ملامح النظام العالمي المقبل....يبدو مائلاً نحو الشرق
تاريخ النشر : 2022-07-31
ملامح النظام العالمي المقبل....يبدو مائلاً نحو الشرق
د. سمير الددا


ملامح النظام العالمي المقبل....يبدو مائلاً نحو الشرق

بقلم: د. سمير الددا

التهاب اجواء منطقة الخليج واقتراب درجة حرارتها من الخمسينات في منتصف شهر يوليو الجاري لم يمنع أهم الساسة وصناع القرار في العالم (رغم اختلاف توجهاتهم وتضارب مصالحهم) من التوافد تباعاً إلى ضفتي الخليج غرباً وشرقاً للاجتماع بزعماء المنطقة خاطبين ودهم, وكل منهم يبذل قصارى جهده لاسترضائهم واستمالتهم تجاهه وهذا بلا شك يدلل على الاهمية الاستراتيجية الفائقة التي تتميز بها المنطقة ويشير الى مدى النفوذ الذي اتاحته وتتيحه لها الظروف الدولية الراهنة ومدى أهمية وفاعلية الدور الذي يمكن ان تقوم به هذه المنطقة (في ظل الواقع العالمي المتفجر حالياً) في تشكيل النظام الدولي المنتظر بما يحقق تطلعات شعوبها وآمالهم وصولاً الى المكانة المهمة التي يمكنها ان تنتزعها تلك المنطقة لنفسها في المشهد الدولي التالي ان هي قرأته مجتمعة بتمعن من صفحة واحدة, وأحسنت التعاطي معه ببراغماتية من زاوية مشتركة, وذلك فقط يضمن لها التموضع في المربع الذي تستحقه ويليق بها.

اتضحت اكثر من أي وقت مضى كيف ستكون ملامح العالم بعيد قمتي ضفتي الخليج, الولايات المتحدة فشلت في جر حلفائها التقليديين في المنطقة خلفها في مواجهتها مع روسيا التي تخوضها بدلاً منها اوكرانيا بالوكالة, لان قادة المنطقة ادركوا ان مصالحهم الوطنية تقتضي ان لا يبقوا على بوصلتهم مثبتة غرباً نحو واشنطن ظالمة او مظلومة (كما جرت االعادة منذ عقود طويلة), وهذه المرة (على غير العادة) كان ملفتاً ان معظمهم رأى أن مصالحهم تقتضي التوجه شرقاً, وقد كان...!!! ولحسن الحظ ان الظروف الدولية الحالية مكنتهم من ذلك..... وهذا هو الجديد ....!!!!!!.

الولايات المتحدة لم تأت بأي شئ تقدمه للعرب, فقد جاءتهم الى جدة بجراب فارغ تماماً الا من بعض الوعود الكلامية كما اعتادت طيلة عقود, كانت تأمل ان تعود به محملاً بكميات وافرة من النفط والغاز والكثير من الصفقات والمزيد من التطبيع والتصهين وما تيسر من فروض الولاء والطاعة.

لكن رياح جدة لم تكن كما اشتهت سفن واشنطن هذه المرة, وعادت بجرابها خاوياً كما جاء, إلا من بعض الوعود من نفس الطراز وبنفس الطعم واللون والرائحة, وهذا ما أثارته وسلطت عليه الاضواء وسائل الاعلام الامريكية التي ارجعت الوصول لهذه النتيجة الى الرئيس بايدن وادارته التي تغمض عينيها عن الواقع الدولي المستجد, وتصر ان تتعاطى بفوقية مع العرب كما تعودت, ولم تدرك ان الظروف العالمية التي احاطت بهذه الزيارة تختلف عن سابقاتها, ويبدو ان ادارة بايدن فشلت في استيعاب ما يحدث في العالم من مستجدات تفرض عليها تغيير سياساتها (خصوصاً سياسة الاملاءات التي ثبت فشلها خلال هذه الزيارة) مع الدول العربية وخصوصاً في الخليج. وفي هذا السياق شدد الكثير من المراقبين على ضرورة ان يحكم العلاقات الامريكية العربية منذ اليوم منطق العلاقات الدولية الطبيعية والتي ترتكز على مبدأ المصالح المشتركة او تبادل المصالح, اي اعطيني هذا مقابل ذاك", وليس أعطيني فقط.....مع استثناء وحيد وغريب لا اعرف له مثيل وهو علاقة امريكا بالصهاينة... فهي بإتجاه واحد فقط...!!!

هذا وفي السياق ذاته, شهدت الضفة الشرقية للخليج بعد حوالي 3 ايام من قمة جدة, قمة اخرى بين رؤساء روسيا وايران وتركيا, وجاءت روسيا الى طهران محملة ببرامج تعاون استراتيجي وعسكري واقتصادي مع كل من ايران وتركيا وغيرها في مجالات متعددة ابرزها منظومات دفاع جوي وصفقات طائرات مسيرة من ايران والطاقة والأمن الغذائي واليات نقل وتصدير الحبوب عبر البحر الاسود واستقرار دول الاقليم وخصوصاً سوريا بالتنسيق مع تركيا وغير ذلك وأضف الى ذلك ما أعقب قمة طهران من تواصل بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وبعض قادة المنطقة وعلى رأسهم الامير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي لتنسيق المواقف ووجهات النظر حول أسواق الطاقة العالمية لتحقيق مصالح جميع الاطراف واستقرار سوق النفط وضمان الحصول على سعر عادل للبرميل......

موسكو التي ضبطت ايقاعها النفطي على نغم الرياض كانت سعيدة جداً بتمسك الاخيرة في قمة جدة بسقف الانتاج الحالي وفقاً لاتفاق اوبك بلس وعلى الارجح ان الامر سيبقى على ما هو عليه (الى حد كبير) في اجتماع دول اوبك بلس المقرر في فيينا بعد عدة ايام وتحديداً في الرابع من أغسطس, لان ذلك من شأنه ان يستمر في ضمان سعر جيد وتدفق عائدات وفيرة وهذا لصالح المنتجين وعلى رأسهم المملكة وروسيا ومؤشراً على فعالية التنسيق بين البلدين وكما يشير الى وجود شبكة علاقات ذات طبيعة مختلفة بدأت خيوطها تنسج بينهما..... وقد لا يكون مفاجئاً اذا ما كان هذا التوافق (البعيد عن اي ابتزازات امنية وعسكرية او سياسية) يسير بالبلدين الى ما هو ابعد بكثير من موضوع النفط أو إطار اوبك بلس... وهذا بالضبط ما تبشر به مجريات الاحداث الدولية الحالية وتشير اليه كل المعطيات.

هذا وفي سياق غير بعيد, قال الرئيس الامريكي جو بايدن للصحفيين الخميس 28 يوليو الجاري بأن زيارة تايوان المقرر ان تقوم بها نانسي بيلوسي ضمن جولة اسيوية تشمل كل من اليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة "ليست فكرة جيدة من وجهة نظر الجيش" وهذا التصريح في لغة السياسة يعني ان الرئيس بايدن الذي تلقى تحذيراً قوياً من الرئيس الصيني شي جين بينغ اثناء اجتماعهما هاتفياً الاسبوع الماضي "بعدم اللعب بالنار فيما يخص تايوان" قرر إلغاء زيارة بيلوسي التي تحتل المرتبة الثالثة في هرم السلطة بعد الرئيس ونائبته بحكم منصبها كرئيسة لمجلس النواب في الكونجرس, وذلك تجنباً لصدام مسلح وارد جداً مع الصين التي هددت بمنع الزيارة بأي طريقة كانت ولو بالقوة وذلك حسب ما صرح به رئيس التحرير السابق لصحيفة جلوبال تايمز الصينية الحكومية هو شي جينغ قائلاً "أنه إذا رافقت طائرات مقاتلة أمريكية طائرة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي في زيارتها لتايوان فهذا يعتبر غزواً امريكياً للأراضي الصينية وعليه سيتم تحذيرها وان لم تستجب سيتم إسقاطها بما فيها طائرة بيلوسي رداً على هذا الغزو.

وتجدر الاشارة الى ان تصريحات المسئول الصيني جاءت في تغريدة له على موقع تويتر تم حذفها لاحقاً نظراً لطبيعة محتواها, بحسب الموقع.

كل هذه المتغيرات العالمية تشير الى أن الركن الاهم الذي يستند اليه النظام الدولي الذي بناه الحلفاء في منتصف الاربعينات بدأ يتداعى, وفي الوقت نفسه هناك ملامح نظام بديل بدأت تلوح في الافق كما سبقت الاشارة وهناك ايضاً مرشحون جدد يقدمون أوراق اعتمادهم للمنافسة بقوة على زعامة هذا النظام.

وفي هذا السياق يربط مراقبون بين هذه التطورات وبين ما نادى به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عام 2009 عندما قال "انه قرر انهاء قطبية العالم الواحدة" أي سيطرة الولايات المتحدة منفردة على العالم, ويبدو انه حسم امره وبدأ فعلياً بالتنسيق مع الصين وغيرها في تنفيذ ما نادى به انطلاقاً من اوكرانيا.

قد يكون في حكم المؤكد ان النظام الدولي القائم الذي بنته الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي للسيطرة على العالم وتقسيمه واقتسام ثرواته بعد انتصارهما على دول المحور بقيادة المانيا النازية في الحرب العالمية الثانية منتصف الاربعينات لم يعد صالحاً لقيادة العالم وخصوصاً بعد اختلاف هذين القطبين ونشوء حرباً باردة بينهما استمرت لعدة عقود انتهت بانهيار الاتحاد السوفيتي مطلع التسعينات لتنفرد الولايات المتحدة بقيادة العالم الى الان.

روسيا التي ورثت تركة الاتحاد السوفيتي الثقيلة راحت تعمل بجد وصمت منذ اكثر من ثلاثين عاماً على بناء اقتصادها المنهار وقواتها العسكرية المتداعية الى ان نجحت اخيراً في استرداد عافيتها وقوتها بما يكفي لان تعمل على انتزاع المكانة الطبيعية التي تستحقها بين دول العالم رغم معارضة واشنطن خصمها اللدود.

وتجدر الاشارة الى ان الولايات المتحدة تسيطر على العالم سياسياً وعسكرياً بأدوات وطرق مختلفة اهمها منظومات دولية متوحشة ابرزها منظمة حلف شمال الاطلسي (ناتو) والتي تأسست عام 1949 بعضوية 12 دولة فقط منها 10 في اوروبا وأصبح الحلف اليوم يضم 30 دولة اوروبية, وللعلم ان  زعيمة الحلف الولايات المتحدة وجارتها كندا تقعان في قارة امريكا الشمالية وتبعدان عن اوروبا اكثر من 6000 كيلومتر هي عرض المحيط الاطلسي الذي يفصل بينهما, كما تجدر الاشارة الى ان هناك 20 دولة اوروبية ليست اعضاء في الناتو (روسيا, اوكرانيا, ايرلندا, النمسا, فنلندا, السويد, سويسرا, ارمينيا, اذربيجان, البوسنة والهرسك, كوسوفو, صربيا, بيلاروس, جورجيا, مولدوفا, اندورا, سان مارينو, موناكو, قبرص ومالطا).

بعد الحرب على اوكرانيا بدأ هذا الحلف يفقد هيبته وبدأ الكثير من اعضائه في التململ تضجراً من تبعات الانتماء اليه, وفي هذا الصدد مثلاً أعرب مستشار وزير الدفاع الامريكي السابق الكولونيل دوغلاس ماكغريغور، عن اعتقاده بأن الرئيس الأمريكي جو بايدن، المصمم على خوض حربه بالوكالة مع روسيا حتى النهاية أخذ يخسر في أوكرانيا.

ويضيف ماكغريغور في مقال له نشرته مجلة The American Thinker في التاسع عشر من شهر يوليو الجاري بأن حصان بايدن المفضل "حلف الناتو يلهث أنفاسه الأخيرة"......!!!! ويتابع المؤلف مقاله قائلاً "تتمثل مشكلة الناتو ان اقتصادات دوله تتدهور وأن الصعوبات الاقتصادية الناجمة عن عقوبات بايدن ضد روسيا، تهدد دوله الاوروبية بكارثة اقتصادية هائلة" ويستشهد المؤلف بالوضع في ألمانيا صاحبة اكبر اقتصاد في اوربا ويقول "انها باتت تواجه صعوبات كبيرة في الوقت الراهن كغيرها من دول الناتو الاوروبية", ويضيف الكاتب "أن سياسة الولايات المتحدة خطيرة", وأن الأمريكيين والأوروبيين "غاضبون على قادتهم الفاشلين والجاهلين" وفقاً لما جاء في مقال ماكغريغور.

اما اقتصادياً فتسيطر الولايات المتحدة على العالم بواسطة منظومة جشعة تسمى مجموعة الدول الصناعية السبع الكبار (G7) (الولايات المتحدة, بريطانيا, فرنسا, كندا, اليابان, ايطاليا, المانيا) والملفت ان هذه الدول التي تدور مجبرة في الفلك الامريكي لاعتبارات مختلفة لا مجال لذكرها, تستأثر بأكثر بحوالي 60% من ثروة العالم المقدرة بحوالي 320 تريليون دولار وحوالي 40% من الناتج المحلي الاجمالي العالمي الذي بلغ العام الماضي حوالي 94 تريليون دولار وفقاً لقاعدة بيانات الثروة العالمية التي اصدرها بنك كريدي سويس في شهر نوفمبر الماضي ووفقاً لتقديرات البنك الدولي للعام 2021, علماً بأن هناك دول المجموعة مثل الصين وروسيا والهند وغيرها تمتلك ناتج محلي اجمالي يفوق بكثير ما لدى بعض اعضاء هذه ولكن الولايات المتحدة ترفض انضمام تلك الدول للمجموعة بذرائع قانونية وحقوقية كما تزعم, في حين يرى معظم المراقبين ان السبب الحقيقي هو ان الدول المذكورة تحلق خارج فضاء البيت الابيض.

اخر الكلام :

الرئيس الامريكي جو بايدن قال اثناء وجوده في جدة قبل حوالي اسبوعين "ان الولايات المتحدة ستعود بقوة الى المنطقة تحسباً من ان تملأ كلا من روسيا والصين الفراغ التي تركه انسحاب قوات بلاده العام الماضي", يبدو ان السيد بايدن قد استيقظ متأخراً....... بكين وموسكو بالفعل دخلتا الى المنطقة ونسجتا لهما شبكة علاقات واسعة تمتد من الاناضول وبلاد الشام الى افريقيا مروراً بضفتي الخليج شرقاً وغرباً......!!!!!!

تنويه:

تجنباً للإطالة, سنتناول في المقال القادم ان شاء الله جوانب للموضوع لمزيد من التوضيح ولإكمال الفائدة وذلك لما له من أهمية.