تيه يريفان والحيرة بين الجهات الأربع
تاريخ النشر : 2023-02-08
تيه يريفان والحيرة بين الجهات الأربع


تيه يريفان والحيرة بين الجهات الأربع

بقلم: محمد جهاد إسماعيل

تدوي أصوات الانفجارات المهولة على امتداد جبهات القتال الروسي الأوكراني، فتتردد أصداءها في جميع أنحاء الدنيا. اهتمام العالم كله مأخوذ الآن، في اتجاه الحرب الروسية الأوكرانية، ولا أحد يلتفت للجريمة النكراء التي تمارس في حق إقليم ناغورنو كاراباخ (جمهورية أرتساخ). يتعرض الإقليم منذ فترة لحصارٍ خانق، جراء اقدام قطاع الطرق الأذريين، على إغلاق المعبر الوحيد، الواصل بينه وبين أرمينيا.

يعاني سكان ناغورنو كاراباخ حالياً من شحٍ واضح في المواد الغذائية، والأدوية، والوقود، وغير ذلك من أساسيات الحياة. أجساد الأطفال هناك ترتجف من شدة البرد وغياب وسائل التدفئة وانقطاع الكهرباء، المستشفيات أيضاً لم تعد قادرة على القيام بعملها وعلاج المرضى. ينذر هذا الوضع الخطير بتفاقم كارثة إنسانية في الإقليم، ما لم يتدخل المجتمع الدولي ويتحمل مسؤولياته.

تنتهك باكو القانون الدولي الإنساني وتخالف كافة الأعراف والمواثيق الدولية من خلال فرضها سياسة العقاب الجماعي على سكان ناغورنو كاراباخ. وتسعى من خلال حصارها للإقليم وعزله كلياً عن العالم الخارجي، إلى كسر معنويات سكانه وثنيهم عن الصمود في وجه عدوانها المتكرر. ليس مستغرباً هذا التصرف من الأذريين، فهم يحاكون نفس تصرفات حلفائهم الإسرائيليين في حق غزة.

وتظل الهدنة بين أرمينيا وأذربيجان هشة، فالتوتر بين البلدين لم تهدأ أواره، والحرب قد تتجدد بينهما في أي لحظة. تعيش يريفان هذه الأيام حالة لا تحسد عليها من التخبط، والتشتت، والتردد، وارتباك الحسابات. لقد واجهت الأرمن منذ عقود أزمة وجودية حادة، كانت نتاج المذابح التي ارتكبها العثمانيين في حقهم، واليوم تواجههم أزمة من نوع آخر، هي أزمة فقدان البوصلة، والتيه بين جهات العالم الأربع.

تقف يريفان على مفترق طرق، تقف حائرة شاردة، لا تعلم في أي اتجاهٍ تتحرك، لا تدري ممن تتقرب، وعن من تبتعد، في أي حلفٍ تنضوي، ومن أي حلفٍ تنسحب. لقد أثبتت حرب ناغورنو كاراباخ ٢٠٢٠ أن روسيا لم تكن مبدئية تجاه أرمينيا، الموقف الروسي كان سلبياً للغاية، وما زال كذلك. الأرمن مغتاظون من سلبية هذا الموقف، وبدأوا شيئاً فشيئاً يفقدون الأمل، في جدوى تحالف بلادهم أو ميلها في اتجاه موسكو.

كما وأكدت الحرب الأخيرة، أن عضوية أرمينيا في منظمة معاهدة الأمن الجماعي لا قيمة لها. فقد وقفت المنظمة مكتوفة الأيدي، ولم تساند أرمينيا في القتال. يبدو أن هذه المنظمة لا تعدو كونها دمية روسية، وأنها منظمة هزيلة عقيمة، تمارس انتقائية غريبة وازدواجية معايير، ففي مقابل تقاعسها عن نصرة أرمينيا، نجدها تهرول للتدخل في كازاخستان لأجل إنقاذ نظام الحكم فيها.

تلوح في الأفق بوادر لإمكانية وجود تقارب بين يريفان وأنقرة، وقد تبادل الساسة من كلا الجانبين تصريحات ترحيبية، تعطي الضوء الأخضر للشروع في هذا المسعى. وفي حالة تحقق التقارب أو التطبيع التركي الأرميني، فإن ذلك سيمهد في اتجاه تحقق تقارب أو تطبيع أرميني مع أذربيجان. قد يبدو هذا الأمر حالياً صعب المنال، لكنه في حال تحققه سيكون مزعجاً لروسيا وإيران.

الغرب أيضاً وقف متفرجاً ولم يساند أرمينيا في حرب ٢٠٢٠، لكن ظهرت مؤخراً بعض المساعي الأمريكية والأوروبية لتوثيق العلاقات مع يريفان. كما وهناك أصوات داخل الانتلجنسيا الأرمينية توصي بالتقارب مع أمريكا والاتحاد الأوروبي. الغرب الذرائعي المادي لا يريد التقرب من يريفان حباً في الأرمن، ولكن لحرصه على شغل أي مكان قد يتراجع فيه النفوذ الروسي، وخصوصاً في منطقة فائقة الأهمية الاستراتيجية كجنوب القوقاز.

تعيش أرمينيا حالياً في وسط عدائي انتهازي، وتعرض الأرمن - تاريخياً والآن - لكثير من الغدر والخذلان. الحكومة الأرمينية لديها كم هائل من الأزمات والتحديات. لأجل ذلك تجتهد يريفان في تلمس طريق النجاة والاهتداء للاتجاه الصحيح، لكنها لا تجده لغاية الآن، فهي تمشي فوق خارطة العالم مترنحة، مشتتة، تائهة بين الجهات الأربع.