تداخل الأجناس الأدبية
تاريخ النشر : 2022-09-15
تداخل الأجناس الأدبية
د. صافي صافي


تداخل الأجناس الأدبية

بقلم: د. صافي صافي

كتاب "إخطية" لإميل حبيبي الصادر عن دار الكرمل 1985، لم يسمهرواية، ولا يعترف بهذا المسمى كثيرون، بل يذهب البعض أنه لم يكتب رواية أصلاً، لكنهذا الكتاب/ الرواية (ورد في الدفتر الثالث) فيه الكثير مما يقال، فهو يبدأ بلغزالأوراق الأربع الملونة (الحمراء والخضراء، بنفس ألوان الإشارة الضوئية) والأبناءالثلاثة، ويسرح بنا "إميل" في الحدث المعاد من دفتر إلى آخر، والإشارةالضوئية، والتاريخ والتاريخ الشفوي والسيرة، والعمل السياسي، والأغاني والشعروالأمثال والاختصارات، والمنع والرفع، والحوار والقص، والحياة والموت، والشجروالحجر، والمكان والزمان، وكل شيء.

هل هذه ميزة "إميل"؟ هل هذه كتابة جديدة وقتها؟ هل يهم إن كانترواية، بالتفرعات المبتعدة والمقتربة من حدث حل اللغز والإشارة الضوئية الحمراءوالخضراء؟ هل يهم ذكر شخصيات متناثرة في الماضي القريب والبعيد، لا يربطها سوى لغزالأوراق الملونة و "قريد العيش" الفطين، و "ابريق الزيت"؟

لا أخفيكم أني أعيد قراءة هذا الكتاب مرارا وتكرارا، كلما وددت العيش فيعالم الكتابة، ووددت أن أكون مثله، وأدعي أن لإميل نكهة خاصة، ووضع أسسا جديدة فيالإبداع، يبحش في الماضي ويعود إلى الحاضر، يذهب بالخيال بعيداً، ويعود إلى الأرضوسروة وعبد الرحمن وحيفا، والكنزة الصوفية ووادي عبقر.

أليس إميل علامة من علامات الكتابة الإبداعية الفلسطينية والعربية("ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية"/ الاسوار 1985)؟ هل يهم أن يكونقد استلهم هذا النوع من الكتابة، أم كان صانعه؟ هل يستطيع أحد منا تجاوزه؟

يوسف القعيد في ثلاثيته "شكاوي المصري الفصيح" (دار الوحدة/1983)(نوم الأغنياء، والمزاد، وأرق الفقراء)، تتداخل الأمور، بين الكتابة والنشر وحدثبيع الأبناء، ولم يسمها رواية، وكذلك يفعل صنع الله إبراهيم في روايته المسماةكذلك "ذات"، التي تحتوي على جمع لإعلانات الجرائد وغيرها من الأخبار.فهل هي رواية بالمقاييس المتعارف عليها؟ وهل المتعارف عليه مقدس لهذه الدرجة؟

أما عبد الرحمن منيف السعودي العراقي الأردني، في أجزاءه الخمسة من مدنالملح (التيه، الأخدود، تقاسيم الليل والنهار، المنبت، بادية الظلمات)/ المؤسسةالعربية للدراست والنشر/ (1984- ...) التي أطلقت عليها روايات، فيخلط بين تاريخالمكان والقادة والناس البدو في شبه الجزيرة العربية، ومراجعة الكتب كما كتابالأمير/ ميكافيلي، بينما لا يسمي "سيرة مدينة"/1994 رواية، بينما هيسيرته في العاصمة عمان. فهل الخلط بين السيرة الذاتية يشوه العمل الفني الأدبي،ونستبعده من إطار الرواية؟ وهل كتاباتنا إلا سيرا ذاتية بالشكل الواسع للفنالأدبي، الواقعي منه والمتخيل في الماضي والحاضر؟

في أدبنا الفلسطيني، كتب عزت الغزاوي روايته "الحلاج يأتي فيالليل"/ أوغاريت/ 2003، وفعل مثله كثيرون، منهم حديثاً الروائي حسن حميد"كي لا تبقى وحيداً"/ كنانة/2022، والموضوع الأساس هو العثور علىمخطوطات/ رسائل، والإدعاء باكتشافها ونشرها كما هي، فهل هذه أجناس متداخلة؟

هناك مسرحية في رواية كما فعل مازن سعادة نشر رواية "أطوارالغواية"/ دار البيروني/ 2019، وفعل آخرون رواية في رواية/ شكاوي المصريالفصيح/ يوسف القعيد، وهناك قصة في شعر كما في أحمد الزعتر/ محمود درويش، ولوحةتشكيلية في رواية "جمل المحامل" /خالد حوراني/ الأهلية/2019، واعمالالرحباني و "كركلا" من مسرح غنائي، وراقص.

إذا كانت مهمتنا نحن الكتاب هي العمل الفكري بصورة فنية، والحض على التفكيروإعمال الفكر والتفكير الناقد في قراءة الواقع الحقيقي والمتخيل، فليس مهماالالتزام بمعايير كلاسيكية، تجاوزها الزمن تحت عناوين مختلفة كالحداثة وما بعدها،وهكذا فعلوا في مسرح إمريكا اللاتينية، من أن يكون الجمهور مشاركا، وفاعلاً، فماالمسرح إلا الحياة، وليس بمعزل عنها.

كذلك فعلت أنا في "الحاج إسماعيل"/اتحاد الكتاب 1990، بأن تكونالجملة الأولى "هذا هو الحاج إسماعيل، إنه ينام الآن على فراش موته"،.أذكر زميلا تقليديا، سألني: ما فائدة الرواية حين نعرف نهايتها؟ وكذلك في"اليسيرة"/ اتحاد الكتاب/1996، التي جاء السرد فيها من الباب العاشر،وانتهت بالمفاتيح الإثنية عشر،  وأخيرا في"زرعين"/ الشروق/2021،  التي كلمرة يبدأ كل فصل منها بجملة تكملها جملة في الفصل الذي يليه، لتتداخل الشخصياتوالأماكن، وتيار الوعي المتداخل كل حين.

لم تعد الكتابة الكلاسيكية للرواية هي المعيار، كالبدء من الألف إلى الياء،والتسلسل الحدثي، والزمني، وتطور الشخصيات وتفاعلها مع بعضها البعض. ولم يعدالكاتب مسجلاً لأحداث معينة عن بعد، فهو مشارك، وجزء أصيل من العمل الأدبي، وممكنأن يكتب بصيغة الأنا، وأن تكون دون اسم، فالبحث العلمي ليس موضوعيا، وليس محايدا،بل هو عمل أناس ينغمسون في العمل حتى الثمالة.

أزعم، أن الأعمال الفنية منذ التاريخ كانت متداخلة، فالقوالون، والحكائونللسير (عنترة، تغريبة بني هلال، والظاهر بيبرس، والزير سالم، وغيرها)، كانوا يقولونفي كل شيء، بتفاعل واضح بينهم والجمهور، فيقولون، ويغنون، ويعزفون، ويمثلون. إلاأن الثورة الصناعية، وما عكستها على مناحي الحياة، جعلت من التخصصات الدقيقةالمحددة اتجاها، وفي العلوم البحتة لم يعد سهلاً أن يفهم متخصص ما متخصصا آخر فيالحقل نفسه. أما في الفترة الأخيرة، فلم تعد هذه التخصصات الدقيقة مجدية بالمعنىالسابق، بل يبحثون اليوم عن التقاطعات بين الحقول المختلفة كما في الفيزياءوالأحياء والهندسة وغيرها.

فرضت ذلك مطالب الحياة. وما كل منا إلا الحياة والمجتمع باهتماماته كافة،فهو ليس معزولا عن الناس وعن الحياة. إننا نعود الآن إلى ما يجب أن نكون عليه.

وتبقى هناك تساؤلات: الدور الفكري، التجريب، الطرق الفنية في تغيير التفكيروالسلوك والأحاسيس.

هذا لا يعني الفلتان، فلا ننسى أن التركيز في الحياة، وفي الأعمال الأدبيةأمر له أثره، ولا يعيب ذلك بعض التداخلات، فنحن لسنا أنقياء تماماً، ولسنا مشوهينتماماً، إننا الحياة، ودورنا أكبر من أن نكون سياسيين، رغم مهامنا المختلطة ما بينالخيال والواقع، الواعي واللاواعي، والفلسفة والاجتماع والاقتصاد.

الكتابة الأدبية الفنية، ليست شطحات فكرية متناثرة، بل هي عمل شاق ممتعمركز واعي، يتطلب عمل الكثير والجهد الكبير.