رحلة
تاريخ النشر : 2023-03-08
رحلة

بقلم :د. أحمد الباسوسي - كاتب مصري -عضو اتحاد الكتاب واستشاري العلاج النفسي

أحيانا تدهم المرء حالة من الانشراح النفسي وقدماه تنهب بسرعة ارض الشارع . ربما عند احد المنعطفات الجانبية يتريث قليلا ليفكر في الخطوة القادمة . ثم وهو على بعد خطوات قليلة يبدأ في الانسحاب التدريجي . وإذا وضعنا في الاعتبار مفردات مدركاته منذ حوالي ساعتين . وحالته المزاجية قبل ساعتين يمكن لنا أن نتبين بوضوح تلك العلاقة قوية الصلة بين حركته السريعة في الشارع والتي وصلت لحد الركض . وبين ذلك الوميض المشع غير المستقر التي تقذفه عينيه الضيقتين . ولسنا نعني بأمر وقوفه أمام احد أكشاك السجائر المتناثرة على الرصيف ليبتاع علبة سجائر على الرغم من وجود علبة سجائر في جيب قميصه المشجر ولم يتناول منها سوى سيجارتين اثنتين . فتلك مسألة قد تكون متعلقة بضعف ذاكرته . وقد تكون مرتبطة بحالته المزاجية أو لا تكون ... على العموم استطاع أن يعبر نهر الشارع بنجاح مستغلا نظرات العطف والشفقة التي وجههما له الشرطي قبل أن يلوح بيده ليوقف نزيف السيارات المسعورة على الرغم من انفلات إحداها وكادت تدهسه . نظر بذعر نحو الشرطي الذي ابتسم له واعمل قلمه في دفتره.

وحينما تجتاح المرء مشاعر البهجة فانه بالتأكيد لا يتوقف عن التذكر والاسترجاع والإدراك المنحاز لنفسه وأفكاره ... صور وصراعات طفقت تتراقص أمام عينيه وسط الشارع المزدحم بالخلق والسيارات والحر والأنفاس والعرق والوجوه المتعبة والأجساد المنهكة . وللمرة الألف يضع صيغة تفسيرية للأحداث يستحق عليها التهنئة من الآف الوجوه المبتسمة التي ازدحم بها الطريق . يشاركه فرحته أصدقائه أصحاب السيارات الفارهة بالات التنبيه إمعانا منهم في إظهار مشاعرهم الطيبة نحوه ... يمشي في شارع مفروش بالورود ... يلقاه الشرطي بالأحضان والقبلات ... يوقف له السيارات في الميدان ليعبر بأمان ... يلوح بيده لقائدي السيارات السعداء امتنانا ... تتطلع إليه حسناوات شارع قصر النيل على استحياء ... وأما الرجال فيلوحون له بأيديهم كأنه احد ممثلي السينما المشهورين ... لا يكف عن السير ... ولا يكف عن ملاقاة الوجوه المختلفة والأزياء المختلفة ... ولا يكف أيضا عن التفكير وتقليب الحوادث والصور ... لا يتوقف سوى للحظات يحملق في فتيات وسط البلد الجميلات ... ولعله لم يكن منتبها أو مهتما باستغاثة رجل عجوز كان يرفل في بدله قديمة ... وكان يجري وسط الطريق يطارد صبيا وقد قفزا الاثنان لتوهما من الأتوبيس وكان العجوز يصرخ حرامي ... حرامي ... ربما ظروفه الخاصة كانت وراء عدم الانتباه أو الاهتمام ... لكن من الصعب علينا الآن أن نأول ما نراه يحدث تأويلا موضوعيا إن كنا نتحرى الدقة .. فربما أجهده المشوار الطويل الذي قطعه سيرا على قدميه فبدأ يبطئ من خطواته بصورة ملفتة للانتباه ...انه يسير منذ ساعتين بصورة متواصلة ... لم يتوقف سوى لشراء علبة السجائر ... أو منتظرا ضوء إشارة المرور الأخضر ... وربما وقد اقترب الآن من قهوة النصر يكون قد فكر في ارتشاف فنجان من القهوة التركية التي طالما أدمنها وهذا أمر أبطل اعتياده منذ سنوات طويلة خلت ... وربما وهذا هو الاحتمال الأرجح والذي اقترن بدلائل أكدته فيما بعد أن تكون خرجت من باطن الأحداث أحداث ... ومن وسط الصور صور خاصة جدا .. انبجست فجأة في نافوخه ووجد لها صياغة تفسيرية أخرى..

لم يكن مدهشا أن يكرر عليه عامل المقهى بطريقة مهذبة للغاية عبارته المألوفة وهو واقف يبتسم .. وحتى بعد انطفاء ابتسامة عامل المقهى وتبرمه وانصرافه من أمامه ظل مستندا برأسه على ذراعه الأيمن ... مسترخيا لا يلوي على شيء ... ما من شك في حدوث تغيرات كثيرة توشك أن تمزق رأسه الآن ... تدفعه إلى الابتعاد ... تدفعه إلى الانسحاب ... أو تدفعه إلى الاكتئاب ... الآن أيها العالم ... انتظر أطروحة جديدة في الفكر تهبط الآن على رأس صاحبنا الجالس في مقهى النصر وسط القاهرة ... كان رد فعله السريع للعودة الثانية لعامل المقهى المتبرم هو الانتصاب السريع .. ودفع الطاولة الخشبية ... والخروج فورا مبتعدا ... مبتعدا ... حمل كل أسلحته في رأسه الصغيرة وترك المقعد والطاولة وتحسس وهو في طريقه للخارج بنطاله وقميصه ... مطلقا لم تتخذ الأمور مسارا آخر وإلا لما وجدنا مبررا جوهريا لندمه الشديد على قراره المفاجئ بمغادرة المقهى ... ووجوده الآن في شوارع القاهرة تعبا ...مكدودا ... يميز الأشياء بصعوبة ... ربما احتاج قرار العودة إلى ذات المقهى بعد المجهود الذهني والحركي وذلك لا يتوفر له الآن على أي حال..

بدأت خطواته تثقل ... وبدأ الوعي يسري في خلاياه المشلولة ... راح يمعن النظر في الناس والأشياء والمكان ... ما عاد يذكر بالمرة كشك السجائر ... ولا الشرطي الذي ابتسم له ... ولا عامل المقهى المتبرم ... وجد نفسه في قلب ميدان العباسية فجأة ... وعقارب ساعته تلهث ما زالت ... وكان واضحا لكل الناس انه سقط في بركة مياه عطنه ... كان الميدان مزدحما بالقلقين ... وكان عليه أن يتخذ قرارا ... أي قرار يمكن أن يعيد له توازنه وإحساسه بالراحة ... ولم يكن ثمة ما يزعجه في هذا الوقت بالذات سوى بنطاله الذي تشبع تماما بماء المجاري وقذارة الطريق ... وجد راحة كبيرة وهو يفك أزراره ثم يتخلص منه ويطوحه بقوة في الفراغ.