نبذة عن مسار الثورة الفلسطينية
تاريخ النشر : 2022-11-26
نبذة عن مسار الثورة الفلسطينية

بقلم: محمود فنون

ما أن انطلقت الثورة الفلسطينية مباشرة بعد حرب1967، حتى رسخت وجودها التنظيمي والعسكري والسياسي والجماهيري في الساحة الأردنية، ورفعت شعار – عمان الطريق إلى القدس. لا غروفي في ذلك , فالأغلبية الساحقة من سكان شرقي الأردن هم فلسطينيون , وعلى أطول حدود اشتباك مع العدو في فلسطين, ومثلت عمقا جماهيريا وسياسيا وجغرافيا للثورة الفلسطينية, وأصبحت عمان عاصمة للثورة وخطوط الهدنة مشتعلة.

لا بد من تذكر تلك الفترة الزمنية كي ندرك ما معنى الخسارة التي منيت بها الثورة الفلسطينية حينما خسرت الساحة الأردنية . إن خسران الساحة الأردنية بالطريقة التي حصلت عام 1970 و 1971 , قد كسرت عظام الثورة وحطمت الكثير من الأحلام والقيم الثورية , والخطط , والمخططات . لقد خاضت الثورة الفلسطينية صراعا مريرا دفاعا عن وجودها في وجه النظام الأردني , ثم خسرت كل شيء.

لقد اندحرت الثورة من الأردن بعد أن غرقت في حمام من الدم , مخلفة ورائها حالة من الرجعية العميقة المصحوبة بالقمع والإرهاب والطمس والعداء, مخلفة ورائها حدودا ساكنة محمية من النظام الأردني كما هي محمية من إسرائيل.

لم تكن الأحوال في سوريا مواتية لإقامة قواعد الثورة هناك بديلا عن الساحة الأردنية , وفقط سمحت سوريا بعبور الفدائيين إلى لبنان ,وإقامة بعض القواعد العسكرية للتدريب والأمور اللوجيستية ,وأغلقت حدود جبهة الجولان عن أي عمل عسكري , واكتفت بتقديم الدعم السياسي والعسكري والمعنوي للثورة.

أما في لبنان فلم تكن الحال أفضل , ولم تكن اتفاقية القاهرة عام 1969 بكافية لحماية وجود الثورة الفلسطينية على الساحة اللبنانية وتنظيم علاقاتها مع السلطات اللبنانية . وإذا كانت القوى الوطنية والتقدمية قد رحبت بقدوم مقاتلي الثورة من الأردن عبر سوريا , إلا أن الثورة ثبتت وجودها على الساحة اللبنانية في سباق حالة صراعية عدائية من الدولة والقوى الانعزالية . فلا غرابة أن ترفع الثورة بعد ذلك شعار حماية البندقية الفلسطينية في لبنان . ومنذ عام 1972 وحتى عام 1982 م خاضت الثورة الفلسطينية معركة متصلة دفاعا عن وجودها ودفاعا عن البندقية الفلسطينية في لبنان , ثم خسرت هذه المعركة بتظافر جهود القوى الرجعية اللبنانية والاجتياح الإسرائيلي الذي اخترق الحدود اللبنانية حتى بيروت.

وظل الاحتلال يحاصر بيروت الغربية ويقصفها إلى أن فرض شروطه على قيادة الثورة وأصر على خروجها من لبنان إلى شتى المنافي , دافنه ورائها كل فرص التصادم المباشر مع العدو من الحدود الخارجية الأردنية والسورية اللبنانية معا.

أي أن العمل الفدائي الذي انطلق مباشرة بعد عام 1967م من الحدود الأردنية ثم اللبنانية قد انتهى عام 1982م , ولم تعد قيادة الثورة تقود أي عمل فدائي من الخارج , بل إن وجود الثورة في الخارج قد تبعثر واندثر شيا فشيا مقتصرا على عدد من المكاتب والكتائب في تونس وسوريا  , وتوزع المقاتلون على ليبيا واليمن والعراق , أو عادوا إلى أسرهم وذويهم وأصبحت( م . ت ف )اسما رمزيا بدلا من أن تتحول إلى قيادة الثورة.

وعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار ما يلي:
أولا: إن الثورة الفلسطينية في الأردن لم تستطيع التوصل إلى صياغة وحدة وطنية كفاحية تنظم وجودها السياسي والجماهيري والعسكري , وبالرغم من أنها كانت ومنذ لحظة وجودها الأول محاطة بتيار ضخم من الأعداء والتآمر , إلا أنها متفتتة ومتفرقة
ثانيا : وعلية لم تستطع أن تتوصل لصياغة خط سياسي وعسكري وجماهيري سليم يمكنها من ممارسة الكفاح ضد العدو الصهيوني , ومن الدفاع عن نفسها ووجودها في الساحة الأردنية – ظلت هكذا ارتجالية.

ثالثا: أن مجمل نضالاتها في الخارج بشكل أساسي كان دفاعا عن وجودها الذي حسم عام 1982 بإخراجها من لبنان , بينما يأتي في المستوى الثالث دورها الكفاحي المباشر من الخارج ضد إسرائيل الذي توقف نهائيا تقريبا بعد عام 1982الا ما ندر.

رابعا: وارتباطا بالنقطة السابقة فان دورها في مواجهة الاحتلال لم يزحزح الصهيونية عن أهدافها , وبرامجها وسلوكها اليومي في فلسطين وخارجها فالمشروع الصهيوني انطلق في نهايات القرن التاسع وعشر وبدايات القرن العشرين ورسم في اتفاقات سايس بيكو 1916 ووعد بلفور 1917 , والاحتلال الانجليزي لفلسطين الذي أنجز عام 1918وفي صك الانتداب1922.

هذا المشروع يستهدف الاستيلاء على فلسطين وجعلها وطنا قوميا لليهود. هذا المشروع يستهدف الاستيلاء على الأراضي وإقامة المستوطنات وطرد السكان . هذا المشروع ظل مستمرا حتى يومنا هذا , ولم يتمكن الفعل الثوري الفلسطيني المقاوم من الخارج ومن الداخل وقفه عند حد معين , ولم تطرح قيادات الصهيونية أية إمكانيات لمثل هذا الوقف حتى الآن.

إن الثورة الفلسطينية وفي أي مرحلة من مراحل كفاحها , لم تستطيع أن تدفع القوى الصهيونية للتراجع عن أي من نقاط خططها وبرامجها الهادفة إلى تعميق واستكمال سيطرتها على فلسطين التاريخية , بل يمكن القول إننا لا نستطيع أن نجد في أدبيات الثورة ووثائقها وتصريحات قادتها ما يدل على أنها خططت أو برمجت أو أسست لأي عمل يستهدف ذلك مع العلم أنها شغلت نفسها مرارا وتكرارا بإيضاح ما الذي ستفعله بعد القضاء على دولة إسرائيل , دون أن يشغلوا أنفسهم ما الذي سيفعلونه من اجل الوصول إلى تحرير الوطن . سوى شعارات عمومية دون خطط فعلية , وتحليلات نظرية وشطط في أحيان كثيرة.

لقد تظافرت جهود الصهيونية مع الرجعيات العربية في محاصرة وضرب قوى الثورة الفلسطينية , ونجحت في ذلك المرة تلو المرة, ولكن !

ولكن الثورة الفلسطينية كانت تسامح نفسها على النتائج التي تصل إليها بعد كل ضربة , دون وقفة مراجعة جدية يسفر عنها محاسبة , تؤدي إلى تصحيح المسار , وإدخال تعديلات على القيادة والنهج القيادي والعقلية القيادية , أي دون أن تسمح القيادة بأي حساب جدي يطال دورها في تنظيم العملية الثورية , ودورها في إدارة الصراع مع خصومها وأعدائها من الرجعيات العربية , وإدارة الصراع مع العدو الصهيوني والنتائج التي كانت تتحقق بعد كل ضربه.

والثورة الفلسطينية وان كانت حصدت الفشل الذريع في كل مراحلها السابقة , إلا أنها ظلت تحظى بتأييد قواعد واسعة من جماهير الشعب الفلسطيني , تأييدا روحيا وقلبيا وعاطفيا , يتجاوز عن الأسئلة الضرورية , وعن النتائج التي ترتبت على سلوك القيادة ودورها في كل ما حصل . هذه هي الحقيقة.

ظل التأييد بعد الخروج من لبنان , وبعد مؤتمر مدريد , وبعد توقيع اتفاق أوسلو , وبعد تشكيل سلطة الحكم الذاتي ! كما لو كان موقفا عقائديا ذو صبغه عاطفيه.

إن ظاهرة الرفض الفلسطينية العميقة والموجودة في الشعب الفلسطيني لم تستطيع التأثير الجوهري في حجم التأييد الذي محضتة الجماهير للقيادة الرسمية. أو أعاقة توجهاتها , وظلت هذه القيادة مسلحة برمزيتها التي اكتسبتها من أيام العمل الفدائي وقادرة على التأثير في الجماهير واستقطابها.

لقد تكرس إلقاء اللوم على الغير وعلى الظروف الموضوعية دون إحداث أي تداخل منطقي بين الظروف الذاتية والموضوعية التي أحاطت بمسيرة الثورة وما لحق بها من ضربات ساحقة في الخارج أدت إلى محقها وعزلها عن الجماهير الفلسطينية والعربية وبحيث لم تعد قادرة على الاتصال بها وتعبئتها وتنظيمها وحشدها, ثم تخلت عن هذا الدور عبر اتفاقات وتفاهمات رسمية مع السلطات العربية الرسمية.

لقد غيبت إلى الهاوية أسئلة كثيرة ومهمة من نوع:
لماذا لم تنتصر الثورة؟ لماذا لم تتقدم القضية خطوة إلى الأمام رغم هذه التضحيات الجسام؟ من المسؤول عن تبديد تضحيات الجماهير الفلسطينية في الخارج والداخل؟ لماذا لم تجر عملية مراجعة في مسار الثورة ؟ لماذا لم تتمكن القوى من صياغة وحدة وطنية كفاحية كما حصل في تجارب الشعوب؟ أين التحالفات التي صاغتها الثورة مع قوى عربية رسمية وشعبية وكيف تم التعامل معها؟ هل كانت القيادة كفؤة لإدارة الصراعات على هذا المستوى؟ وما مسؤوليتها عن كل هذه الهزائم ؟ أين تقف القضية الفلسطينية الآن ؟..

إن المقصود من فيض الأسئلة هذا, لا يستهدف فقط الوقوف عند ما مضى وما جرى على أهميتة البالغة , فما مضى هو سياق مستمر حتى الآن يدفعنا وبالضرورة لطرح تساؤلات بهدف المستقبل. فإذا كان ما مضى وما جرى هو في بطن التاريخ فان الكثير منه لا زال في سياق الحاضر ويولد المستقبل - مستقبلنا ومستقبل قضيتنا وأجيالنا القادمة, ومصير شعبنا في اللجوء والشتات, وشعبنا تحت الاحتلال. فلا زالت إسرائيل تحتل كل فلسطين.