قراءة في ضمير الغائب
تاريخ النشر : 2022-12-18
قراءة في ضمير الغائب

بقلم: شقيف الشقفاوي

هو:
يحوم فوق القمم يلامس نتف السحاب، على تخوم النشوة يفتل سجائره بالقنب، أطراف الجنة وحدودها معبرا لصمته الطويل الذي انتابه في الطفولة و سكن صدره، فيتيه عن هرج أبنائه الخمسة المعوقين وطلباتهم الكثيرة التي لا تنتهي
قالت له زوجته: يا راجل الزيت والدواء؟
لكنه تاه في الفراغ وجحظ في المجهول، كان صوتها خافتا ولم يبلغ تلك المسافات والأشواط التي قطعها في سفره الطويل ..! الطويل مع الحياة.

هي:
أكملت:
لم يبق ما يكفي، تحرك احدهم و الثاني والثالث لكن الباقي تسمروا في مقاعدهم يشدون الألواح إلى سكون، رأوا أمهم تذخن بنهم هي الأخرى، تسحب أنفاسا داكنة و تحتفظ بها في صدرها و تحرق ما تأخر من أحلام، ولدتهم بخفة و رتابة متتالية لم تترك للطب رأي أو عنوان، كان عقلها تائها بخيط الوهم، رأت هي الأخرى تخوم السحاب و رأت الجنة والأنهار والحدائق و القصور، رأت أبناءها حمائم صوب الشفق تحط بلا استأذان، كانت تنتظر المساء بفارغ الانتظار وكانت تنتظر الفرج أيضا، ألحت عليه إتمام علبة السجائر وإتمام النشوة ولم يغفل حينها، كان هو أيضا مولوعا برائحة المطر.

هو :
تذكر (عمي رشيد) الأيام الجميلة حين نفض غبار الطلع و ذخنه مع السجائر، كان يسميه دمعة السلطان ولم يكن بعينيه دمع،
قالت له أمه وهو يتعمد الإعتناء بالمزهريات على طرف الشرفة،
هذه الأزهار ستأكل من عمرك ولم يصدق، تلفت إلى جسدها النحيف ثم إلى وجهها وبكي، بكت هي الأخرى بحرقة واحترقت، في الغد سافرت إلى (خميس يسر) وسألت، قالت لهم كان والده في صفوف البحرية الفرنسية ،عبر المحيطات والبحار وسافر إلى الكرايبي وكاليدونيا، ولما حاز على التقاعد استقر في باريس، أصبح لا يبالي بأحد إلى أن مات.

هم:
قبلوا ولم يشترطوا لأنها مقطوعة من شجرة، مات والدها هي أيضا، وماتت أمها في السجن بتهمة الانتماء لنفس الوطن، بعد الاستقلال تكفل بها الناجون ولم يستشيروها في الزواج، يوم ممطر هذا الفرح الذي حل صدفة، واحتاروا حين ذاك، لكن الشمس أغمضت بالشوق للفرحة ولم تبتسم، ( عمي رشيد ) لم يبتسم هو الآخر بقي مشدوها بالتساؤل و الاستفسار.

هم:
في المقهى يميل في صمت، يتحصن في واحدة من تلك الزوايا يتلفت في المجهول، ينعي الأيام التي تخلت عنه، قطعة من جبل يحتضن مدينة أسرّت على مواجهة الفراغ، يلف الحكمة في ورقها الرهيف وتتصاعد خيوطها في الفراغ لترسم دوائر النشوة، يجلس جنبه أكلي، وموح باب الواد، يكسرون الوجع في صدغ الملامح، لكن رواد المقهي استسلموا للانصراف فقد غلبهم النعاس.