صور من الماضي البعيد
تاريخ النشر : 2022-07-13
 بقلم: طارق ناجح

لا يدري لماذا تتردد أمام عينيه صور الماضي البعيد .. عندما كان والده ينصب شبكة الصيد لصيد العصافير و الحمام أمام العمارة التي تُحيطها الأشجار و الأراضي الزراعية من جميع الجهات و لا توجد أي مباني بجوارها سوى الجمعية الزراعية لقرية جزيرة أبو صالح بمركز ناصر محافظة بني سويف . لم يكن عُمره وقتها تجاوز الخمس سنوات .. كانت العمارة ، بلا شك سكن إداري حكومي للمغتربين العاملين بقطاع الحكومة .. فقد كان والده مثلاً يعمل كمراقب صحي بالوحدة الصحية بالقرية قادم من محافظة المنيا . كانت الشقة التي يقطنون بها بالدور الأرضي .. و كانت العمارة على ما يذكر مكونة من ثلاثة أو أربعة طوابق . مازال يذكر عندما كان يجلس مع أخيه ووالدته على سطح العمارة مع إحدى جارتهم في صباح إحدى أيام الشتاء طلباً للدفء و أشعة الشمس التي كان يُصِّر والده أن يتعرضوا لها يومياً لما تحتويه من فيتامين د ، و هي إحدى نعم الله علينا المجانية التي لا تعد و لا تحصى . مازال يذكر طعم العصافير المشوية و كأن مذاقها في فمه منذ البارحة. كان والده يأخذه و أخيه في جوالة قصيرة حيث يجلسون على مصطبة أسمنتية أمام أحد المباني ، أغلب الظن أنه حكومي و كانت تحيط بهذا المدخل سور صغير و أعمدة تُغطيهم بلكونة الدور الثاني ، و كان المنظر أمام هذا المبنى عبارة عن ترعة و طريق ترابي منحني لا يعلم إلي أين يؤدي .
تُرى لماذا تمر أمام عينيه تلك الذكريات التي مضى عليها أربعون عاماً .. هل هو حنين إلى الماضي البعيد .. ام أن رحيل أخيه الوحيد .. و إشتياقه له .. جدد حنينه و إشتياقه لأبيه و أمه .. لم يكونوا مجرد عائلة تربطهم صلة الدم التي لا نملك لها إختياراً .. بل كانوا كل عالمه .. كانوا أصدقائه و أحبابه الذين لم يُحِب ، و لن يُحِب أحداً مثلهم .رحل الأب و هو في الثامنة عشر ، و رحلت الأم و هو في الواحدة و الثلاثين ، و أخيراً رحل أخيه الحبيب الوحيد و هو في الخامسة و الاربعين من عُمرِه . خمسة و أربعون عاماً مضت عليه في هذه الدنيا و كأنها أربعمائة و خمسون عاماً . لم تؤثر فيه نوائب الدهر و تصاريف القدر بقدر ما أثر فيه رحيل أحبابه و حنينه و إشتياقه لهم . إنه حنينٌ و إشتياق لا يملك له صداً و لا يستطيع له رداً .. و لكنه يدعوا الله أن يجمعهُ بهم مرّٓة أخرى و لو ليومٍ واحد .. يرتمي في أحضانهم حتَّى يتلاشى و يصبح ذرات رماد يذروها الريح في جميع أرجاء المسكونة.