مع كتاب صورة الآخر في الشعر الفلسطيني للمتوكل طه
من الآخر العدو.. إلى الآخر الميت !
بقلم: علي الخليلي
ظهرت مصطلحات ومفردات كثيرة في خطابنا الثقافي، بعد اتفاق اوسلو ونشوء السلطة الوطنية في الضفة الغربية وقطاع غزة في العام 1994، وهي جميعها تُعبِّر عن الخلخلة الدرامية التي أحدثها هذا الاتفاق / السلطة خلال فترة وجيزة جدا ً، في خطاب يمتد عمره لأكثر من قرن.
ومن أبرزها مصطلح الآخر، الذي انتشر بنصه الحرفي، انتشارا ًواسعا ً، كبديل لمصطلح أو مفردة " العدو " وما كان يشير أحيانا ً إلى " الخصم " وهما معا ً يفضيان تلقائيا إلى " إسرائيل "، في المعنى المباشر لها، علما ًبأن مفردة " إسرائيل " ذاتها لم تكنْ تُكتب بنصها الحرفي، وإنما بكنية/ لقب/ صفة ما لها، مثل " الكيان"، أو وضعها بين قوسين، تكريسا لما كان سائدا ً على المستويين الرسمي والشعبي، من عدم الاعتراف بها، حتى جاء "الاتفاق" وصرَّح بالاعتراف.
ومع ان " الآخر"، أوسع من مجرد "عدو"، أو خصم، في الوعي فهو تركيب معقد للذات أصلا ً، ولحركة " الأنا" في مواجهة الكون كله، فإن الخطاب الثقافي الفلسطيني المعاصر، أغلق بوابة هذا المصطلح، كما يبدو على معنى العدو المباشر، كأنه يصّر على بقاء العدو " القديم " حرفيا، رغم أنف الخلخلة الحاصلة فيه.
الصديق الشاعر الدكتور المتوكل طه، في أحدث كتبه " صورة الآخر في الشعر الفلسطيني" 1994- 2004، الصادر عن المركز الفلسطيني للدراسات والنشر والأعلام في رام الله، قبل بضعة أيام يفتح هذه البوابة على مصراعيها، ويدخل إلى " المصطلح "، باحثا ً ومنقبا ً فيه، وفي تطوراته وتقلباته ومعانيه وإيحاءاته المباشرة وغير المباشرة.
بدقة و دأب، عبر سلسلة طويلة من المصادر والمراجع، منها أو على رأسها، عشرات الدواوين الشعرية الحديثة، إلى جانب شهادات، حصل عليها من أدباء وشعراء، تتضمن قراءاتهم الفكرية للمصطلح، دون أن يغفل العودة المنهجية إلى الماضي في الثقافة العربية ومجاميع الشعر العربي القديم، على مدار عدة عصور ومراحل، في تتبعه لجذور هذا المصطلح ذاته.
يشتمل الكتاب على مقدمة ومدخل وثلاثة فصول، ثم توضيح وخاتمة وثبْت بالمصادر والمراجع.
وفي المقدمة، يندفع طه على الفور، إلى تأكيد "الاختلاف "، فلسطينيا ً على وجه التحديد في توصيف "الآخر" على اعتبار ما هو حاصل بالفعل من "اختلاف " بشأن فلسطين مكاناً وزماناً وشعبا ًوقضية. يقول: "يختلف معنى ألآخر في فلسطين عنه في أي مكان آخر، ذلك أن الآخر هنا ليس مجرد فكرة، أو مجرد منتج صناعي أو ثقافي، بل هو يوجد في مشروع استيطاني إحلالي مرعب.." ويقول " الآخر في فلسطين صاعق وقوي ومسيطر ومُذلّ، ويضيف" في فلسطين" لا تتم معرفة الآخر من خلال وسائل المعرفة العادية ، وإنما من خلال لغة الدم ورائحة التراب"، الآخر، في هذا التوصيف الذي يؤكد عليه المؤلف لا لبس فيه، فهو " اليهودي " والصهيوني والإسرائيلي " الذي تحول بعد اتفاق اوسلو، من صورة " المحتل" إلى صورة " الشريك" ومن " العدو" إلى " الصديق" وتحولت دولته من " الكيان " إلى " الدولة العبرية".
مَنْ الذي تغيَّر حتى جرى هذا التحوُّل ؟ هل تغيَّر " العدو" الإسرائيلي- اليهودي –الصهيوني، إلى شريك "صديق، حقا،أم أنَّ ما تم هو غير هذا تماما ً ؟ .
يرى المؤلف أن ما تغيَّر هو "نحن" فقط في حين أن " الآخر" المعني " لم يُغَيِّر من جلده، ولم يُغيِّر من مصطلحا ته، ولم يغيِّر من أهدافه، ولا من أساليبه ..، إسرائيل لم تتغيَّر، ونحن الفلسطينيين والعرب الذي تغيرْنا ! كيف؟ يقول المؤلف: إن دراسته في سياق الرد على هذا السؤال، " تحاول رصد جدال " نحن" مع ذاتها، بمعنى أنها ترصد جدال " ألانا" مع "ألانا" أكثر مما ترصده مع الآخر".
وقبل متابعة هذا الجدال المهم ( وبخاصة في الفصل الثالث من هذا الكتاب )، لا بد من الإشارة إلى أن الآخر الذي هو العدو أو الخصم، وقبل نشوء إسرائيل، موجود في ثنايا النتاج الثقافي الفلسطيني، بوضوح قوي، دون وجود مصطلح "الآخر" بذاته حرفيا ً.
ففي سياق الوجود التاريخي للغزو الأجنبي لفلسطين، من حروب الفرنجة/ الحروب الصليبية في القرون الوسطى، إلى الاحتلال/ الاستعمار البريطاني عام 1917، وإلى ظهور الصهيونية التي أنتجت إسرائيل سنة 1948 كان " الآخر " موجودا ً بمسميات العدو، دون ولادة "المصطلح في اللغة، وفي الخطاب، ومع حدوث هذه الولادة، في دراما الاتفاق / السلطة، كان المصطلح نصه الحرفي، يعني في الواقع، ولادة ثقافة فلسطينية جديدة، لا ترى بإسرائيل عدواً أو خصما ً، بل هي جزء من شبكة " الآخر" في الوعي الجديد !
من الآخر السلطة إلى الآخر الميت
في الفصل الثالث من الكتاب، يتوسع المتوكل طه في بحثه عن صور شتى لهذا "الآخر" في الشعر الفلسطيني، بعد اتفاق اوسلو، فإلى جانب الآخر العدو الذي كنا نحسب أنه الأكثر بروزا ً، نجد " الآخر السلطة"أو "الآخر السياسي" الذي يسيطر على هذا الشِّعر، أو يحاول السيطرة على الأقل، فإذا هو بارز إلى درجة التساوي مع "الآخر العدو " ويرصد طه في ما سمّاه جدال "ألانا" مع "ألانا" عدة "آخرين"، وهم الآخر الاجتماعي أو ما يسميه "الفاسد " والآخر الشريك والآخر الجنسي، والآخر الغربي، والآخر الذات، حتى يصل إلى الآخر الميت ".
من المثير أن يكون الآخر في نهاية المطاف، هو " الآخر الميت "، فما حال الآخر العجيب ؟ وكيف مات ؟ ولماذا ؟ يقول المؤلف: ".. شِعرنا الفلسطيني بعد اتفاق اوسلو، تغيَّر تغيرا ً كثيرا ً جدا ً ، إذ صوّر الشعراء موتهم ، لا لشيء إلا لإعلان خيبة أملهم ، ليس إلا ، وهذا ما نقصده تماما ً ، إذ ان الشعراء اشتّقوا من ذواتهم " آخر" ميتا ً ، عرضوه أمامهم ، رأوه وشاهدوه ، لكنهم لم يبكوا عليه ابدا ً ، هذا الآخر الميت لا يتميَّز بالعظمة ، ولا البطولة، ولا التميُّز ، إنه ثقيل ومرهق ، ويرغب بالغياب ...".
كتاب مهم، ذو جهد موسوعي في تخصصه ( 537 صفحة من القطع الكبير)، وفي الخروج برؤية نقدية معيَّنة، في مسألة لا تزال تثير الأسئلة أكثر مما توفر من أجوبة، في مرحلة غرائبية هي الأخرى، صورة من صور التهافت إزاء "الآخر" المتشابك والمعقد، رغم انه ذو وضوح لا يقل عن وضوح النكبة التي نحياها "نموتها " جيلا بعد جيل ! .
مع كتاب صورة الآخر في الشعر الفلسطيني للمتوكل طه من الآخر العدو إلى الآخر الميت !بقلم: علي الخليلي
تاريخ النشر : 2006-09-05