"مرايا الموج" بين الفكرة وإشكالية التجنيس
تاريخ النشر : 2022-08-04
الكاتب: شفيق التلولي
كثيرا ما تتقاطع الأجناس الأدبية في الإنتاج الأدبي لا سيما في السرد، فبعض السرديات تجنس على أنها قصة وأخرى رواية أو سيرة ذاتية أو روائية، بينما تندرج بعض السرديات في إطار الرسائل أو أدب الرحلات، أما في سردية النص المفتوح فتتقاطع فيه عدة أجناس أدبية لتصبح نصا عابرا للنوعية، هذا ما يلجأ إليه بعض الكتاب لإيصال الفكرة المراد منها ذلك النص وعادة ما يكون الكاتب هنا يمتلك رؤية خاصة ينفتح من خلالها على العالم الذي يضج بالتناقضات، يسافر النص في رحلة يستعيد عبرها تجاربه الخاصة مستندا على ذاكرته الخصبة المكتنزة بالحكايا التي يندغم فيها الخاص بالعام لتتمثل الذاكرة الجمعية وتتمظهر المرايا التي تتراءى خلفها صور الكائنات كبيرها وصغيرها فينجلي العالم بكل تداعياته ويغوص الكاتب في تفاصيله، وبين الهدم والبناء والتفكيك والتركيب يلملم فتات الأشياء، تلك هي الكتابة كتابة الذات العليمة وانعكاسها في المتن ومعمارية النص.
هذا ما جسده كاتب "مرايا الموج" الكتاب الثاني على مستوى السرد للدكتور محمد بكر البوجي الفلسطيني المغترب، حيث قدم وجبة سردية مغايرة، تخرج عن المألوف والاعتيادي، فالكاتب يضع المتلقي أمام إشكالية الجنس الأدبي منذ العتبة الأولى الغلاف وعنوان الكتاب، فمرايا الموج جملة شعرية إيحائية ودال إشاري تشي للقارئ أن ما سيتلقاه شعرا، ويتبدد ذلك لحظة وقوع عينه على تجنيس الكتاب بالرواية في طرف الغلاف وسرعان ما يلتبس المعنى بعدما يقرأ جملة "مذكرات الرواية" في منتصف الغلاف بُعيد العنوان، بذلك يأخذ المتلقي إلى شتات المعنى والتباسات الأمر، لكن الكاتب الذي يتمظهر فورا منذ الصفحة الأولى التي حملت المقدمة ليتضح المعنى ويزيل اللبس، ويجعل المتلقي يدرك أن كاتب هذا النص هو ناقد بالأصل يحل لغز العنوان ويفكك إشكال التجنيس ويفسر دلالاته وتؤيلاته ويبرر ما جاء بين دفتي هذه السردية من أوراق جاءت في المتن تبدو مبعثرة لكنه أي الكاتب لملمها من خلال دفاتره الثمانية الموزعة عليها تلك الأوراق.
ليس من قبيل الصدفة أن يعنون الكاتب البوجي سرديته "بمرايا الموج" إنما جاء العنوان تعبيرا حيا لتيمة النص، فكرته التي راوحت بين الوطن والشتات المنفى الاغتراب، جمعت ببن سيرتي المكان الهنا والهناك الهنا الوطن والهناك الرحلة إلى تركيا التي تفرع منها رحلات إلى دول أوربية عدة منطلقا من مصر التي تعيده إلى ذكريات الشباب إبان دراسته الجامعية، وسيرته الذاتية الممتدة إلى طفولته التي يسترجع فيها محطات حياته بدءا من مخيم الشاطئ بغزة مسقط رأس الكاتب مرورا بكل محطات حياته ويرتد إلى البلاد الاولى من خلال الذاكرة المحمولة على كاهل الجدات والأجداد الآباء والأمهات الكاهل المثخن بالفجيعة الأولى النكبة التي حلت بتلك البلاد وشردت العباد، فالمرايا هي الصور صور الذاكرة والموج هو العمر عمر الكاتب الذي تجاوز الخامسة والستين وبات على مشارف السبعين، وسمة الموج التتابع، كأنه أي الكاتب يريد أن يقول إن الموج الذي يسكن طفولته في المخيم المتاخم للبحر ما زال ماثلا أمامه وهذا التتابع في الموج هو ذات التتابع في رحلة العمر من خلال اجترار الذاكرة المكتنزة في مراياه وموروث الحياة الممتلئة بالخبرات والتجارب.
هذه الخلطة التي جمعت بين السيرة الذاتية الزمكانية وأدب الرحلات وتقنيات السرد ما بين القصة والرواية والرسالة ووضعتنا أمام إشكالية التجنيس، هي عصارة حياته في وطنه وحله وترحاله عبرت عن ذاته الكاتبة والناقدة المتفحصة وحكمته وفلسفته ورؤاه التي ترجمت لنا روح النص وفككت إشكاليته المنبعثة من شخصية الكاتب الذي لا يحب التقليد ويحب الفوضى كما يقول، شخصيته المشاغبة المتمردة المناوشة للواقع المر والأليم الذي تحياه البلاد؛ فلسطين وما جلبه الاحتلال الإسرائيلي عليها من ويلات ودمار وبخاصة غزة التي ترزح تحته والتي طالما قاومت الاحتلال وتعرضت لمنع التجول وصولا لحصارها ووقوعها تحت نير الانقلاب وما أنتجه من انقسام طال الحياة الفلسطينبة برمتها، ليعري القائمين عليه، ويكشف المسكوت عنه ومآلاته، فكلما عبر في متن النص عن انبهاره بما رآه في رحلته كلما ارتد للوطن ليعقد مقارنة فيما ببن حياة الإنسان هناك وحياته هنا متمنيا أن يكون الإنسان هنا كما هناك يعيش حياة حرة كريمة لا فقر فيها ولا قمع وقهر، ولسان حاله يقول إن الوطن يسكنه مهما تغرب ورأى من جماليات هذه البلاد الفسيحة الغارقة بالحياة وتجلياتها الرحبة، لكنه يحلم أن يكون حال وطنه مغايرا لحاله الموجع.
نستطيع القول إن الكاتب البوجي الذي وضعنا في حيرة السرد المشوق والمدهش إنما أراد أن يحقق الفكرة؛ فكرة الإنسان المسكون بوطنه الذي يتوق للتحرر والخلاص من كل أشكال القمع والعبودية التي تأتي بأشكال مختلفة تارة بفعل الاحتلال الدخيل وتارة بفعل ذوي القربى، فقدم لنا هذه الدفاتر المتتالية وأوراقه المبعثرة المحكمة بخيط واحد جمع فيما بينها منذ انطلاق السرد في الدفاتر الأولى ذاكرة المخيم والبلاد والدفاتر الوسطى السفر والرحلات والدفاتر الأخيرة الرؤية والحكمة وخلاصة الحياة، فحل لنا إشكالية التجنيس حينما حقق الفكرة، لكن يبقى السؤال القائم هل استطاع البوجي أن يتجاوز حدود هذه الإشكالية وهو الناقد العليم بما تحمله المدارس النقدية بمناهجها المتنوعة وهو يقدم نصا مغايرا وجنسا إشكاليا؟ ربما وربما لا، لكنه قدم لنا درس الحرية.