قراءة في رواية "الأسير 1578" للأسير هيثم جابر
تاريخ النشر : 2022-11-24
قراءة في رواية "الأسير 1578" للأسير هيثم جابر


قراءة في رواية "الأسير 1578" للكاتب الأسير هيثم جابر

بقلم: عفيف قاووق - لبنان

رواية الأسير 1578 للكاتب هيثم جابر، تنتمي دون شك إلى ما يُعرَف بأدب السّجون سيّما وانه كُتِبَت وهو بين جدران السّجن الذي يقبعُ فيه أسيراً ولا يزال، هذا النوع من الأدب ينقلُ لنا صورة حيّة وواقعية عن معاناة الأسرى داخل معتقلات الإحتلال، وهو يُعَبِر أيضاً عن المخزون الثقافيّ والفكريّ للأسرى الكُتاب وإيمانهم بقضيتهم المُحِقّة وضرورة إستمرار النضال في سبيلها بمُختلف الوسائل بحيثُ تُصبح كتاباتهم ونتاجهم الأدبي من أوجه المقاومة المستمرة والمطلوبة.  

لا شك إن ما يهدف إليه الإحتلال من سياسة الاعتقال هو تحطيم معنويات الأسيرمن خلال ما يتعرض له من مختلف أنواع القهر والتعذيب الجسدي والنفسي، لكن الإرادة الصلبة  والتصميم على مواجهة تلك الممارسات التعسفيّة، تقف سداً منيعاً تحول دون ذلك وتجعل الأسير وخاصة الأسيرالمُثقف يتجه للتعبيرعن أفكاره ويسعى لإخراجها إلى النور ليطّلع الجميع على أحقية القضية وفضح تعسف الإحتلال وهمجية أساليبه المعتمدة في تعامله مع الأسرى.

بالعودة إلى رواية الأسير 1578 فقد كُتِبَت بلغةٍ بسيطة وواضحة، وبروح إيجابية عالية بحيث لا تجد فيها أي نوع من أشكال الإنكساراوالإحباط رغم قساوة الإقامة في المعتقل، فجاءت مُفعَمة بالأمل والمشاعر الإنسانيّة الراقيّة وتحديداً من خلال الرسائل المتبادلة بين الأسير وخطيبته، كذلك من خلال سرده لتفاصيل محاكمته وإصراره على ان يتولى مهمة المرافعة بنفسه أمام القاضي دون اللجوء الى المحامي، يقول للقاضي " ليس لي محام .. ولا أريد أن أوكل أي محامٍ،  أنا لا اعترف بشرعية هذه المسرحية التي تسمونها محكمة، ..لا حق لكم في محاكمتي، أنتم من شَرّد شعباً بأكملهِ. أنتم القتلة الذين تلطَّخت أيديكم بدماء أطفالنا ونسائنا(245).  

.. أحاطت رواية الأسير 1578 بكافة جوانب وتفاصيل حياة الأسير داخل السّجون من لحظة الإعتقال ووضعه في الجيب معصوب العينين لحين وقوفه أمام المحقق الذي يُبلغهُ انه منذ الآن لا أسماء هنا فقط أرقام والرقم الذي سيعرف به هوالرقم 1578، إلى الوقوف مجرداً من ملابسه أمام المحقق، والزنزانة التي سَيُرمى بداخلها وهي عبارة عن غرفةٍ صغيرة تكاد لا تتسع لشَخصَين، ومن ثمّ  المثول امام القاضي في محكمة صوَريّة وغيرها من تفاصيل الأمور.

ينقلنا هيثم جابر إلى داخل المعتقل ليصف لنا شعور الأسير في اللحظات الأولى لإعتقاله بالقول" إنه الإعتقال، إنه السّجن هناك حيث يُقهرُ الرِّجال، وتفترِسُ القُضبَان أنفاسَ الصُدورِ والأعمار (ص13) وهنا أنت مسلوبُ الإرادة، هنا أنتَ في عالمِ ما قبلَ الموتِ الأوّل وما قبل الشّتات الأخير (ص20).

رغم كل أساليب القسوة والعنف التي مورست عليه لم يستطع الإعتقال أن ينال من عزيمة الأسير وصلابته وإيمانه بقضيته لذا نجده يكتب على جدران السّجن " أنا هنا أفضِّلُ أن أمارس قناعاتي في هذه المساحة الصَّغيرة ، على أن أمارس قناعات الآخرين في الفضاء الرَّحب، ولو أعيد الزَّمن إلى الوراء وخُيِّرتُ أن أختار لاخترتُ الطريق نفسَهُ..،أنا لم أتعب وإن أعياني التَّعبُ،أنا لا أريد ثمناً ولا أبحث عن ثمنٍ ،وجلُّ غايتي عزَّة الوطن".(34).

تتطرق الرواية إلى أساليب التحقيق المتبعة مع الأسرى،حيث لائحة التُهم جاهزة مع إعتمادهم أسلوب الترهيب عن طريق تهديد الأسير بالبقاء طيلة حياته داخل السّجن، وترتفع نبرة التهديد بالتلويح أنهم سيأتون بوالدته وبخطيبته.لكن لسان حاله كان يقول في سرِّه "تستطيعون إعتقال أجسادنا، لكن قلوبنا وأفكارنا هيهات هيهات" 37.  

كان لا بدّ للأسير من ان يتأقلم  ويعتاد على نمط وطقوس الحياة الجديدة برفقة  زملاء السجن وإخوة النضال المشترك. سرعان ما أندمج مع بقية الأسرى متخذاً من رفيقه الأسير الذي مضى على سجنه نحو عشرين عاماً  الصديق والمُعلم  الذي سيُعرِفهُ على كل قوانين السّجن وطرائق عيش السجناء وتعاونهم فيما بينهم.  

يلاحظ القارىء لهذه الرواية أن الكاتب إستطاع تمرير بعض الرسائل والإشارات من خلال ما تطرقت إليه الرواية فقد عبَّر بوضوح عن التعاضد والتضامن بين جميع الأسرى على إختلاف مشاربهم السياسية  وكأنهم أسرة واحدة لأن القضية الواحدة تجمعهم بمواجهة  سجّان لا يميز بين أسير وآخر. ولأن صراعهم مع الإحتلال داخل السجون هو امتداد واستمرار للمعركة معه على إمتداد مساحة الوطن ، كان لا بد لهم من تنظيم صفوفهم عبر إستحداثهم عددا من اللجان إستفاض الكاتب في شرح  مهامها، ونذكر منها على سبيل المثال الآتي:

اللجنة الثقافية...ويرأسها الموجه الثقافي العام، وهو من أعضاء اللجنة التنظيمية أو مجلس الشورى أو اللجنة المركزية حسب تسمية كل تنظيم لهذه اللجنة التنظيمية 76 

-اللجنة الادارية ويرأسها الموجه الإداري العام ووظيفة هذه اللجنة إدارة الحياة العامة للأسرى 78

-اللجنة الوطنية العامة أو النضالية وهذه لها قسمين:

1-القسم الداخلي: وظيفته التنسيق مع الفصائل الوطنية داخل القسم فقط، وحل الإشكاليات التي تحدث على مستوى القسم.

2- القسم الخارجي: وهو ما يسمى بالوطنية العامة، حيث وظيفة الأخ المسؤول الاتفاق على الخطوات المزمع اتخاذها ضد إدارة السجن، إن حاولت الانقضاض على حقوق الأسرى ،مثل إعادة وجبات الطعام أو الإضراب عن الطعام 79 

-اللجة المالية، وظيفتها متابعة شؤون المواد الغذائية التي يشتريها الأسرى داخل السجن، إضافه إلى توفير الأموال من الخارج ، ومُتابعة إدخالها إلى السجن ليتمكن الجميع من شراء حاجياتهم الضرورية.80

وأخيرا "ممثل المعتقل"وهو مُتَحدث بإسم جميع الأسرى على اختلاف توجهاتهم السياسية وهو يُعيَّن من قبل اللجنة الوطنية العامة وعادة ما يكون من الفصيل الأكثر عددا في السجن 81 .

قدمت لنا الرواية صورة عن المحاكمات التي يدّعيها الإحتلال، وهي بالحقيقة محاكمات مُعدّة قرارتها سلفا، وكان الحكم على الأسير 1578 بالسِّجن المؤبد إضافة إلى عشرين عاماً بتُهمةِ القتل والتَّحريض والمسَاس بالأبرياء العُزَّل، إضافة إلى شهرين آخرين بتهمة إهانة المحكمة،" ص248. كذلك فقد تطرقت الرواية للحديث عن تاريخ الحركة الأسيرة وما حققته من مطالب نتيجة تكاتف الأسرى وتعاضدهم، وعن الإضرابات المتتالية عن الطعام التي تحقق على أثرها العديد من المطالب وتحسين الظروف المعيشيّة للأسرى، ومن بين التحركات التي قامت بها الحركة الأسيرة التحضير لخوض معركة" الأمعاء الخاوية"حيث تتمرد الأمعاء على الأكل وتكون الكرامة عنوان المعاناة 125. وفي شرحه لجدوى معركة الإمعاء الخاوية، يُعلق الأسير الذي مضى على سجنه نحو عشرين عاماً قائلاَ "إنهم يخشون جوعك...يخشون جسدك الهزيل...يخشون أن تموت حرا متمردا...هم لا يريدون لك أن تقرر متى تموت. وأنت اليوم تحاصرهم وتسجنهم داخل سجنهم...حالة الطوارئ في السجون لا تسمح لهم بمغادرة السجن هم اليوم أقزام أمام عنفوانك، يتوسَّلون إليك أن تواظب على الدَّواء، هؤلاء الذين بالأمس عذَّبوك تجبرهم اليوم ليحرسوك، ويتناوبون على حراستك، وتوفير الحماية المشدَّدة لك...هم يتوسلون أن ترحم ضعفهم أمام إرادتك.128.

وأنت تقرأ رواية الأسير1578 لا بد لك من التوقف عند المرأة وكيف قدمتها الرواية، هذه المرأة المُتمثلة بالأم الحبيبة الكبيرة والخطيبة الحبيبة الصغيرة  كما يحلو للأسير وصفهما.

الحبيبة الكبيرة الأم التي إستشهد زوجها  بعد أن أنجبت منه إبنها الوحيد ونذرت حياتها في سبيل إسعاده وادخال الفرح على قلبه، كانت مثالاً للمرأة الفلسطينية الصابرة والمُحتسِبة التي لم يتسلل الوهن والشك يوماً إلى قلبها بل كانت دائمة الفخر بإبنها المقاوم،  تقول له لحظة إعتقاله " لا تقلق يا بنيّ كُن قوياًّ والله يسهل أمرَك ويرضَى عليك". كما انها بقيت مواظبة على زيارته في السّجن وحضور جلسات محاكمته ولم تقطع الأمل بقدوم ساعة الفرج.

أما  خطيبته وهي حبيبته الصغيرة، يصفها بأنها تسكنه في كل لحظاته، تجري فيه مجرى الدَّم في العرُوق، وهي قمرُهُ المُنير..هي الروح، هي هوائه العليل وهي النفس 68 . هذه الحبيبة الصغيرة عاهدت حبيبها الأسيرعلى الوفاء، فهي لا تقلُ وطنيّة عنه، وعندما سألتها صديقتها إذا ما كانت ستستمر مع خطيبها حتّى لو تم الحكم عليه بالمؤبَّد؟ أجابتها  "بكل صراحة وصدق عندما  قاوم خطيبي المُحتّل لم يفعل ذلك لثأرٍ شخصيِّ معه، أو لأن فلسطين مسجَّله في الطَّابو على اسم عائلته ، أو لأن القدس من ممتلكاته الشخصية. هو حارب من أجلي ، ومن أجلكِ ، من أجل شعبنا بأسره، إذا كان هو ضحى بزهرة شبابه من أجلنا جميعا فمن العار أن أتخلى عنه، هو ليس وحده أنا أيضا يجب أن أضحِّي من أجله".

نقطة ثانية أثارتها خطيبة الأسير وهي السُلطة الأبويّة التي غالباً ما تتحكم بمصائر الفتيات، مشيرةً إلى محاولة عمّها إقناع والدها بفسخ الخطبه بينها وبين خطيبها الذي لم يمضِ على غيابه سوى أشهر داخل الأسر. فتقول "أن مشكلة عمّي هي جُزءٌ من مُشكلةٍ تُواجه كلَّ فتاةٍ وفتى في مُجتَمعِنا العربيّ، حيث يُريد الأب أو العمُّ أو الخَالُ أو حَتَّى شيخ القبيلة أن يعيش حياته وحياة أبنائهِ ويختار لهم ما يُريدُهُ هو، كأنَّه ربُّهم الأعلى، وهكذا يصبح لدينا جيلٌ من الفاشلين، الذين لا رأيَ لهم في أيِّ شئ، فكيف سيكون عندنا علماء ومُنتجون نُفاخرُ بهمُ الأمَم، ونحن لا ندع لأبنائنا حريَّة الإختيار. وتُكمل لتقول " لن أسمح لأحدٍ أن يعيشَ نيابةً عنِّي ، فإذا كان من أحببته قاوم مُحتلَّ الأرضِ والوطنِ، أنا سأقاوم مُحتلَّ العقولِ والنفوس، فلن يتحرَّر الوطن إذا بقيت نفوسنا وعقولنا أسيرةً.88 .

إمتازت الرواية بفيض من المشاعر الإنسانية والعاطفية والوجدانية تجلَّت في الرسائل المتبادلة بين الاسير وخطيبته،وأيضا في التساؤلات التي طرحها الأسير على نفسه، فأكدت أن الأسير رغم قساوة الظروف والخطر الذي يلاحقه يستطيع أن يكون عاشقاُ ومحباً، وعندما سأل الأسير نفسهُ:"أيحق لمن مثله وفي مكانه  أن يُحبَّ؟ أيحق لمن مثله في الأسر أن يحتضن حبيبه في لحظة حلم عابره ؟! أجابه صدى هواجسه وتفكيره  بما معناه : "وحدهم الثائرون يا سيدي من يمتلكون القلوب المرهفة...وحدهم الثائرون يا سيدي من يتقنون فن العشق، ماذا ينقصك؟أينقصُك قلبٌ؟ وأنتَ ذو قلبٍ كبير..أينقصُكَ الكلِمات؟ وأنتَ اللغةُ ...أم ينقصُكَ القوافي وأنت من ينسجُ القصائد والنَّشيد والغضب. لا أحد أحقَّ منكَ بالعشق إلا أنتَ. أنت الذي عشقت تراب ذلك الوطن...وبذلت ربيع العمر خلف قضبان المحن...ألا تعلم أن المرادف لكلمة ثائر هي كلمة عاشق...فكيف للثائر أن يحتضن بندقية دون أن يكون عاشقاً للقضية 69 و 70..

وكذلك الحال مع خطيبته التي عبرت عن مكنونات قلبها في إحدى رسائلها عندما كتبت له:"غيَّبوك عنِّي قسراً...من عيوني انتزعوك صادروا أحلامنا وبالأنين كبَّلوك...صادروا منِّي الكلام حين غادرني القمر... إن غيَّبوك في مقابر السُّجون...لن يستطيعوا محوَ الكحْلِ من سود العيون...لن يستطيعوا وضع الحواجز العسكريَّة أمام الكلمات العابرة...قلبان نحنُ في نفسٍ واحدٍ...قافيتان في قصيدةٍ واحدةٍ 93.  

بعد صدور الحكم على الأسير 1578 بالسجن المؤبد إنتابه ما يُشبِه الصِراع الداخلي حول مستقبل علاقته بخطيبته فكتب لها في أحدى رسائله تاركا لها حُريّة القرار والإختيار، "ربَّما حان الوقت كي تتحرَّري من فضاءاتي المُتعبَة ولكِ الخيار أن تحطَّ أشرعَتُكِ في أيِّ مرفأ تختارين، فكِّري جيداً في كلماتي وحَكِّمي منطق الأشياء وسأمتثلُ لحكم عدالة عينيكِ وسأحترم أيَّ قرارٍ تتَّخذينهُ.  ليكون جوابها، " ليس من حقك أن تقرر وحدك نحن شركاء في هذه المعركة، أنا لا يهمني المؤبد سأنتظرُك إلى آخر العمر ولن أحكُمَ على نفسي بالإعدام". لقد آمنت خطيبته بأن الفرج القريب وان الإحتلال إلى زوال وتعزز إيمانها هذا عندما سمعت خطيبها يواجه المحكمة بالقول عندما أصدرت بحقه حكما مؤبداً " إن عمر دولتكم اللقيطة أقل بكثير من مدة حكمي ويوما ما سوف أخرج من السجن رغم أنوفكم وأضاف ...دولتكم ساعه ودولتنا إلى قيام الساعه248.

ختاماً نقول إن حال العشق هذه التي ميزت علاقة الأسير بخطيبته ربما هي التي أوحت للكاتب أن يجعل نهاية الرواية من النهايات المفتوحة ويتركها بعهدة القارىء بعد ان ألمحَ إلى إمكانية الوصول للخاتمة المقبولة من خلال إشارته الى عملية الأسر لثلاثة جنودٍ صهاينةٍ قامت بها المقاومة في لبنان وهذا ما يجعل القارىء يتجه بتفكيره إلى عملية تبادل محتملة للأسرى قد يكون الأسير 1578 من ضمن لائحة التبادل المرجوة.وأختم مقتبسا بقول الأسير    عندما واجه المحكمة بالقول بعد أصدارها بحقه الحكم بالمؤبد " إن عمر دولتكم اللقيطة أقل بكثير من مدة حكمي ويوما ما سوف أخرج من السجن رغم أنوفكم وأضاف ..دولتكم ساعه ودولتنا إلى قيام الساعه248..