بقلم : نادر سالم
صدر مؤخرا عن دار وائل للنشر والتوزيع في عمان رواية للكاتب والسيناريست المعروف ( رياض سيف ) بعنوان الرحيل نحو الوجهة الاخرى (وجهان في الذاكرة ) . وفي نظرة سريعة على صورة غلاف الرواية يتضح لنا أن الكاتب يحمل وجع وطنه فلسطين كظله .حيث أن انعكاس ظل الحقيبة التي يحملها لخارطة فلسطين تشي بما تحمل الرواية من مضمون الرحيل والاغتراب .
ولعل الرواية كتبت منذ زمن بعيد , والدليل على ذلك هو كلمة لسادن الثقافة الفلسطينيه المرحوم الكاتب والشاعر علي الخليلي لتقييم الرواية عام 2002م حيث ورد في التقييم :( اسعدني أن اقرأ مخطوطة روايتك (وجهان في الذاكرة ) . رواية الفيض الانساني الفلسطيني ، في أدق التفاصيل ، بين الوطن والمنفى . لغة شعرية ، ولوحات اشراقية في غمار هذا الفيض . وثمة في اساس هذا النص الابداعي ، رحيل مستمر داخل النفس الفلسطينية المعذبة في كل أحوالها .رحيل يحقق في محصلته قدرة الرواية على الوصول الى قارئها ، بشفافية الملحمة وعمقها في أن واحد .
في روايتك أخي رياض ، جهد كبير في التحليل واضاءته بالحوار ، وفي حركة الحدث على مختلف مستوياته . وهو الحدث الاجتماعي بقدر ما هو السياسي بالضرورة ، دون ادنى استغراق بالشعار السياسي المسيطر . وبذلك ، تركت للقاريء فرصة أن يكون هو نفسه أيضاً ، أحد وجوه الرواية بلا اثقال عليه ، ولا اكراه ).
علي الخليلي 3/1/2002م
في الفصل الاول من الرواية يصف لنا الكاتب رحلته الى ليبيا طلبا للرزق حيث يلتقي مع مجموعة من الشباب الذين تجمعه معهم عذابات الوطن والغربة . لكل منهم قصته وهمومه وذكرياته . وما بين المدينة والصحراء القاحلة ينقل لنا معاناة الاغتراب . حتى اذا ما مرت الايام وضاقت السبل للعودة تشابكت في الذاكرة الذكريات بين الحبيبة مريم على الشاطيء الاخر وبين عذابات الواقع التى بدأت تنهش في العظم والذاكرة وصولا الى حد الاكتئاب السوداوي الذي أضحى مسيطراً لافكاك منه الا بالهروب الى الماضي الذي ما عادت معالمه واضحة في الذهن المشوش نظرا لفضاعة الواقع . وكوابيس سيطرت الى حد الارق المتواصل خشية انفلات زمام ما تبقى من الانسان ليصبح رقما بلا اسم او هوية . ومع الاسطورة الماثلة في بقايا اطلال الماضي في مدن الاغريق والرومان في مدينة ليبتيموس الواقعة على مرمى البصر وهربا من الحاضر المؤلم ينقلنا الكاتب الى عذابات كيلوبترا في زنانزين مدينة ليبتيموس . وكما يتمنى الكاتب الهروب من واقع اثقل عليه ، كانت كيلو بترا تحاول التخلص من اسرها ..ولا خلاص .
في الفصل الثاني من الرواية تبدأ الاحداث تنقلب الى ماهو اقرب من الجنون والانفلات . ربما هو التمرد على الواقع بكل اشكاله وتقاليده . وربما هو الانعتاق من وضع اضحى فيه الموت والحياة على قدم المساواة
ففي غمرة هذا المخاض الصعب( فرقع في الارجاء ارتطام اباجور خشبي بالحائط وهوى القلب بوجيب خاطف كانت ترخي بملاءتها فوق الرأس راحت تمسح زجاج النافذة ، وغابت بأسرع ماهو متوقع .. فارعة الطول منتصبة القائمة في ريعان الورد ( خدوج المتعطشة للحب والحنان والانفلات من سلطة التقاليد ، بيعت لرجل لايتقن حرث الارض فما بالك بحرث النساء (لم أكن أعرفه ..ولم اسمع به من قبل ..هو البيع اليومي في سوق النخاسة وامثالي هن الضحية ولانه يملك الثمن ، رسى المزاد وتمت الصفقة ). والتقى الغريب بالغريب , كلاهما متعطش للهروب في الاخر . كان اللقاء جنونياً الى حد الفسق . كل يحاول أن يوغل في الاخر هرباً من مأساة يعيشها . وضعت وليدها المعاق الاول ( هو بذرة نجس لطخ نطفته في دور الدعارة وحانات الزنا .. كان يتركني ونحن في شهر العسل للبحث عن غانية رخيصة ، كنت أعلم هذا وأسكت صاغرة .وشارع الهرم وفتيات الليل في قبرص ومالطا وغيرها من نساء الرخص والليل في الغرب دليل على ثبوت عهره , وهذه هي النتيجة فأي بلاء هذا ).
في الدائرة الحكومية ثمة وجوه كالحه , متنمرون ومدعوا الثورة ومتزلفون . لا انتماء الا للمصلحة الخاصة مهما كانت الوسيلة . ومن بين هذه الوجوه شاب ترى في محياه اشراقة المستقبل ,وكأنه ليس منهم حتى لتظنه الامل الات وسط ارهاصات نظام اتخذ من شعبه حقل لتجارب الفئران بمقولات وكتاب أخضر فُرض على الكل اتباعه حتى لو لم يفهم منه احد ما يحويه من مصطلحات او معاني . كان الشاب ( فرج ) أفرب من الوريد الى الوريد . وكان السؤال الدائم لماذا لم يلتقيا ( خدوج وفرج ) ؟. ليكونا حالة فريدة من الحلم القادم ، على حساب هذا الذي يجري من خبث وانهيار . تضع خدوج مولودها الثاني معافاً سليماً مشرق المحيا , هو خلاصة علاقة بطلنا وخدوج ، لترى فيه خدوج املها وحلمها الذي كانت تنتظره
كانت وقع الصدمة شديداحين ارتقى فرج قتيلاً تحت اقدام همج الثورة الثقافيه ، وكأن الحلم الذي كاد أن يصبح حقيقة انتهى الى الابد . مات اول واخر الانبياء في ارض الكتاب الاخضر . واسودت الدنيا في وجه محبيه .( وركضت ، ركضت اليها كونها اقدرهم على الفهم وسماع شكواي ووجعي .هرعت اليها لعلي اجد من يشاركني حزني وعزائي في غياب فتى جمع بين عينيه بين الشاطيء والشاطيء . داس على الكاتب والشرطي واشارات المرور القاسية المفروضة بأمر السادة والمنتفعين ، والفتى منارة شاطيء انطفأ ت قبل الاشتعال ) .
ما الذي يمحي الخطيئة؟.
أجبت:- الندم.
- وأن كان لا يكفي؟.
- فالعتاب .
- وأن كان لا يكفي؟.
- فالدم.
اذن فقد أن الرحيل الى مريم والطوابين ومقارعة الاحتلال .
وجدتها تفترش السرير والى جانبها فلذة كبدي يغط في نوم هاديءعميق , اسرتنى بسمته ..وبلمسة حانية مرتعشة باللهفة مسحت جبينه اردفتها بقبلة تمنيت أن تطول إلى ألأبد .
ابتسمت جمعت كفيها على كفي وهمست:- هو يشبهك.
أومأت برأسي وعيناي لا تفارقان وجهه:- بل أجمل مما كنت أتوقع.
قالت وهي تقبل كفي:- هذا زرعك وحصدك. وسيكون عندي ألأعز والأغلى.
تمتمت بود:- هذا وفاء لن أنساه أبداً.
- أسميته فرجاً.
- هذا جميل منك لن أنساه.
دمعت عيناها ..شدت على كفي وهمست:- ألا تريث في قرارك؟.
-عزمت وانتهى الأمر.
- سترحل.
- ألآن.
وأشاحت بوجهها نحو المولود , تدفق الدمع سخياً غارقاً في الحزن.
- سأعلمه كيف يمد جسور الود إلى وطنٍ أنت فيه.
- ...........................
- سأقول له الحقيقة حين يصبح مهيئاً لها.
أسبلت رموشها الطويلة على قطرات من الدمع, وتحركت شفتاها بحرقة همست:- هل أراك ثانية.
غامت نظراتي في البعيد, قلت:- لا أدري.
- وإذا ما قرر ولدنا أن يلقاك.
وامتد خيط يجمع بين الشاطئ والشاطئ, يختزل مياه البحر في شاطئ واحد:- قولي له هناك على الشاطئ الآخر يدق الصهريج , ويرفض الموت في الصحراء.
-لا أفهم!!.
تململ في مكانه جمع بين كفيه ..وعلى بسمة انفرجت رموشه عن عينين واسعتين تحلمان بالرؤيا والشاطئ البعيد.
هتفت:- هو يعرف.
وأغرقت وجهه بالقبل لا أرغب له فراقاً , لكنه القرار أكبر من أن نتمهل عند لحظة ضعف أو انعطاف رغبة.
قبلت جبينها ..أحاطت بذراعيها حول رقبتي شدتنى إلى صدرها .. شدتني بكل قوتها ..وامتد الدمع روافد نهر يصب في البحر المتوسط .
همست:- تذرعي بالصبر , هو حلمك إلى جانبك , امنحيه عطفك ورعايتك.
هزت رأسها موافقة ..درت في مكاني .. وبدون أن أطرف اتجهت نحو الباب وخرجت..هبطت السلم على عجل , كانت حقائبي بالمرصاد.
وعبر الشارع الترابي سرت ومن معي.
وقبل أن تُغيبني الطريق..
تلفت خلفي ..
كانت تقف بالنافذة تحضن إلى صدرها وليدي.
لوّحت بيدها خفية ..
وغيبها الظلام .
ومن خلال تقدمة الكاتب لروايته والتي جاء فيها :-
( نعبر الدنيا مشرقها ومغربها ..
نبني من دمائنا ومشاعرنا مدناً كانت من قبل صحارى في الريح ..
نحيي في العقول التبصر بالعلم والمعرفة .
نزرع في ثنايا اليباب فيض الحضارة والعمارة ..
نفني عمرنا ..وشبابنا ..
نترك خلفنا نبضنا ..وشرياننا..
ونعود قافلين بحقيبة سفر ليس فيها سوى أمتعتنا القديمة )..
يتضح لنا أن كل ماورد هي رموز دالة لما يتركه المغتربون خلفهم في القفار من بناء واعمار , وفي النهاية يعودون كما اتوا خالي الوفاض .
ونستنتج من ذلك أن خدوج هي ليبيا , وأن فرج هو الامل القادم . وأن الطفل هو البنيان العظيم الذي شيده المغتربون في القفار البعيدة . وأن رواية وجهان في الذاكرة هي خلاصة عذابات الاغتراب وكل المغتربين على حد سواء .
رواية تستحق القراءة والتمعن .
قراءة في رواية الرحيل نحو الوجهة الاخرى
تاريخ النشر : 2022-07-24