حسن سلامة يروي رحلته عبر أربع عشرة سنة في العزل الانفرادي
تاريخ النشر : 2022-11-13
حسن سلامة يروي رحلته عبر أربع عشرة سنة في العزل الانفرادي

صدر كتاب للأسير حسن سلامة المحكوم ثمانية وأربعين مؤبداً يروي قصته التي استمرّت أربع عشرة سنة في زنازين العزل الانفرادي في السجون الإسرائيلية، هل دقّقنا في هذه الأرقام؟ هل أدركنا الحجم المريع لهذه المسافة الزمنية وهذا الانسان في مكان ضيّق تحت مطارق التعذيب والتنكيل والاهانة والتحقير؟ ومن هؤلاء الذين يمارسون عليه هذا التعذيب؟ هم أشدّ خلق الله عنصرية وعدوانية وساديّة وقل ما تشاء من أوصاف الحقد والكراهية، عندما تطالعنا هذه الأيام فيديوهات لرجال يعترفون بما فعلوا من مجازر أيام النكبة واحتلال البلاد بصور بشعة جدا يقتلون ويحرقون، وعندما يُسأل أحدهم عن عدد الذين قتلهم لا يدري كم، هم كثيرون لم يستطع احصاءهم عددا.

ويرصد حسن سلامة أشكالا كثيرة من التوحّش وصبّ أسواط العذاب بأسوأ طرقها وألوانها على هذا المعتقل الذي يستفردون به في زنازينهم: كيف يتحكّمون بكلّ مفاصل حياته: طعامه وشرابه وحركته وهوائه والاصوات الصاخبة المحيطة به ليل نهار، يرصدون كل ثانية ودقيقة وساعة ويخرجون له بكل ما يجعله في حالة من الألم الدائم على مدار الأربع وعشرين ساعة، وعن العلاج لمرض أو وجع اسنان حدّث ولا يخرج حينها يدخل عزل داخل عزل ويعتبرونها فرصة ذهبية لهم، إذ "يتمزمزون" على صوت آلامه، يمكث طويلا ليحظى بالخروج الى العيادة أو رؤية طلّة الممرض البهيّة! وهذا بدوره يدخله حقل تجاربه ليزوّده بعد طول انتظار الدواء تلو الدواء الذي لا يمتّ بصلة الى مرضه، وإذا تطلّب الامر مستشفى فهذا من سابع المستحيلات إلا في ظروف استثنائية صارمة لينقل في بوسطة خاصة وبحراسات مشدّدة وقيود مضاعفة حيث تربط الايدي والارجل ثم تربطا ببعض، وهناك في المستشفى عزل خاص للمرضى المعزولين.

كيف مضت أربع عشرة سنة وكيف كان يناجي نفسه، وأين كانت تذهب به أفكاره ومشاعره؟ كيف يقضي يومه بين هذه الجدران القاسية وفي معمعة زنازين لأسرى عتاولة المجرمين الجنائيين اليهود، وهذا عذاب إضافيّ حيث يسمع صراخهم بلغة سوقية ومسبّات لا تخطر على قلب بشر، هؤلاء يقضون الليل صراخا بأقذع الكلمات النابية فيضطرّ الأسير المعزول ليسهر الليل وينام النهار وهنا تذهب عليه ساعته من الخروج للفورة ( الساحة الخارجية) وأيّة فورة؟ ساحة صغيرة في الغالب لا تزيد عن مساحة غرفة تحيطها اسوار عالية جدا لترى نفسك وكأنك في قعر بئر وبالطبع مسقوفة بشبك حديدي محكم وتسير فيها وانت مكبل القدمين.

في هذا الكتاب الذي يأخذ أنفاسك ويقلّب كل المواجع التي عرفتها البشرية تجد الصورة التي يتحلّى بها هذا المحتلّ على صورته الحقيقية، لا يمكن أن تتسلل لهذه الشخصية أية مشاعر انسانيّة أو مشاعر تقول لك أن من يملكها له علاقة بالبشرية، انهم من جنس آخر لا يعرف قيمة ولا عرفا ولا قانونا قرّرته البشرية حول الأسير وحقوقه والاعتبارات التي يجب أن تؤخذ، ابدا لا همّ لهم الا فنون التنكيل والتعذيب، إذ أن من المعروف عرفا أن جنديا من صفوف العدوّ قد وقع اسيرا فإن له من الحقوق ما له، وله حرمة وقيمة يجب أن تُراعى ولو بحدّه الأدنى، هؤلاء لا يعرفون الا كيف يعذبونك؟ كيف يبقونك في حالة دائمة من التوتّر والشعور بالألم؟ كيف يوصلونك الى حافّة الموت أو الجنون؟

أمّا أن يخرج سلامة من ماكينة العذاب هذه سالما ويكتب لنا عن تجربة الخمسة الالاف يوم فهذا شيء عظيم يدلّ على طبيعة شخصيّة الكاتب، شخصية فذّة قويّة في إيمانها بربّها وعدالة قضيتها، متماسكة ببنيانها القويم، فريدة في عنفوانها ورسوخها في مبادئها التي تؤمن بها، حسن سلامة تضيق الكلمات والسطور في وصف شخصيّته سوى أنّها ذات فرادة نادرة وذات تميّز قلّ نظيره في البطولة والفداء والثبات والمراغمة العالية في أصعب مواقع الرباط.

الكتاب ثريّ جدا يحمل تجربة عظيمة تستحق أن تُقرأ وتدرّس لطلاب العزّة والتمكين والتحرير وكل من رام شجاعة الرجال وصمود الأبطال.