كتاب "العنف والذاكرة والصفح" للمفكر المغربي مصطفى العارف
تاريخ النشر : 2022-09-24
كتاب "العنف والذاكرة والصفح" للمفكر المغربي مصطفى العارف


العنف بين الذاكرة والصفح

بقلم: د. يوسف بن المكي

صدر حديثاً عن منشورات دار الفاصلة للنشر كتاباً جديداً للمفكر والباحث المغربي مصطفى العارف تحت عنوان "العنف والذاكرة والصفح"، وهو الكتاب الذي يجمع بين ثلاث مفاهيم فلسفية حظيت باهتمام العديد من الفلاسفة والمفكرين وعلماء الاجتماع والمؤرخين، لما تحمله من ثقل معرفي وقيمي جعلت كل مهتم بالكائن البشري يقف بالبحث والتنقيب عن أوجه العلاقة بين هذه المفاهيم.

والحق أن المؤلِف لم يقارب الموضوع بالبتر والتجزيء جاعلاً من كل مفهوم مفصولاً عن نسقه الفكري والتاريخي، بل عالج موضوعه في تداخلاته وتقاطعاته وما ينجم عنها من نتائج تدفع الباحث للتحليل والمقارنة، وطرح السؤال والتفكير مع القارئ في إعادة قراءة الأحداث من منظور آخر غير القراءة الرسمية.

مصطفى العارف، هو مفكر وأستاذ الفلسفة المعاصرة وفلسفة الدين بجامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز، ينشغل بحقل التأويليات وفلسفة الدين والفلسفة السياسية، له مؤلفات وعدة بحوث وترجمات ودراسات منها: "جاك دريدا، قوة التشريع الأساس الكنين للسلطة" "الصفح، ما لا يقبل الصفح وما لا يتقادم" "الديمقراطية والنقاش العمومي" " العدالة القضائية والعدالة التاريخية" "جيل دلوز عربيا" وغيرها من الأبحاث والدراسات الفلسفية والسياسية.

يضم الكتاب بين دفتيه 250 صفحة من الحجم الكبير، ويصنف ضمن الدراسات الفلسفية للحقل السياسي وعلاقته بالإيتيقي وقد اعتمد المؤلف في كتابه هذا على مصادر فلسفية ممتدة على مسار تاريخ الفلسفة من جهة وعلى مصادر تنتمي لحقل العلوم الإنسانية كالسوسيولوجيا وعلم النفس والعلوم السياسية إضافة إلى دراسات ميدانية لأحداث واقعية جعلت الكتاب يزاوج بحنكة بين التنظير الفكري والتفسير الواقعي للسلوك البشري.

يتكون الكتاب من ثلاثة أقسام كبرى يشمل كل قسم منه ثلاثة فصول، سُلط الضوء في القسم الأول على العنف أو الشر الجذري. وقد اهتم المؤلف في الفصل الأول بمقاربة مفهوم العنف الجذري مقاربة فلسفية وربطه بمفاهيم "السلطة" "القانون" و"الإرهاب".

وفي الفصل الثاني حاول الرجل الرجوع إلى خلفيات وتجليات العنف الجذري وأثره السيكولوجي، أما الفصل الثالث فقد اختار المؤلف الوقوف عند قضية الهولوكوست ومساءلتها المساءلة التاريخية وكيفية توظيفها إيديولوجيا في إعادة بناء التاريخ وتوزيع السلطة.

حظيت مسألة الذاكرة باهتمام المؤلف وأفرد لها قسماً خاصاً بها لما طرحته من إشكالات محرجة على التاريخ فقد بدا أنها تحتل مكانته وتتقلد مهمته، لذلك انبرى المؤرخون إلى وضعها تحت مجهر النقد والدراسة حتى أضحت موضوعا للتاريخ وتحولت من بعد إلى ربيبة له وقد كان مدار الفصل الأول عن الآصرة التي تربط الذاكرة بالتاريخ، ليقف في الفصل الثاني عند الذاكرة والنسيان ويفكر الباحث في استعمالات الذاكرة التي تقود إلى أطروحتين: واحد تروم التقديس والتبجيل وأخرى تسعى للإهمال والتبخيس.

أما الفصل الثالث الذي أخذ عنوان الذاكرة والعدالة فقد تساءل فيه الكاتب عن دور المؤرخ في تحقيق العدالة التاريخية مقابل العدالة القضائية، وعن جدوى الحقيقة التاريخية في علاقتها بالعدالة؟

في القسم الأخير من الكتاب والمعنون بسياسة المصالحة والعنف، يدعونا مصطفى العارف إلى التمييز بين المصالحة كمجموع الممارسات السياسية أو الدينية أو الاجتماعية التي يمكن أن تتبناها أنظمة سياسية لتجاوز وضعية الماضي الأسود وبين الصفح بما هو نوع من الاقتصاد والعطاء المتبادل، عطاء يفرض نفسه على طرفي المعادلة ويستلزم نوعاً من المواجهة المباشرة والصريحة دونما تدخل طرف ثالث في العملية، أما إذا تدخل هذا الطرف الثالث تصبح العملية برمتها مصالحة وسياسة للنسيان وليس صفحا. 

كان مدار الفصل الأول عن سياسات المصالحة وهيئات الحقيقة والمصالحة وحدود تدخلها في تحقيق العدالة، ليبقى الحل هو اللجوء إلى الصفح وتحمل مسؤولية العقاب والانتقام، لأن مفهوم الصفح يطرح إحراجات عديدة على التجارب السياسية والقانونية، وهي إحراجات وصعوبات متعلقة بتحديد طبيعة الخطأ أو العنف أو الذنب أو الشر وهي إشكالية الفصل الثاني.

ليصل في آخر الكتاب إلى مقولة الصفح بما هو تحقيق للمستحيل باعتباره قيمة إنسانية لا تقبل التسويات والاستراتيجيات السياسية التي تهدف إلى المصالحة الفارغة من المعنى، بل إنه كرم أخلاقي يؤسس لفضاء عام ينعم بالعيش المشترك ومعالجة جراح الذات وتحريرها من ثقل الماضي.

ختاماً، يمكن القول إن المفكر مصطفى العارف بقدر إصداراته المتنوعة ومقالاته الغنية ومحاضراته حول موضوع الإيتيقا والفلسفة السياسية، بالقدر الذي يؤطر ويوجه العديد من الأعمال الأكاديمية كالإشراف على بعض البحوث الجامعية وتأطير الندوات الفكرية والعلمية، إذن فالرجل صاحب مشروع وصاحب ورش في هذا المجال. 

والكتاب هذا يصعب تصنيفه وفق المقاربة الكلاسيكية للفلسفة، أهو ضمن الفلسفة السياسية أم فلسفة الأخلاق أم علم الاجتماع أم هو ضمن حقل التحليل النفسي أم أنه ينتمي للدراسات القانونية والعلوم السياسية؟ الجواب الضمني لهذه التساؤلات هو: إن كل هذه الحقول حاضرة في الكتاب، وكان مصطفى العارف ذلك الذكاء والقدرة على إمساك الخيط الناظم في معالجة هذا الموضوع بهاته المقاربات المتنوعة.