مستقبل التعليم الهندسي المصري وشبح الماضي
تاريخ النشر : 2022-10-04
مستقبل التعليم الهندسي المصري وشبح الماضي
طيار مهندس محمد الشعلان


مستقبل التعليم الهندسي المصري وشبح الماضي

بقلم: طيار مهندس محمد الشعلان

التعليم الهندسي قضية أمن قومي لمصر، وتراكماته كثيرة وثقيلة في كافة الأصعدة، فنحن نعاني من هذه المسألة نظرًا لأن بعض الخريجين ليسوا على المستوى المطلوب والمرجو، إضافة إلى أن أعداد الخريجين تفوق احتياجات سوق العمل، ولهذا الأمر تبعات خطيرة، فقد أصبح الوضع في المنطقة العربية طارد للمهندس المصري وأضحى أمرًا يرثى له الجبين؛ نتيجة المستوى المعرفي والعملي الغير لائق لبعض الخريجين وبالكاد تكون الحاجة لهم في السوق الأوربي، الأمر الذي يستلزم تدخل الجهات المعنية من مفكري وباحثي ومستشاري وقيادات الدولة بالتعاون مع قامات علمية وهندسية كبيرة للخروج من عنق الزجاجة من خلال اقتراحات وتوصيات من شأنها معالجة العوار الفج الذي يشوب هذا الملف ويلقي به نحو حافة الهاوية.

تشير جذور وأبعاد الأزمة إلى أوائل الستينات لم يكن في مصر المحروسة سوى خمس كليات هندسة، وجميعها كانت كليات خاضعة تحت الإشراف الحكومي، وبعد ذلك تم إنشاء خمسة معاهد صناعية متخصصة بكل من محافظات المنوفية والدقهلية وبورسعيد والقليوبية والمنيا متمثلة في معاهد منوف والمنصورة وبورسعيد وشبرا والمنيا على الترتيب، حتى صدر لهم القرار بتحويلهم إلى كليات هندسة عام 1980، وللحاجة الهامة في تدعيم القطاع الهندسي شهدت مصر ولادة أول معهد هندسي خاص في عام 1988 وهو المعهد التكنولوجي العالي بمدينة العاشر من رمضان، وحتى عام 2005 لم يكن في مصر سوى أربعة معاهد لكليات الهندسة (بفلوس) فقط، ولكن خلال الفترة من 2007 حتى 2011 بدأت الدولة القديمة في الانسحاب من المشهد تاركة أوصالها في أيدي من تعبث بها من رجال البيزنس في مصر، حتى منحت وزارة التعليم العالي 70 رخصة بإنشاء معاهد لكليات الهندسة على اختلاف تخصصاتها، وكان هدفها منافسة الجامعات الحكومية وتذليل العقبات لرواد المعاهد الخاصة من خريجي الثانوي العام الذين لم يحالفهم الحفظ بالفوز بيناصيب مكتب التنسيق، والتربح من تجارة مضمونة في استغلال النفوس الضعيفة والعقول البليدة والجيوب الممتلئة. 

هؤلاء لن يكون مبتغاهم ترسيخ رسالة التعليم أكثر ما ستكون غايتهم زيادة أرصدتهم في بنوك سويسرا، وكل خريجي البيزنس الخاص يعرفوا جيدًا القول القائل: (شخلل عشان تعدي)، وحتى 2007 كان عدد الملتحقين بالتعليم الهندسي لا يتجاوز 5% من الحاصلين على الثانوية العامة، وهذا في حد ذاته كفيل لسد احتياجات سوق العمل وخلق فرص حقيقية للخريجين بجميع قطاعات وأجهزة الدولة الإدارية والفنية والهندسية، لكن تفاقم الأمر شيئًا فشيئًا حتى ارتفع سهم الملتحقين بكليات الهندسة إلى 12% من الحاصلين على الثانوية العامة لعام 2021.

الأمر الذي انذر بانفجار تشرنوبل الهندسي في مصر ليعصف بكل أخضر ويابس، فمنذ عقد مضى كان الحاصلون على الدبلومات الفنية يخوضون امتحان معادلة للالتحاق بكليات ومعاهد الهندسة، وكان هذا الامتحان موحدًا، وكان عدد من يتجاوز هذا الاختبار سنويًّا لايزيد عن 100 طالب فقط من اجمالي المتقدمين من طلاب (صنايع)، ولكن الغريب بأن تلك الحصيلة من الناجحين زادت بعد ذلك ليصل قوامها ليكون بالآلاف، الشيء الذي فسره البعض بأنه عبث إداري وتخبط سياسي في توظيف الجهود لدحر تلك الأعداد لنصابها الطبيعي، وهي أن تلك الفئة أساسًا تحتاجها الدولة في ترسيخ التعليم التكنولوجي بالتوازي مع التعليم الهندسي من أجل التنوع والحاجة إليهم بدلًا من تجميد وظائفهم (لحين ميسرة)، وفي 2012 حدث الانفجار الأعظم وكانت بداية النهاية لمهنة الهندسة في مصر المحروسة؛ فقد تم السماح لطلاب الثانوية الصناعية (نظام 5 سنوات) بالالتحاق مباشرة بكليات ومعاهد الهندسة دون رقيب أو حسيب، فحدث الزحف لجيوش تترية من طلاب الثانوية الصناعية صوب كليات ومعاهد الهندسة دون شروط، فقد أشارت الإحصائيات إلى أن نسبة المهندسين مقارنة بعدد السكان في مصر تتجاوز كثيرًا النسبة العالمية التي تُقدر بمهندس واحد لكل 200 شخص. 

وتفسيرًا لما حدث طبقًا للمعدلات العالمية، فإنه إذا كان عدد المواليد في مصر حوالي 2 مليون طفل سنويًّا، فمعنى هذا أنه من المفروض ألا يلتحق بكليات الهندسة سنويًّا سوى 10 آلاف طالب فقط، في حين أن من يلتحقون بكليات الهندسة يتراوح مابين 40-45 ألف طالب سنويًا، وقد اوضحت الأمور أن عدد المؤسسات التعليمية الهندسية في مصر حاليًا وصلت إلى 122 مؤسسة، منها 30 كلية هندسة حكومية و15 كلية هندسة خاصة و5 كليات هندسة بالجامعات الأهلية و62 معهدًا خاصًّا، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على سخرية القدر!

في حقيقة الأمر، لابد من تضافر الجهود مليًا من أجل صد هذا الزحف المقدس نحو جنة الهندسة الذي تحول لجحيم، لهذا كان من ضرورة الالتزام بتطبيق المادة 82 من قانون تنظيم الجامعات، والتي تقضي بضرورة وجود لجنة ثلاثية تحدد المواد التي يتم تدريسها في نهاية كل سنة وبالأخص بالسنة النهائية (البكالوريوس)، وتتولى ذات اللجنة الإشراف على تصحيح امتحانات بكالوريوس الهندسة، مشددين على ضرورة الالتزام بقواعد المجلس الأعلى للجامعات والتي تنص على أن العدد الأقصى لطلاب كليات ومعاهد الهندسة يجب أن يكون 40 طالبًا لكل عضو هيئة تدريس.

نضف لذلك أن الهيئة القومية لضمان جودة التعليم والاعتماد لم تعتمد في مصر سوى 20 كلية هندسة حكومية، و5 كليات خاصة ومعهدين خاص فقط! وهذا من يوضح حقيقة أن السوق العربي طارد للمهندس المصرية لعدم لياقته الفنية، بل أن هناك نقابات عربية بدأت تتشكك في مؤهلات المهندس المصري المقيم على أراضيها، بل وأيضًأ ترفض تجديد إقامتهم أو تستعين بقوى عاملة أجنبية بديلة. أيضا ضرورة توفير حصص تدريبية ونشرات دورية لاغنى عنها في التوظيف والتثبيت والتعيين من أجل محو أمية حديثي التخرج من المهندسين وفرق تدريب مركزة لقدامى المهندسين من أجل الترقي والانتداب.

نرى كذلك، بأنه من الواجب أن تعقد نقابة المهندسين امتحانًا موحدًا (تحريري وشفوي) لكل خريجي الكليات والمعاهد الهندسية (حكومي وخاص)، حتى يضمن أن يكون خريجو الهندسة على قدر علمي لائق، ومن يتجاوز هذا الامتحان يصبح من حقه مزاولة مهنة الهندسة، ومن يفشل في اجتيازه يكون من حقه القيد بالنقابة والحصول على كل المزايا النقابية، ولكن لا يمارس المهنة ويكون سببًا في متاعب نحن في غنى عنها دائمًا وأبدًا، وكذلك ضرورة وضع لائحة لمزاولة مهنة الهندسة، وبتعاون جمعية المهندسين المصرية مع نقابة المهندسين في وضع امتحان مزاولة المهنة لخريجي كليات الهندسة على أن يتم إضافتها لمشروع قانون النقابة الجديد الموجود حاليًا بالبرلمان، مع ضرورة العودة لامتحانات المعادلة، وكذا ضرورة بألّا يقل مجموع من يلتحقون بكليات الهندسة الخاصة والمعاهد الهندسية عن 10% من تنسيق كليات الهندسة الحكومية. 

أيضًا ضرورة الالتزام بالأعداد التي يحددها قطاع التعليم الهندسي بالمجلس الأعلى، مع الأخذ في الاعتبار بعدم تطبيق نظام الساعات المعتمدة في كليات الهندسة لما له من آفات يستغلها البعض في الحصول على حقوق زملائه أهمها التقدير وممارسته المهنة فور تخرجه، فمن الأولى خضوعه للتدريب لمدد تتراوح بين عامين وثلاثة أعوام، وبعدها يكون من حقه ممارسة مهنة الهندسة. حفظ الله مصر ومهندسي مصر ودمتم في رعايته.