاب الطبية والعطرية تحت مسمى التاج.
نعم لقد قررت النساء ارتداء تاج المنطقة من جديد، وبدء العمل فيها من حيث انتهى بها التاريخ، لتحلق بهن تجليات هدوءها إلى تلك الجبال الشامخة التي تتوسطها خضرة غابة أشجار الأرز العملاقة تزي ايفري تارة، وبياض الثلج تارة أخرى، فيخترن تلك الأعشاب العطرية الفواحة كإنطلاقة للتعاونية، بعدما كان كل شيء مستلهما من التاريخ والطبيعة.
لم تكن تلك هي الزيارة الوحيدة لنساء كرونة وإنما انطلقت رحلة من العمل الجاد منذ ذاك اللقاء شهر نوفمبر المنصرم، بعدما حضرت إحداهن ورشة التمكين الذاتي للمرأة الذي نظمته مؤسسة الأطلس الكبير في إطار برنامج من فلاح إلى فلاح لفائدة ثلة من التعاونيات الفلاحية النسوية بإقليم الحسيمة.
تابعنا مع"نساء كرونة" تلك الخطى التي ترسم مستقبل التعاونية وهن يعبرن بكل اعتزاز عن قيامهن بواجبهن تجاه منطقتهن تارجيست، وما كان من فريق البرنامج إلا أن أيدهن فيما نهجنه من حيث العمل على تثمين الأعشاب الطبية والعطرية التي تميز المنطقة، على اعتبار أن المغرب يحتل المرتبة 12 عالميا كمصدر ب000 52 طن من الأعشاب.
لقد كانت رؤية النساء صائبة لخوض تجربة جديدة بالانتقال من قطاع مُصَدِّر للأعشاب الطبية والعطرية من خلال التعاونية، الى قطاع مُصَنِّع حديث ذو قيمة مضافة، إذ تدخل ضمن هذه المنتجات الرئيسية المُصَدَّرة ما تزخر به منطقة تارجيست من تنوع فيتو بيولوجي .
وبتأطير من السيد -محمد كرزازي- الخبير المتطوع لبرنامج من فلاح إلى فلاح، نُظمت ورشة تكوينية شهر يناير الماضي لفائدة نساء كرونة حول صناعة مستحضرات التجميل الطبيعية باستعمال الأعشاب الطبية والعطرية التي سيتم بيعها فيما بعد خارجيا و محليا نظرا لما تستقطب هذه المنطقة السياحية من زوار.
نساء التعاونية الفلاحية ''نساء كرونة'' أثناء ورشة صناعة مستحضرات التجميل الطبيعية
لم يقتصر برنامج من فلاح إلى فلاح على هذا فحسب، وإنما تمت مواكبة نساء كرونة من خلال مهمة أخرى أواخر الشهر الموالي فبراير لصقل المهارات التي تم اكتسابها، إذ تمحورت الورشات التكوينية هذه المرة حول ما يسمى بتكنولوجيا صناعة مواد التجميل الخضراء و استخلاص الزيوت الطبيعية من النباتات، من خلال إتقان جميع المراحل من الزراعة إلى الإنتاج وضرورة الحصول على ترخيص لهذه المنتجات من وزارة الصحة.
وبعدما قدم السيد الخبير المتطوع -نوفل أحيدار- شرحا علميا دقيقا وتطبيقيا، منح بدوره فرصة أخرى لنساء كرونة من أجل مواكبة ناجعة، وذلك باستعداده لتنظيم برنامج ورشات تكوينية مكثفة بالمعهد الفلاحي التقني ''إيزمورن'' بإقليم الحسيمة خلال الثلاث الأشهر القادمة، بغية تحقيق إستفادة النساء من تجربة المهندسين والتقنيين في مجال زراعة وتثمين الأعشاب الطبية و العطرية.
نساء التعاونية الفلاحية ''نساء كرونة'' أثناء ورشة تكنولوجيا صناعة مواد التجميل الخضراء
لم تغب نساء كرونة أيضا عن الاحتفاء مع مؤسسة الأطلس الكبير بالذكرى التاسعة لغرس الأشجار المثمرة لهذه السنة، وتوج ذاك اليوم بمشاركة الجميع في غرس أشجار الزيتون والخروب والأعشاب الطبية و العطرية في أرض تجسد لهن سنوات الصبا وحلم الكبر. ذاك المكان الذي أضحين يترددن عليه كل يوم وهن يتفحص تلك النباتات العطرية ذات الرائحة الفواحة، ويرين من خلاله الحلم الذي يراودهن لسنوات عديدة.
مشاركة نساء التعاونية الفلاحية ''نساء كرونة'' في الاحتفاء بالذكرى التاسعة لزراعة الأشجار المدعومة من مؤسسة الأطلس الكبير.
بتعابير بالغة أكدت النساء عن استفادتهن من المؤسسة على الوجه الذي جعلهن لاينجحن في مجتمع جديد، بل يَسْعَيْنَ لإحياء كل شيء جميل وتراثي بداخل منطقتهن التي أضحت راكدة بعض الشيء بعدما كانت مجد أجدادهن الذين دفعوا ثمن الحرية وحب الوطن غاليا.
وسرعان ما لمحت النساء بريق مشعاً، رفعن أعينهن تجاه البريق، فإذا به يتحول إلى إشعاع يغطي المكان، إنه تاج تارجيست La corona قد لمع من جديد .... وهو بالضبط ما كُنَّ يبحثن عنه طوال الوقت....
هكذا خُيِّلَ إلى نساء كرونة نجاحهن، بعدما صنعن بعملهن من دُجْنَةِ ليل تارجيست قنديلا، إذا ما سألتهن كيف سَلَكْتُنَّ الطريق سَيُجِبْنَ " رأت أعيننا بريق التاج "!
***
زينب لعظم - مسؤولة ميدانية بمشروع من فلاح الى فلاح،
ومدربة ببرنامج التمكين الذاتي للمرأة بمؤسسة الأطلس الكبير.
ومدربة ببرنامج التمكين الذاتي للمرأة بمؤسسة الأطلس الكبير.