ضياع شعب و احتضار قضية بقلم: فادي فيصل الحسيني
تاريخ النشر : 2006-08-30
ضياع شعب و احتضار قضية

فادي فيصل الحسيني

منذ العام 1948 بدأ الشعب الفلسطيني يتجرع كأساً وراء كأس من الذل و الشقاء، و التعاسة و العناء، يضمد جراحه تارة، و يمسح دمعه تارة أخرى، يضرب حيناً و يتلقى آلاف الضربات أحياناً كثيرة، فقتل من قتل، و هجر من هجر، و شرد من شرد، و بدأت القضية الفلسطينية تأخذ طابعاً سياسياً مع هامشاً إنسانياً، و بدأت تتعالى الأصوات في أرجاء العالم تطالب بدولة للعرب بجانب دولة اليهود، و عاصمته المحتلة و حقوق اللاجئين و غيرها من الخليط بين المطالب السياسية و اإلإنسانية. و ظهرت منظمة التحرير الفلسطينية لتنظم العمل على كافة الأصعدة و في مختلف المجالات لتزرع الطابع السياسي للقضية الفلسطينية و تؤكد أحقية هذا الشعب في الحصول على كامل حقوقه و أراضيه. عند العام 1993 استطاعت منظمة التحرير الفلسطينية أن تترجم العمل السابق لاتفاقيات على الأرض و تأسيس أول كيان فلسطيني على أرضه و بقيادته المنتخبة، محافظين على إرث القضية الفلسطينية بقيمتها السياسية و بجوانبها الإنسانية، حتى وصل شارون إلى سدة الحكم في إسرائيل بعد أن سبقه بوش في الولايات المتحدة الأمريكية، حين نجح الثنائي في خلق محاور جديدة في شكل هذا الصراع و بمساهمة قوى عالمية و إقليمية أخرى لتحقيق شكل جديد في معادلة الصراع.

بمتابعة دقيقة لما حدث منذ لحظة وصول الثنائي لسدة الحكم في بلديهما، نجد أنه قد تم البدء في العمل على تحويل القضية الفلسطينية الزاهية إلى قضية إنسانية قاتمة، ليتحول محور عمل الفلسطينيين من الوصول لتسوية سياسية عادلة، إلى تأمين مساعدات إنسانية أو مرتبات، و بعد أن كان الفلسطينيون يخاطبون عقول العالم الحر و يطرقون أبواب صناع الحرية في كل مكان، أصبح الأهم هو مخاطبة ذوي القلوب الرحيمة و الأفئدة الطيبة طمعاً في القليل من المساعدة و الإحسان. و بدأت ترجمة رموز المعادلة الجديدة و نقلها من الأوراق في كواليس السياسة إلى واقع على الأرض، ففجرت البيوت، و دمرت مقرات السلطة، و جرفت الأراضي، و استهدفت الجسور و محطة الكهرباء في غزة، و تضاعفت أعداد الحواجز الإسرائيلية المهينة، و إغلقت المعابر لنشاهد صوراً للمسافرين لم نشاهدها منذ قرن في أكثر بلاد العالم فقراً، و مرتبات مقطوعة و حصار خانق و اقتصاد منهار و لاجئين فلسطينين في العراق يقتلون، و أصبح من الأجدى تقديم الدعم الإنساني و ذرف الدمع على هذا الشعب الذي دفعت مؤامرات هذا الزمان قضيته نحو الاحتضار و الإنكسار.

في هذه اللحظة الخطيرة من عمر القضية الفلسطينية، تساءل الكثيرون حول النتائج العسكرية التي حققتها إسرائيل من قصف محطة الكهرباء في غزه، و هو السؤال الذي سؤل لأولمرت أربع مرات في أول لقاء صحفي بعد بدء العملية الإسرائيلية العسكرية في قطاع غزه، و بالطبع لم يجب. هذا السؤال له إجابة واضحة من خلال معرفة بعض نتائج تدمير المحطة على حياة السكان، و عمل المستشفيات، و المؤسسات، و المصانع و المحلات، و حجم العمالة التي فقدت وظائفها. فالنتائج الاقتصادية و الإنسانية هي الهدف من هذا الاستهداف الفاضح لهذه المنشأة، و ينطبق الأمر ذاته على تدمير الجسور، و قطع الرواتب و المساعدات، و الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني بأسره، و كذلك الإجراءات التعسفية على الحواجز و المعابر. أما العنصر الأساسي من مكونات معادلة القضية و هو المواطن الفلسطيني، فسقط في فخ حاجاته الإنسانية و هو أمر طبيعي و صفة من صفات البشر، فبدأ يبحث عن حاجاته الإنسانية لضمان البقاء، فانصبت الاهتمامات نحو قضايا الراتب و الدخل و الحواجز و المعابر و الكهرباء، و بعد التفكير تماماً عن الاحتلال و الاجتياح و الاغتيال و الجدار و المستوطنات.

أصبح الفلسطينيون قيادة و شعباً يتلقون الضربة تلو الأخرى، و ما أن يبدأوا في معالجة الضربة الأولى يتلقون الثانية، فلم يعد هناك هامشاً أو حتى قدرة للتحرك صوب أي نشاط سياسي أو دبلوماسي سوى تضميد الجراح و محاولة رفع الرأس قبل أن تنقض تبعات هذه الضربات. فبنظرة سريعة لما يجري على واقع الأرض، نجد أن الأحداث تتلاحق فكان هم المواطن في الضفة معالجة قضية الجدار العازل و الحواجز الإسرائيلية و تسهيل الحركة، و إذا بإسرائيل تدفع نحو حصار خانق و قطع المرتبات، و ما أن بدأ الفلسطينيون في غزه يستوعبون حجم صدمة الرواتب و الحصار، إذ بإسرائيل تزج بهم في قضية أخطر و هي قطع الطرق و الكهرباء في القرن الحادي و العشرين، و ما أن أصبح العالم يشاهد الفلسطينين على شاشات التلفزة و هم يعانون في الطرق و في البيوت و في الحواجز و في المعابر في عصر السرعة و التقدم و الحضارة، حتى بدأ يحس بأولوية عقداته الإنسانية و ثانوية قضيته السياسية، و أضحى من يتحدث عن حل سياسي كمن يغرد خارج السرب في ظل هذه الظروف.

تاريخ فلسطيني اختلطت فيها الدماء بالدموع، و الإباء بالشموخ، و امتزجت قطرات العرق بالعزة و رفض الرضوخ، و أفرزت أجيالاً من الرجال الصناديد الأشداء، و السواعد القوية الشماء، تنشد عزاً باذخاً و مجداً شامخاً، فما لهذه الرجالات سوى النهوض من الكبوة و السير إلى الغاية، و إحياء القضية الفلسطينية قبل مماتها، و العمل على دفع عوامل شقاء الشعب و ضياعه و تجنب أخطاء من سبقونا، فبالوحدة الوطنية نستطيع أن نحقق الآمال الفلسطينية، فكنا رمزاً للصمود، و مثلاً يضرب في كل العهود، و قصة شعب أراد النهوض، فلنكن دوماً هذا الرجاء الواسع العريض، و لنقدم لأنفسنا قبل غيرنا الأمل الوطيد، فلم نقبل يوماً أن نكون عرضة للامتهان، أو أن تصبح قضيتنا هدفاً للصدقة و الإحسان، حتى و إن هدف هذا المستعلي الجبار، أن يدفع قضيتنا نحو الوهن و الاحتضار.

[email protected]