عشرون عاماً على غزو العراق.. "دعوة للمراجعة والمواجهة"
تاريخ النشر : 2023-03-21
عشرون عاماً على غزو العراق.. "دعوة للمراجعة والمواجهة"
محمد سيف الدولة


عشرون عاما على غزو العراق

"دعوة للمراجعة والمواجهة"

بقلم: محمد سيف الدولة

فى هذا الحديث سأتناول الغزو الأمريكي للعراق من خلال الزوايا والجوانب التالية:

1)  الخضوع الطوعي والاخضاع بالاكراه.

2)  مستعمرة أمريكية كبرى.

3)  بين الاستبداد الوطنى والديمقراطية التابعة.

4)  العراق وإيران.

5)  الترحم على الاتحاد السوفيتي.

6)  الاستقواء بالخارج.

7)  الحكام العرب يرفعون الراية البيضاء.

8)  التواطؤ المصري والسوري.

9)  انتقال القيادة الى المحميات الأمريكية من ممالك وامارات النفط والغاز.

10) سقوط النظام العربي الرسمي.

***

الاخضاع بالاكراه:

· لم يكن الغزو العسكرى الأمريكي للعراق واحتلاله على طريقة استعمار القرن التاسع عشر سوى الوسيلة التى اختارتها الولايات المتحدة لكسر العراق واخضاعه والحاقه بالحظيرة الامريكية، وهى الوسيلة التى لم تستخدمها ولم تحتاج اليها لاخضاع دول عربية اخرى، قبلت الخضوع طواعية بل سعت اليه.

***

تحول المنطقة العربية إلى مستعمرة أمريكية كبرى:

· لم يسفر الغزو الأمريكى عن الاحتلال العسكرى للعراق فقط، بل لمنطقة الخليج باكملها، اذ قامت الولايات المتحدة بتكثيف وجودها العسكرى وبذر أكبر عدد من قواعدها العسكرية فى العراق والسعودية وقطر والكويت والامارات والبحرين، مع الحصول على تسهيلات لوجستية كبرى لطائراتها واساطيلها فى المجالات الجوية والممرات المائية الاستراتيجية فى عديد من الدول العربية، لتتمكن من تثبيت وتدعيم هيمنتها الكاملة على المنطقة، وليتحول العالم العربى بأكمله، الا قليلا، الى مستعمرة أمريكية بمعنى من المعانى.

· وهي الحالة التى لا نزال تعيش فيها حتى اليوم والتى كان لها بالغ الأثر على كل صغيرة وكبيرة فى حياتنا.

· والتي يتوجب ان يكون التصدى لها ومواجهتها على رأس برامج ومشروعات كل القوى الوطنية العربية، فهى الأساس لما نحن فيه الآن، والباقى فروع وتفاصيل.

***

الاستبداد الوطنى والديمقراطية التابعة:

· يظل السؤال الأكثر محورية حول السرعة والسهولة التى تم بها هزيمة الدولة العراقية واسقاطها، رغم ما كانت تظهر به كدولة قوية وغنية ومسيطرة ومؤثرة تفرض قبضتها الحديدية على الداخل العراقى بلا منازع، وتعمل لها باقى دول المنطقة ألف حساب.

· ولماذا لم تستمر وتتصاعد المقاومة الشعبية للاحتلال لتجبره على التراجع والانسحاب على غرار ما حدث فى بلاد أخرى كفيتنام وافغانستان على سبيل المثال؟

· وهل كان استبداد النظام يبرر مواقف كل هذا الاعداد من القوى والطوائف والجماعات التى رحبت بالاحتلال الامريكى او صمتت وامتنعت عن مقاومته فى البداية، ثم سرعان ما قامت بالاعتراف به والتطبيع معه والالتحاق بالنظام الذى قام بتأسيسه والانخراط فى مؤسساته والمشاركة فى انتخاباته؟

· وكيف يمكن للقوى الوطنية العربية ان تنتصر فكريا وسياسيا وشعبيا للمشروع والنموذج الثالث البديل عن نموذجى الدولة فى العراق؛ نموذج الدولة الوطنية المستبدة قبل السقوط ونموذج الدولة الديمقراطية التابعة بعد السقوط؟

· فلا شك أن الاستبداد واخطاءه كان واحدا من اهم العوامل الاساسية التى مهدت لسقوط العراق وتدميره. وهو ما يرفض الحكام العرب بطبيعة الحال الاقرار به، بل على العكس فهم دائما ما يستشهدون بالضعف والفشل الذريع للدولة العراقية الحالية فى ظل نظام التعددية الحزبية، لشيطنة الديمقراطية والحريات والتبرير والترويج للاستبداد والدفاع عنه بمنطق قدرته على الحفاظ على وجود "الدولة الوطنية" وحمايتها من الانهيار والفشل.

· وهي حجة قوية بالفعل تؤكدها لاول وهلة ما آلت اليه الأمور فى سوريا وليبيا واليمن بعد الثورات العربية المطالبة بالديمقراطية، من انهيار للدولة وتدويل لكل شئونها الداخلية.

·ولكنها حجة مردود عليها بكم الهزائم والانهيارات التى حدثت بسبب الانفراد بالسلطة وصناعة القرار بلا مراقبة او محاسبة او تعقيب، ومنها تلك القرارات التى اتخذها صدام حسين باعلان الحرب على ايران 1980 او باحتلال الكويت عام 1990، قياسا على ما انتهى اليه حال العراق اليوم.

·وهو ما ينطبق على حكام عرب كثيرين.

***

العراق وايران:

· لم يسفر احتلال وتدمير الدولة العراقية عن انفراد الولايات المتحدة بحكم العراق، بل سرعان ما تمكنت ايران من اقتسام وانتزاع حصة كبيرة من النفوذ والسيطرة هناك مع الامريكان.

·وهو ما يجعلنا امام وضع غير تقليديا، حيث يعانى العراق اليوم من ظاهرة استعمارية معقدة تحت وطأة التبعية المزدوجة لكل من الولايات المتحدة وايران فى آن واحد، اللتين تقومان باستنزاف العراق واستغلاله الى أقصى حد، كواحدة من أهم وأشرس جبهات صراعهما فى المنطقة.

· واذا كانت الولايات المتحدة هناك بقوة السلاح والاقتصاد والهيمنة والجبروت الذين تمتلكهم كقوة عظمى منفردة بالعالم، فان الايرانيين هناك بقوة الطائفية المذهبية، وهى الظاهرة التى تثير اشكالية منهجية وسياسية كبرى فى التناقض والصراع القائم بين ما هو وطنى وعربى وبين ما هو دينى وطائفى او مذهبى.

· إن اشقاءنا من التيار الوطنى والقومى فى العراق يغضبون ويوجهون اقصى الانتقادات الى كل من يتعاطف مع ايران فى صراعها مع امريكا و(اسرائيل) والغرب، ويطلقون عليها (اسرائيل الشرقية)، فى حين ان اشقائنا القوميين والعروبيين من انصار بشار الاسد والنظام السورى وحزب الله ومحور الممانعة، يعتبرون ان اى نقد يوجه الى ايران اليوم هو بمثابة دعم وانحياز الى المشروع الامريكى الصهيونى فى المنطقة.

· وفي ذات المحور المتعلق بايران، يأتى السؤال حول الاسباب التى جعلت الولايات المتحدة لا تجرؤ على الاقدام على غزو ايران مثلما فعلت مع العراق رغم ان التناقضات والمخاطر التى تمثلها ايران على المصالح الامريكية تفوق بكثير تلك التى كان يمثلها عراق صدام حسين؟

· وهو ما يستدعى دراسة وتحديد طبيعة وخصائص الدول وانظمة الحكم التى تجبر الدول الاستعمارية الكبرى على تجنب وتحاشى الاحتكاك بها عسكريا رغم التفوق الهائل فى القدرات والامكانيات والتسليح.

·والاجابة الأولية بالطبع تكمن فى تلك الانظمة التي جاءت الى الحكم عبر ثورات شعبية حقيقية وتمتلك حاضنة بشرية مليونية من الكوادر والعناصر الثائرة القادرة على ايقاع ضربات مؤلمة بالعدو، وهو ما تفتقده كل انظمة الحكم العربية بدون استثناء.

***

الترحم على الاتحاد السوفيتي:

·بعد أن شاركت عديد من الدول العربية فى اخراج الاتحاد السوفيتى من المنطقة فى السبعينات وما بعدها، مما كان احد المقدمات التى ساعدت على انهياره، فان مواقف كثيرة قد تغيرت، فيكاد اليوم يكون هناك شبه اجماع معلن او مستتر بين كل مؤسسات الحكم العربية وصناع القرار فيها على الترحم على يوم من أيام الثنائية القطبية. وذلك بعد ان إكتشفوا اهمية الدور الذى كان تقوم به فى الحفاظ على التوازن الدولى، وغل الايدى المتبادل بين القوى العظمى عن القيام بمثل هذه المغامرات وشن مثل هذه الحروب.

·خاصة وقد كنا فى افغانستان والعالم العربى اول من تذوق سم الانفراد الامريكى بالعالم وما تبعه من احتلال وعربدة وعدوان على شعوبنا بلا رادع او خوف او حساب. وهو ما يفسر التعاطف العربى الحالى فى دعم روسيا فى صراعها مع الغرب فى اوكرانيا، رغم كونه نموذجا للعدوان والاستعمار الصريح لاراضى الغير وفقا لكل قواعد ومواثيق الامم المتحدة.

***

الاستقواء بالخارج:

·حدث بعد الغزو ان استلهم عدد من القوى والجماعات السياسية المعارضة فى العالم العربى، النموذج العراقى لمواجهة انظمة الحكم المستبدة والفاسدة، فلجأت وراهنت على الاستقواء بالخارج واستدعائه للضغط او حتى للتدخل المباشر لازاحة الحكام "المستبدين".

· خاصة بعد أن قام الامريكان باطلاق دعايتهم الكاذبة وحججهم الزائفة لتبرير الغزو، بانهم جاءوا من اجل الحريات ودقرطة الدول العربية وانقاذ الشعوب العربية من الحكام المستبدين.

· ولأول مرة أصبح للخيانة الوطنية مدرسة ووجهة نظر، وتزايد انصارها من بضع عشرات او مئات الى الاف والملايين فى بعض الاقطار فى السنوات الأخيرة.

·ولكن يتوجب الاقرار بأن الشريك او ربما الفاعل الرئيسى فى هذه الجريمة الكبرى، هو الحاكم المستبد ونظامه البوليسى الباطش الذين دفعوا الملايين من شعوبهم دفعا لاستدعاء الخارج.

***

الحكام العرب يرفعون الراية البيضاء:

·هؤلاء الحكام المستبدون الذين اصابهم الذعر بعدما شاهدوا ما يمكن ان يفعله الامريكان مع واحد منهم، لم يلبثوا ان قاموا برفع الرايات البيضاء، وتسابقوا للاعتراف بشرعية الاحتلال والتطبيع مع النظام الذى اسسه فى العراق بعد الغزو.

· بل منهم من قام بالإبلاغ عن نفسه بنفسه، مثلما قام القذافي فى 19 ديسمبر 2003 بالإعلان عن ان ليبيا ستزيل طوعا جميع المعدات والمواد والبرامج التى يمكن ان تؤدى الى اسلحة محظورة دوليا بما فى ذلك اسلحة الدمار الشامل والصواريخ الباليستية بعيدة المدى وقام بالفعل بالانضمام الى اتفاقية حظر الاسلحة الكيميائية فى 5 فبراير 2004.

·ومنهم مبارك الذي استجاب للتعليمات الامريكية لتوسيع هامش الديمقراطية للمعارضة السياسية، فتم تقليص نسبة التزوير فى الانتخابات البرلمانية عام 2005 بما سمح بدخول اكثر من مائة نائب معارض لاول مرة فى البرلمان منهم 88 نائبا اخوانيا، وتم تخفيف قبضة الدولة عن الحق فى التظاهر وتاسيس حركات مدنية معارضة كحركة كفاية و6 ابريل والجمعية الوطنية للتغيير وعودة محمد البرادعى وفتح الاعلام للآراء المعارضة وغيره مما كان له انعكاسات كبيرة على الداخل المصرى مهدت لثورة يناير.

·وبالفعل التقطت قطاعات واسعة من المعارضة المصرية المدنية والاسلامية "الطعم"، ورحبت بالضغوط الامريكية سرا او علانية وحاولت الاستفادة منها لتحقيق اكبر قدر ممكن من المكاسب السياسية، وقبلت دفع الثمن المطلوب امريكيا وهو تغيير او تخفيف خطابها الوطنى القديم بمناهضة الاحتلال الصهيونى لفلسطين والاحتلال الامريكى للعراق.

·وهو ما يفسر لماذا جاءت ثورة يناير المصرية باجندة ليبرالية صرفة، منزوعة الدسم فى كل ما يتعلق برفض التبعية والتحرر من اتفاقيات كامب ديفيد، ومكتفية ومركزة فقط على الاصلاح السياسى والدستورى والحريات وحقوق الانسان والفصل بين السلطات والانتخابات النزيهة وتداول السلطة.

· ورغم ان كلها مطالب صحيحة ومشروعة الا انها غير كافية وعديمة الجدوى فى ظل دولة غارقة فى التبعية والتطبيع.

·ولذلك ورغم كل ما قدمته المعارضة السياسية المصرية من تنازلات مبدئية لتحقق حلمها القديم فى نظام ديمقراطى، الا انها فشلت فى تحقيقه وتم اجهاض ثورتها، وفشل رهانها على الامريكان، اذ سرعان ما استطاع النظام الحاكم القديم ودولته العميقة ومؤسساته النافذة من اقناع الامريكان بسوءات الديمقراطية فى بلدانهم التى ستأتى حتما بتيارات وقوى وجماعات معادية للامريكان ومناهضة لاسرائيل.

***

التواطؤ المصرى والسورى:

· ورغم كل هذا الرعب والانزعاج الذى اصاب الحكام العرب من شراسة الهيمنة والبلطجة والضغوط الامريكية بعد الغزو، الا انهم كان لهم دور كبير فى وصول الأمور الى هذا الحال، منذ أن قررت مصر وسوريا ودول عربية أخرى الالتحاق بالحلف العسكرى الامريكى عام 1990-1991 فيما سمى بحرب تحرير الكويت مع بداية الحشود العسكرية الأمريكية الاولى فى الخليج قبل ان يتم استكمالها فى عام 2003 وما بعدها.

· وهي المشاركة التى طلبتها الولايات المتحدة لتتصدى لاتهامها بأنها حملة صليبية جديدة ولتضفى قدر من الشرعية على وجودها فى المنطقة من خلال تطعيم هذا الوجود بمشاركات عربية واسلامية رمزية من مصر وسوريا ودول أخرى.

· ورغم أن الدول العربية التى ساهمت فى شرعنة الوجود العسكرى الامريكى مثل السعودية ودول الخليج هى محميات غربية قديمة منذ منتصف القرن التاسع عشر او نهايات الحرب العالمية الاولى، او مثل مصر الرسمية التى قد اختارت الانحياز والالتحاق والرهان على الولايات المتحدة منذ السبعينات وتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد، الا موقف سوريا الرسمية بقيادة حافظ الاسد لم يكن مفهوما ومقبولا وهو النظام البعثى الشقيق للبعث العراقى الحاكم. وها هو اليوم يدفع اثمانا باهظة نتيجة الوجود والاحتلال العسكرى الامريكى لمساحات واسعة من ترابه الوطنى.

***

انتقال القيادة إلى السعودية والخليج:

وكذلك كان من أبرز آثار الغزو وخصائص عصر الهيمنة الامريكية الشاملة، هو ما نراه اليوم من انتقال قيادة المنطقة وريادتها من دول مثل مصر وسوريا والعراق التى تصدرت المشهد لاربعة عقود بعد الحرب العالمية الثانية، الى المحميات الأمريكية التى قال ترامب انها ستسقط خلال اسبوع لو تم رفع الحماية عنها فى السعودية ودول وامارات الخليج. ليس فقط بسببها ملاءتها المالية وانما بسبب ان محميات الأمريكان وقواعدهم العسكرية اكثر كفاءة وطوعا فى تطبيق الاستراتيجيات وتنفيذ التعليمات، من غيرها من الدول العربية التابعة، وهو ما يفسر تصدرها المشهد فى السنوات العشر الماضية سواء فى قيامها بالتطبيع مع (اسرائيل) تنفيذا لصفقة القرن الامريكية واتفاقات ابراهم، او فى قيادتها وتمويلها لاستراتيجية اجهاض الثورات العربية او احتوائها وعسكرتها لتخريبها من الداخل، أو فى ترحيبها بمشروع ما يسمى بالناتو العربى/الاسرائيلى.

***

سقوط النظام العربي الرسمي:

· ولكن النتيجة الاهم على الاطلاق، بعد نجاح عملية غزو واحتلال وتدمير العراق، كانت هى سقوط أى شرعية وطنية أو قومية للنظام العربى الرسمى الذى تم تأسس بعد الحرب العالمية الثانية، كنظام يتبنى اهداف الاستقلال والتحرر والتنمية والوحدة وتحرير فلسطين.

· فلقد أدركت الشعوب العربية ان سقوط الدولة العراقية بهذا الشكل وهذه السرعة وسط تواطؤ او عجز وصمت انظمة الحكم العربية، يعنى انها خرجت جميعا من الصلاحية ولم تعد قادرة او صالحة للقيام بأدوارها كدول وطنية سيادية مستقلة.

· ورغم أن الانظمة العربية قد سقطت موضوعيا ووظيفيا عام 2003، الا ان الامر احتاج لثمان سنوات كاملة قبل أن تثور الشعوب العربية لمحاولة اسقاطها فعليا، وهى الثورات التى لم يكتب لها النجاح والتوفيق ولم تمتلك الشروط والامكانيات اللازمة لتحقيق النجاح.

· ليظل المشروع والهدف والحلم قائما لم يتحقق بعد؛ مشروع بناء نظام عربى بديل يعيد الاعتبار الى الثوابت الوطنية العربية فى الحرية والتحرير والاستقلال والوحدة والحياة الكريمة.