أمي
تاريخ النشر : 2022-07-30
بقلم: رائد قاسم
تقف بالقرب من ذلك المنزل ..تتأمله مليا .. تنظر له بعمق.. تشاهد البوابة مفتوحة .. ترتسم الدهشة على وجهها ...
- ان عادت تركها مشرعة لم تتغير ، انه كما تركته قبل اربعين عاما مضت.
تدخل المنزل الذي قارب عمره السبعين.
تمشي في انحاءه ببطء وهي توجه انظارها في ارجاءه ... تقترب من غرفة الحارس..
- انها كما هي لم تتغير.
تدخلها .. تجدها مهجورة ولكنها بحالة جيدة ..
تلمح النافذة ...
- بالقرب منها كان ذلك السرير ، يبدوا بأنهم اتلفوه بعد الحادثة.
- من هناك؟ من بالداخل؟
يدخل عليها شخص .. تقف امامه بهدوء وصلابة وتنظر له بقوة ..
يتقدم منها ..
- من انتِ ؟ وماذا تريدين؟
تلوذ بالصمت ..
- هل تريدين شخصا ما؟
تؤم له بالنفي ..
- حسنا ؟ اخرجي من هنا رجاء، هذا بيتنا والمفترض ان لا تدخليه إلا بعد استئذان.
تخرج بهدوء بينما ينظر لها الرجل بارتياب ..
- انه هو دون شك.. لم تتغير ملامحه كثيرا رغم مرور كل هذه السنوات.

تعود الى منزلها .. إلا ان شغلها الشاغل كان البيت الذي قضت فيه حياتها السابقة ... لا تستطيع مقاومة شوقها فتعود اليه ولكن هذه المرة في الليل ...
كان مازن ولؤي وهاني مجتمعين كعادتكم في المنزل الكبير الذي يعيشون فهي سويا مع عائلاتهم فتفاجئهم بدخولها عليهم ...
مازن - انتٍ ثانية؟
لؤي- من هذه المرأة وكيف تجرأت على الدخول الى هنا ؟.
هاني- انه خطئنا ، كان يجب علينا اصلاح البوابة.
تتقدم من لؤي .. تقترب منه بينما ينظر لها بحذر وريبة ...
- انت هو ، لا شك بأنه انت؟
لؤي- انا ماذا ؟
- انت انت!
- ما تريدين مني ؟
- انا امك يا حبيبي.
ينظرون الى بعضهم باستغراب ثم يضحكون من قولها...
مازن - لقد ملئتي قلوبنا رعبا وفي النهاية ....
هاني - تمخض الجبل فولد فأرا !!
- بل انا امه.
مازن - منذ رايتكِ وأنا محتار في امرك والان زالت حيرتي ، انتِ إما مصابة بمرض نفسي عضال او جنون او ربما خرجت من الخانكة منذ وقت قريب.
- انت مازن اليس كذلك؟
- ( باندهاش) وكيف عرفتِ؟
- وأنت هاني ؟
يتطلعون في بعضهم بتعجب ...
- وأنت حبيبي وثمرة فؤادي لؤي.
تنتابهم الدهشة العارمة وتنعقد ألسنتهم ..
تدنو من لؤي..
- انا والدتك؟
تمد يديها لوجه ولكنه يبتعد عنها...
لؤي – ايتها السيدة ، امي ماتت منذ اربعون عام وكنت حينها في الثامنة من عمري. وانتِ امرأة في الثلاثين فكيف تكونين هي؟
- لك اخت من والدك اسمها فاتن اليس كذلك؟
- ( باندهاش) هذا صحيح .
- وهذا عمك مازن وذاك ابن عمك هاني الذي يكبرك بعشر سنين.
هاني- كل ما قلته صحيح ، يبدوا بأنكِ عرفتي عنا كل هذه الامور قبل مجيئك فماذا تريدين؟.
- لا اريد منكم شيئا، فانا امك يا لؤي وزوجة اخيك يا مازن وزوجة عمك يا هاني.
مازن - مستحيل زوجة اخي ماتت مقتولة هنا في هذا المنزل منذ اربعون عام وقبرها تزوره العائلة منذ عقود.
- انا هي.
- بل انت امرأة محتالة او مجنونة.
- بل انني هي.
تنظر الى لؤي ..
- لؤي حبيبي ، انا أمك وأذكر عنك كل شي.
لؤي- مثل ماذا؟
- اتذكر عندما كنت في الثامنة وذهبت للنادي وعدت وقد فقدت احدى فردتي حدائك.
ينظر لها بدهشة ..
- لا يمكن ... مستحيل
هاني- ماذا تعني؟
- ان ما تقوله صحيح ، اتذكر تلك الحادثة جيدا.
هاني - من تكوني ايتها المرأة المحتالة ؟ اخبرينا بحقيقة امرك وماذا تبغين منا؟
تخطو نحوه عدة خطوات..
- لؤي ابني وانتم بقية أهلي فماذا اريد منكم يا ترى؟.
مازن - ما تقولينه هراء لا يمكن لأحد ان يصدقه، لان زوجة اخي ماتت ورحلت عن هذه الحياة ولا يمكن لأي قوة ان تعيدها الى الحياة.
تتراجع عدة خطوات، تخرج منديل لتجهش بالبكاء... ينظرون اليها بصمت مشوب بشكوك وريبة..
إلا انها تمسح دموعها وتتمالك امرها ثم تقول لهم :
- انا مت؟ هذا صحيح، وقبري اعرفه تمام المعرفة، ولكني عدت للدنيا من جديد ، لقد منحني القدير حياة جديدة بجسد جديد ولكني تذكرت حياتي السابقة فتذكرتكم .
تنزل من عينيها بضعة دمعات إلا انها تستأنف كلامها ...
- ولكن نفسي لم تتغير، انا هو انا في هذا الجسد او ذاك الجسد، وان قلبي يحن الي لؤي أبني والى بيتي، وحياتي السابقة.
يذهلون من حديثها ..
لؤي- مستحيل، ما تقولينه لا يمكنه ان يحدث ابدا ، امي ماتت قتلا في تلك الجريمة الرهيبة.....
تقاطعه...
- قتلت خنقا على يد ذلك الشرير في غرفة الحارس ، في ظهر يوم قائض ، لقد كان الجاني احد اعداء والدك لثار له عليه.
لؤي - ( بدهشة عارمة) نعم ما تقولينه صحيح ولكن...
- وقبري بالقرب من قبر ابيك وجديك.
مازن- بحق الرب من انتِ وماذا تريدين منا؟.
- اريدك يا لؤي.
- لا يمكن ان اكون أبنك ، ان عمري مقارب لعمرك ، انظري لتلك الصورة ، انها صورة امي اما انت فامرأة اخرى.
- جسد اخر ، ولكن نفسي هي نفسي وروحي هي روحي، انا امك في هذا الجسد كما كنت امك في جسدي السابق.
- لا يمكن ان تعودي للحياة !! الموتى لا يعودون.
- جسدي تحول الى التراب الذي خلق منه ، ولكن نفسي عادت وتلبست هذا الجسد ، وفي كلا الجسدين انا امك يا حبيبي.
- ما تقولينه لا يمكن ان يحدث ، انه عين المستحيل.
- اتذكر يوم وقعت من سيارة خالك وتكسرت بعض اسنانك.
لؤي- انتِ شيطان ، شيطان رجيم!
- بل انا امك التي تحبك ، امك التي كانت روحها ترفرف حولك وتحيط بك دائما.
يقطع هاني حديثهما..
- اخرجي من هنا رجاء، لقد زرعت في نفوسنا الخوف والرعب وملئت بيتنا من طاقتك المظلمة الرهيبة.
تنهمر منها الدموع ثم تنظر الى لؤي وتقول له:
- سأعود اليك يا بني.
***
قبل حياتي. هل كنت موجودة؟ .
انني اعيش حياة ما قبل الموت فهل هناك حياة ما بعد الموت؟.
انني اعيش حياة ما بعد الولادة فهل عشت حياة ما قبل الولادة؟.
هذا ليس قبري انما قبر جسدي الفاني ، جسدي الذي خنقه الشيطان ، فقصم عمري واغتال حياتي ودمر احلامي...
انا انا !! بذلك الجسد!
أو بهذا الجسد!
بحياتي الماضية انا!
بحياتي هذه انا!
بحياتي القادمة انا !
ما الجسد إلا رداء ارتديه فيبلى وأغيره ودائما ابقى انا بذاتي وبكياني ونفسي وروحي وكينونتي..
قدري في حياتي السابقة ان تكون لي عائلة ، وقدري في حياتي هذه ان اكون وحيدة... في حياتي الماضية عشت وسط اهلي وأحبائي اما حياتي هذه فقد مات والداي في صغري ولم اعرف لي اقرباء او احباب .. يا لسخرية القدر ..
فجأة يدخل عليها لؤي...
لا تصدق عيناها .. تغمرها ابتسامة مشوبة بدهشة عارمة ..
- لؤي ، هذا انت يا حبيبي.
يدنو منها ..
- هل انت حقا امي؟
- لا شك ولا ريب يا اعز مخلوق على قلبي.
- انتٍ جميلة.
- انني امك مهما كنت وكيفما كنت وعلى اي هيئة كنت.
يدنو منها..
- ولكنك جميلة جدا.
ثم يلتفت الى فراشها...
- هذا فراشك ؟ لماذا وضعتيه بالقرب من النافدة؟.
- لم اكن اعرف لماذا حتى تذكرت ان نهايتي في حياتي الماضية كانت على ذلك السرير وكان بالقرب من النافذة ايضا.
يمسك بذراعيها ويقرب صدره منها...
- هل انت امي حقا؟.
- امك الذي لن تفارقك بعد اليوم.
يمسك بها ويلقي بها على السرير ..
- انت جميلة حقا.
تقاومه بكل ما اوتيت من قوة ...
- لؤي انا امك ! هل جننت ؟.
- سأكون مجنونا اذا ما تركت جميلة مثلك تفلت من يدي.
يحاول تمزيق ملابسها ، يمسك بها من عنقها .. تتذكر قتلها على يد قاتلها السابق...
- كلا هذه المرة لن اقتل .. لن اغادر حياتي هذه مقتولة كما المرة السابقة.
تمسك بقطعة حديد من سريرها وتضربه بها ثم ترفسه برجليها فيهوي صريعا على الارض..
تناديه بافتجاع..
- لؤي ، ابني ..
إلا انه كان يتلوى من الالم والدماء تنزف بغزارة من رأسه ..
- لؤي اتذكر عندما سقطت من على ارجوحة الحديقة فضمدت جرحك بقطعة من ملابسي ؟
ينظر لها رغم ضعفه الشديد بتعجب ودهشة ...
- هل انتِ حقا امي؟
- انا امك ، هذه هي الحقيقة التي لا يمكن لأحد ان يغيرها.
- كنت اقول باني ان امت سألتقي بك وها انا اموت ولكن لن اراك في العالم الاخر لأنك ستكونين هنا .
ثم يغمض اغماضته الاخيرة.
تصرخ صرخة مجلجلة... تبكي بكاء مرا. تنهمر دموعها كأمطار خريف جارفة ..
تناديه بأعلى صوتها.
تهز جسده عل روحه تعود اليه .. ولكنه تحول الى جثة هامدة..
- سابحث عنك يا بني في حضائن الأطفال ، بين اثداء الأمهات ، لا شك عندي بأنك ستعود لتعيش حياة اخرى بجسد اخر ولكنك ستظل ولدي الذي سابقى احبه وسوف اجدك لأعيش معك الى الابد.