قصة قصيرة.. على الضفة الأخرى
تاريخ النشر : 2022-06-30
بقلم: محمد بوعنونو

كان إذا اشتد عليه الألم انزوى إلى ركن من أركان الغرفة، فانطوى على ذاته وتضوّر وجعا، يكتم آهاته ويخفي تنهداته شفقة على أمه الحنون التي لم يكن في أجرتها الهزيلة التي تتقاضها جرّاء تنظيف بيوت الجيران وملابسهم مقدار ما تذهب به إلى الطبيب.

ولأن للأم حاسة سادسة تدرك بها معاناة أطفالها، فإنه لم يكن يخفى عليها شلال الأسى المتفجر من كبد طفلها المسكين، ولا ذلك الضمور والهزال الساجي على جسده النحيف، فكانت تقدم له بين الفينة والأخرى هذا الترياق أو ذلك، مما تصفه النساء لأنواع الضعف والهزال، وتخصّه دون نفسها بما تتلقاه من فتات موائد الأغنياء من الطعام والشراب.

لكن الضعف كان يزداد يوما بعض يوم، والمرض يقتات على جسد الطفل المسكين، فلم يقو على التظاهر بالعافية رأفة بأمّه كما كان يفعل من قبل، وإنما أطلق العنان لآهاته وأسدل حجب الأسى والحزن على سحنته، مستسلما لعلّته مفوضا أمره لخالقه.تمزق كبد الأم المسكينة، فلم تتوان لحظة واحدة عن بيع سوارها الذي ظلت زمنا غير يسير تدخره لنوائب الدهر، وحملت ابنها إلى الطبيب ولسانها يلهج بالدعاء، والدموع تسيل على خديها في سكون رهيب، دون ما يتبع الدموع عادة من زفير وشهيق، وإنما هي عَبرات تترجم آلاف المواجع، وتعكس لجج الأسى والأسف، كانا وهما في الطريق يتبادلان نظرات ملؤها الحب والحنان، والفزع والخوف، والرجاء والأمل.

بعد الفحص تبين أن كِليتي الطفل قد توقفتا تقريبا عن العمل، وأن الأمل في الشفاء ضئيل بل منعدم، اللهم إذا حدثت معجزة، وبالتالي فإن الطفل قد وضع الرجل الأولى في عالم الآخرة. تلقت الأم الخبر كالصاعقة، فحُمِلت هي الأخرى إلى المستشفى في حالة حرجة جدا.في صباح اليوم الموالي وضع الطفل المسكين الرجل الأخرى في عالم البرزخ، ليلتحق بأمه الرؤوم التي كانت قد أسلمت الروح لخالقها ليلة تلقيها الخبر المفجع.وأشرقت شمس يوم جديد، وماج الناس بعضهم في بعض، وانغمس الأغنياء في الملذات دون أدنى تفكير فيما يدور في أكواخ الفقراء.