شظف الحياة
تاريخ النشر : 2023-01-09
شظف الحياة


شظف الحياة

بِقَلَمِ: أ. خَالِدُ الزَّبُون - كاتب فلسطيني

فِي سَاعَاتِ الْفَجْرِ الْأُولَى يَذْهَب أَبُو سَعِيد كُلَّ يَوْمٍ إلَى
المخبزِ لِشِرَاء الْكَعْك حَيْث يَطُوفُ بعربته مَعَ ارْتِفَاعِ دَرَجَات
الْحَرَارَةِ أَوْ مَعَ تَسَاقَط حَبَّات الْمَطَر، يَظْهَرُ أَلَم
السِّنِينَ مِنْ صَوْتِهِ وَجَبْهَتِه الشَّامِخَة تَتصبَبُ عَرَقًا مِنْ
أَجْلِ الْحُصُولِ عَلَى حَفْنَةٍ مِنْ الْمَالِ لَا تَكَادُ تَكْفِي لِدَفْعِ
أُجْرَةِ الْمَنْزِل وتوفير مَصَارِيف الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَأُمُور
الْحَيَاة، ضَغَطٌ كَبِيرٌ عَلَى الْقَلْبِ وَالنَّفْس، وَلَكِن
الابْتِسَامَةَ هِي أَغْلَى مَا يَمْلِكُهَا الْفَقِيرُ وَيَحْتَاجُهَا
لِلِاحْتِجَاج عَلَى بُؤْس الزَّمَان وأحزانه وَهُمُومِه ، فَهُم بسطاءُ
أَرْوَاحَهُم الرَّاقِيَة يَسْكُن بِهَا التَّوَاضُع لِأَنَّهُم يمتلكون
الْقَنَاعَة، يَقُولُ وَهُوَ يَنْفُث سِيجَارَتَه وَيُرَاقِب حلقاتها الَّتِي
تَتَلَاشَى كُلَّمَا كَبِرَت، كُنْتُ أُفَكِّرُ بِحَيَاة وَرْدِيَّةٍ بأحلام
تَعَانَق السَّمَاء وَلَكِنَّنِي اِكْتَشَفْت أَنَّهَا آلامّ بِقَسْوَة
الْفَقْر بَيْن أَزِقَّة الْحَيَاة فأفراحي الصَّغِيرَة كَسَرَاب، كزهرة تذبل
أمَام وُجُوه الْمَارِّين والعابرين كَأَلْف رِوَايَةٍ وَحِكَايَة فأكاد لَا
أَشْبَه نَفْسِي فَلَسْت الْإِنْسَانُ الَّذِي كُنْتُ ارسمُ مَعَه أَمَالَه
وَمَن الصَّعْبِ أَنْ لَا تَتَعَرَّف عَلَى نَفْسِك لِتَجِد بَعْضَهَا فِي
زَمَنِ الْغُرْبَة وَالْبُؤْس تَحْمِلُ حطامَك واوجاعَك لتستطيع الصمود
وَالْقِتَال مِنْ أَجْلِ أَفْوَاه فِي طُرُقَاتِ بِلَا رَبِيع وَلَا وَجْه،
تَسْكُن فَوْق مَشَاعِر الْفُقَرَاء وَمَع انسانيتهم وَمَا وَرَاءَ
ابتِسامتِهم ومعاناتِهم وَحِرْمَانِهِم وَأَيَّامِهِم العصيبة ولحظاتِ
الْجَوْعِ وَالضّعْفِ وَالْقَهْر، فَأَيُّ اِنْكِسار يشْعِرُ بِهِ قَلْبَهُ؟
وَأَيُّ ضَيَاع لِقَيِّم مُجْتَمَع يَفْتَرِش فَقِيرة الْأَرْض وَالطَّارِق؟
وَأَيّ عَزِيمَة وَإِرَادَة لَه لِرُكُوب عَجَّلَه الْمَشَقَّة؟ فَمَا أحوجنا
فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أنْ تَكُونَ بُيُوت الْفُقَرَاء قبْلَة للنساك
بِالْبَذْل وَالْعَطَاء فِي عَامٍ اسْتِثْنَائِيٌّ ! فَصَوْتُ ألمهِمّ لَا
يَقِلُّ عَنْ أَنِينٍ يُعَانِي الحزن والظلم وضياع الانسانية ، فَمَا أَجْمَل
ابتسامتهم عِنْدَمَا يُلاَمِسُ أَمَلُهُم جَبِينَ السَّمَاء وَيُطوَّقُ
بِسِوَار أَغْنِيَاء الضَّمِير..!!