القصيدة تجربة ناجزة بقلم حسين علي الهنداوي
تاريخ النشر : 2022-12-31
أعماق التجربة الشعرية
القصيدة
 
بقلم: حسين علي الهنداوي - شاعر وناقد
من كتابي ( الأدب العربي في العهد المعاصر)
.............

القصيدة: هي تجربة كاتبها حين يعيد قراءتها

يقول الدكتور عز الدين إسماعيل في التفسير النفسي للأدب :(إننا في حدود الإطار الموسيقي للشعر قد نميل إلى القصيدة شكلها القديم عندما نكون مثاليين في نظرتنا الجمالية، حسيين في تذوق الجمال، وقد نميل إلى الشكل الجديد عندما نأخذ بفلسفة جمالية تؤمن بقيمة الواقع النفساني في الفن والحياة على السواء ). إن الشعر باعتباره طريقة من طرائق التعبير النفسي عن التجارب الإنسانية بجميع أبعاده يُعد الأسلوب الأمثل لنقل أفكار المبدعين إلى أُناس آخرين في حركة مدارها الإنسان فالحديث عن الشعر هو الحديث عن الإنسان نفسهُ منذ أن علم الله آم أسماء المسميات إلى يومنا هذا. 

واللغة هي الفن وهي جسر التواصل بين الشاعر والناس، وهي المحطة التي يستريح فيها الإنسان من هموم زمانهِ ليحمل من خلال هذه الاستراحة شحنة جديدة لمواصلة مسيرة الحياة. ولقد حاول النقاد والشعراء منذ عصور سحيقة تحديد مفهوم الشعر وطبيعتهُ ودراسة التجارب الإنسانية لتحديد غايتهُ وأهدافهُ وتطوير أساليبهُ ومناحيهِ وتحسينها . فها هو الناقد ستوفر يحدد لنا خصائص الشعر التي استطاعَ استنباطها من تجارب الشعراء قائلاً :" إن خصائص الشعر (اللغة) تلك الوسيلة التي يمتلكها الشاعر نفسهُ والتي يعبر بها عن تجاربه وهي التي تحدد قاموسهُ الشعري الخاص بهِ وتجعلهُ يمتاز عن غيرهِ من الشعراء حيث يستخدم الإيحاء والرمز والإسقاط التاريخي ويتقمص الأساطير القديمة ليصل إلى العمق فالقصيدة لا تكون عميقة إلا إذا سبرت أغوار النفس الإنسانية ).

إن الشعر الذي لا يملك قضية يدرسها ويوليها أهمية بالغة من حيث كونها ترتبط بقضايا مجموعة من الناس هو شعر لا يملك خصائص مميزة فالألفاظ القاموسية يستعملها جميع الناس ولكن الشاعر الحق هو الذي يصطفي ويختار وينتقي الألفاظ المحسوسة الشفّافة التي تمتلك القدرة على الحركة والحياة عند تعبيرها عن عواطف وأفكار وأحاسيس ومعاناة الشاعر نفسهُ ومن هُنا كان رأي الجاحظ الفذ في أن المعاني الشعرية ملقية على الطرقات يعرفها البدوي والحضري والشاعر والإنسان العادي وأن الأديب والشاعر الحق هو الذي ينقلها لنا بصور وتعابير وألفاظ مميزة تمتلك مشاعرنا وتأسر أنفسنا. 

إن الشاعر هو الذي يستطيع من خلال قصائده أن يخلق نظاما صوتيا يخدم أغراض موضوعية الذي يريد أن ينقلهُ لنا هذا النظام الصوتي بأبعاده الشفافة وهو يختلف عن الوزن الشعري لأن الوزن الشعري قالب جاهز تدخل فيهِ الألفاظ طوعاً أو قصراً بينما الإيقاع الصوتي روح لا نلمسها بحواسنا بقدر ما هي تتحرك في مشاعرنا . والشاعر بعكس الناثر الذي يهتم بنقل المعنى لنا بالدرجة الأولى ضارباً عرض الحائط بالشكل المتمثل بالألفاظ والعبارات والتي ينقلها لنا الشاعر لا شعورياً باهتمام بالغ لا يقل عن اهتمامه بنقل المعنى والمضمون. 

كل هذه الخصائص تجعل الشاعر يرسم لنا مشاعرهُ ( قصيدته) من خلال معالجة موضوعية معتمداً لغة ذات مستوى فني ليلمس قضية ذات أهمية كبيرة قاصداً العمق والإيجاز ومن خلال تعقيد لا شعوري . وإن هذه الخصائص أيضاً تجعل الشاعر حينما يطرق موضوعاً (ما) إنساناً تنبئيا مستشرقاً ومشيراً إلى ما يمكن أن يقع في المستقبل ، فالشاعر يولّد لنا الأفكار الحرّة الحيّة النابضة بالحركة من خلال إيحاءات وإرشادات تحملنا على فهم قضايا العصر ومشكلاتهِ . لقد حدد لنا الكاتب العربي (الأصمعي) من خلال كتابهِ (فحولة الشعراء) مواقف ثلاثة هامة من الشعر بعد أن ذكر شروط الشاعر الفحل عندهُ والمتمثلة (( بجاهلية هذا الشاعر وبمعارضته لغيره وبلغتهِ الصافية النقية وبكثرة قصائده الشعرية )). يقول الأصمعي: (إنّ هناك فاصلاً بين الشعرِ والأخلاق وإن الشعر إن دخل في أبواب الخير لان وضعف.

وإن الفحولة صفة عزيزة في الشعراء).بحيث لا يصنف الشاعر عندهُ في طبقة الفحول إلا إذا كانت صفة الشعر هي الغالبة عندهُ فالشاعر الذي يتصف بصفة أو صفات أخرى مع صنعتهِ الشعرية لا يصنف عندهُ في كتاب الفحولة مضافاً إلى ذلك اهتمام الشاعر بالتشبيه الذي يضفي على الشعر ثوباً من القدرة والصنعة. إن الشعر قد تطور ونما وتأثر وأثر في غيرهِ واكتسب واكسب غيرهُ أشياء بحكم صلتهِ بالحياة والفنون الأخرى ، وقد حاول الشعراء منذ القديم رسم انفعالاتهم ومعاناتهم بأشكال فنية متباينة جاهدين من خلال ذلك إيصال تجاربهم بصورة مثلى تتناسب مع طبيعة العصر ومقتضيات الحياة وتفاعل مع الفنون وإن أقدم التجارب الشعرية العربية التي وصلتنا عن أسلافنا كانت تجارب امرئ القيس وعنترة والحارث بن حلزّة وزهير والنابغة وطفيل والمهلهل... 

وإن هذه التجارب كتبت ضمن إيقاعات موسيقية حددها لنا الخليل بن أحمد الفراهيدي فيما بعد (ببحور الشعر) وهذه الإيقاعات الموسيقية برغم صدورها العفوي عن شعرائنا استطاعت أن تستوعب جميع تجارب الشعراء المتمثلة (بالمديح والهجاء والفخر والنسب والغزل والوصف). ولما تطورت العقلية العربية بفضل تلاقحها مع الأفكار الفارسية والهندية والرومية واتسعت جوانب الحياة وتبدلت أشكالها في دمشق وبغداد وطليطلة وحلب وغرناطة والقاهرة أخذ الشعراء يفكرون بأشكال جديدة لرسم تجاربهم الشعرية بل ألحت عليهم ظروف الحياة ومعطيات العصر للتفكير بذلك. فكان أبو العتاهية كما يقول أكبر من عروض الخليل في ابتكاره لأوزانها التي تربو على مائة وثمانين وزناً وكانت فنون القوما والمواليا...الخ... وقد بقيت هذه الإيقاعات الموسيقية ورقة نقدية متداولة بين الشعراء يرسمون فيها معاناتهم ولكن بقوة أحياناً وبضعف أحياناً أخرى حتى أوائل العصر الحديث حيث تغيرت معظم المفاهيم والأفكار وتبدلت النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وتباينت أشكال الحياة وازداد عمق الأنواع الأدبية ، وأصبح كما يقال من العسير جداً تفريغ شحنة عواطف وأفكار الشعراء ضمن تلك القوالب وعلى الطريقة الموروثة في تسلسل (نهج القصيدة العربية وعمودها الشعري ) كما حدده نقادنا القدامى كابن قتيبة والآمدي وقدامه بن جعفر والجرجاني وغيرهم مما دفع الشعراء أن يبحثوا عن طرق وأساليب جديدة متأثرين بما ورد إليهم من آداب الأمم الأخرى وخاصة الأدب الفرنسي والإنكليزي والروسي.

ولقد نشأ من خلال ما نشأ طريقة جديدة في التعبير الشعري عن مشاكل الحياة هي طريقة ( الشعر الحديث أو المرسل الحر) كما يسومنهُ وقد كانت بداية هذا اللون من الشعر عند العرب من خلال شعراء المهجر على يد أمين الريحاني الذي أخذهُ من (والت ويت مان) الأمريكي في ديوانهِ أوراق العشب الذي تحدث فيه عن معاناة الطبقات الدنيا في المجتمع الأمريكي . وبذلك يكون الريحاني أسبق إلى هذا اللون من نازك الملائكة وبدر شاكر السياب.

وقد سماه الريحاني بالشعر المطلق أو الحر أو الشعر الجديد، حيث أشار إلى أن هذا اللون من الشعر يخرج في شكله عن الأوزان الشعرية العربية القسريّة ويتخلص من القواعد السلفية الحرفية. ومن الجدير بالإشارة أن الشاعر فريد وجدي ، وعلى أحمد باكثير، وعبد الرحمن شكري كانوا أسبق من نازك الملائكة إلى هذا اللون، وعلى أية حال نستطيع القول إن هذا اللون من الشعر لم يخرج عن الإيقاعات الموسيقية الخليلية من حيث اعتباره ( وحدة التفعيلية ) أصلاً في كتابته. بل ألغى عملية التناظر في عدد هذه التفعيلات في كل بيت من الشعر. فالإيقاع التناظري الخليلي يجعل البيت الشعري مؤلفاً من وحدات موسيقية مقسمة على شطري هذا البيت بشكل متوازن معتمدا قافية القصيدة التي ترتكز على حرف يتكرر في نهاية كل بيت بعكس الشعر المرسل المعتمد على جمل موسيقية متباينة في كل سطر من الشعر، فعدد التفعيلات يختلف في هذا الشعر من سطر إلى سطر بالإضافة إلى أن القافية لم تعد عنصراً هاماً في القصيدة. 

وقد أسهب الشعراء في كتابة هذا النوع من الشعر بدراية وبغير دراية ضاربين عرض الحائط بالمورثات السفلية جملة وتفصيلاً . بل حاملين عليها، ومعتبرين إياها حكاية أكل عليه الدهر وشرب ولم تعد هذه المورثات كما يزعمون تصلح لقضايا ومشاكل عصرنا الحاضر. لم يحتفل شعراء عصرنا الحاضر بهذا اللون الجديد من الشعر كحل بديل عن المورثات السلفية الخليلية، بل أصبح البعض منهم يميل إلى تجديد أسلوب التعبير والارتقاء بمستوى تجاربهم الشعرية من خلال نوع آخر أطلقوا عليه اسم (قصيدة النثر. أو النثيرة ). مغفلين الموسيقى الشعرية القائمة على {وحد التفعيلة} ومكتفين بالتزام قواعد النحو والإعراب مدّعين أن هذا النوع له جذوره في لغتنا من خلال (سجع الكهان الجاهلين) الذي يعتبر صورة فنية في صياغة المفردات وخاصة عند ((عزّى سلمه وسطيح الذئبي وابن مصعب الأنصاري)) وعند بعض مدّعي النبوة (كمسيلة الكذاب وسجاح) ومما روي من سجاح ( عزّى ):
(( والأرض والسماء.
والعقاب والصعقاء.
واقعة ببقعاء.
لقد نفر المجد ، بني الكشراء ))
وقد ظن البعض أن هذا النوع من الكتابة سهل القياد ، لا يعتمد تعقيدات السلف فأوغلوا في ولوجه زاعمين أن مستقبل الشعر سينتهي لا محال إلى هذا النوع من خلال تطور الأنواع الأدبية. وهم بذلك يجمعون الحجج والبراهين لدعم هذا الرأي وتثبيتهُ. (فالقصيدة النثرية ) تعتمد عندهم على اختيار الصورة المميزة، واصطفاء الألفاظ الحساسة المناسبة مبتعدين عن حشو الكلام رافضين الوزن الشعري باعتباره جزءاً ملحقاً لا عنصر أصلياً مفرغين تجاربهم بحساسية مرهفة وخيال متوقد لكي يسيطروا على انتباه وشعور المستمع والمتلقي لهذا الشعر ، إن الأدب بشكل عام والشعر بشكل خاص لا يمكن أن نعتبره إلا كياناً مستقلاً له حدوده وأبعاده وله كيفيته في الوجود ، وإنهُ لو ألقينا سؤالاً عن ماهية الأدب (القصيدة الشعرية) وأين يمكن أن يوجد ؟ وما هو العمل الفني ذو الطبيعة الفنية؟ لوجدنا أجوبة كثيرة قد تكون متوافقة وقد تكون متباينة وقد يناقض بعضها البعض وقد يكمل بعضها بعضاً. 

ولقد سمعنا منذ القديم أن الشعر (صنعة وحذق) يستطيع من خلالها الشاعر صياغة الكلمات بحسب الموضوع الذي يريد لمسه وهو بذلك (صاحب مهنة) موادها الأولية الكلمات . وقد اتضحت هذه التجربة في أدبنا القديم عند شعراء الصنعة، وأصحاب (الحوليات) الذي أطلق عليهم اسم (عبيد الشعر) (بشامة بن الغدير، أوس بن حجر ، زهير بن أبي سلمى، كعب بن زهير، الحطيئة ). وقد توج عملهم فيما بعد الشاعر أبو تمام . لقد تضاربت الآراء حول ماهية القصيدة . فمن قائل: إن القصيدة هي الأصوات التي ينشدها القارئ، وإن هذا الانتشار هو الذي يحدد طبيعة القصيدة ومن قائل: إن القصيدة هي تجربة القارئ فهي ليست شيئاً خارجاً عن العمليات العقلية الجارية في ذهنه. 

ومن قائل: إن القصيدة هي تجربة كاتبها حين يعيد قراءتها ، وإنهُ من الحق أن الشعراء يتأثرون بالواقع النقدي المعايش لهم وبصيغة النقدية ولكن من الحق أيضاً أن نقول : إن الصيغ النقدية قد لا تكون دقيقة في تحديد صفات انجازهم الخلق الشعري الفعلي ، وإن هؤلاء الشعراء حين يكتبون لا يضعون نصب أعينهم المفاهيم النقدية ، بل يتأثرون بها شعورياً. 

إن التجربة الشعرية لا تقاس بمقدرتها على تنظيم حوافزنا وأن الشعر الجيد لا يمكن أن نعرّفهُ ( بالرعشة) التي يثيرها فينا، كما أن المأساة لا تقاس بكمية الدموع التي يسفكها المشاهدون عند رؤيتها ولا تقاس الملهاة بعدد ضحكات المشاهدين إن التجربة الشعرية هي الكائن الحي الذي بتمخضه الشاعر ويلده ولادة طبيعية لا قسرية يحمل في طياتهِ عوالم وأفكار وعواطف وأحاسيس تتوافق مع نظيراتها في نفوسنا إن هذه التجربة هي التجربة هي الحياة التي نعيشها ولا نستطيع التعبير عنها كما عبر عنها الشاعر نفسه فهي الكلمة الحية التي تخرج من القلب وتدخل في القلب لا تعتمد الزيف ولا الهراء ولا تلهث وراء سراب غير موجود إنها بتعبيرها عن الحقيقة داخل نفوسنا أو خارجها كالسمكة التي إن خرجت من الماء فقدت الحياة إنها النسمة الهادئة التي تحمل إلينا الطمأنينة والوداعة بالإضافة إلى ما تحملهُ من حاجة في نفوسنا إلى التفنن إنها ضوء القمر الساطع الوديع الجميل الذي نحتاجهُ ليضيء دروبنا المظلمة مع تلذذنا بمتعة النظر إليه إن الشعر ليس ضرباً من الكلام غايتهُ التسلية والدعابة، وإذا كنا نعتبر أن المعايير السلفية للقصيدة الشعرية تقوم على وحدة الوزن والقافية من حيث الشكل وعلى إتباع نهج القصيدة وعمود الشعر من حيث المضمون، فإننا نستطيع القول أن قصيدة التفعيلة لم تعد ترضى بهذه الأسس السلفية رغم أنه لا يمكننا وسم هذه الأساليب القديمة وإدانتها واعتبارها فجعة ذلك أنها استطاعت استيعاب تجارب ومشاكل ذلك العصر. 

إن قصيدة التفعيلة أخذت تعتمد القيم الفنية التي أصبحت الحاجة ملحة إليها عندما تريد فهم أو تحليل أي عمل شعري . هذا العمل الذي لم يعد سلسلة من الأصوات ينبعث منها المعنى أو مجموعة من الرموز والإيحاءات والأساطير التي نجتثها من هنا وهناك.