بقلم: سمير الددا
تتصدر تطورات غاز شرق البحر الابيض المتوسط قائمة الاحداث الكثيرة التي تعصف بالشرق الاوسط ويأتي على رأس هذه التطورات, العقد الذي تم توقعيه الاسبوع الماضي في القاهرة بين الاتحاد الاوروبي ومصر والاحتلال الصهيوني لتصدير الغاز الطبيعي من فلسطين المحتلة الى اوروبا بعد تسييله في مصر.
الاحتلال الصهيوني دأب منذ اكثر من سبعين عاماً على سرقة ونهب كل اراضي فلسطين وكل سمائها وهوائها ومياهها وبحارها وأنهارها وأشجارها وشمسها وقمرها وليلها ونهارها وتراثها وتاريخها وحتى آمال وأحلام ابناها وصولا الى غازها وبترولها, وكل هذا متوقع من عدو بلطجي تدعمه كل قوى الشر والظلم في العالم.
ومتوقع ايضاً ان يقوم بنهب ثروات ومقدرات الآخرين فهذا ديدنه وتعود عليه, ومتوقع ان تقوم اوروبا بمساعدته على ذلك فهي التي اوجدته ومدته بكل أسباب البقاء من مال وبشر وسلاح وغيره, ولكن الذي لم يكن متوقعاً ان تكون أكبر دولة عربية (مصر) جزءاً من عملية البلطجة التاريخية تلك وتقوم بمساعدة العدو الصهيوني الغاصب على نهب وسرقة وبيع ثروات وخيرات اشقائها, بل تشكل ممراً ووسيطاً لبيع للثروات الفلسطينية المنهوبة لصالح الصهاينة المغتصبين....!!!!!
ليست هذه المرة الاولى التي ترتبط فيها مصر مع الصهاينة بعلاقات مشبوهة في مجال الغاز, فقد كانت مصر تصدر الغاز للكيان الصهيوني بموجب اتقاقية وقعها الطرفان عام 2005 ولمدة عشرين عاماً بواقع 1.7 مليار متر مكعب سنوياً بسعر متوسط 1.1 دولار للمليون وحدة حرارية في حين كان سعر التكلفة يصل اى 2.65 دولار, أي ان الكيان المحتل كان يحقق ارباحا تزيد عن 150 مليون دولار سنوياً من هذه الاتفاقية في الوقت التي كانت فيه مصر في أمس الحاجة لكل دولار, فقد كانت حينها ترزح تحت وطأة ديون تجاوزت السبعين مليار دولار.
والأدهى والأمر, ان الامر لم يقف عند هذا الحد, بل قامت مصر بتوقيع اتفاقية "عجيبة" مع الكيان الصهيوني في فبراير 2018 مدتها 10 سنوات تستورد منه بموجبها غاز بقيمة 15 مليار دولار....!!!!!,
هذا, ووفقاً لمصادر مطلعة فان مصر في نطاق هذه الاتفاقية تقوم عملياً بإعادة إستيراد كميات الغاز التي كانت تصدرها للكيان المحتل بأسعار بخسة ولكن بالأسعار الدارجة في اسواق الطاقة العالمية والتي تجاوزت 6 دولارات لكل مليون وحدة حرارية مما يعود على الصهاينة بمليارات الدولارات من فارق الاسعار الكبير....!!!!.
الدول الاوروبية كتابعة للولايات المتحدة لا تدع وسيلة لدعم الكيان الصهيوني إلا واقدمت عليها, والاتفاقية التي تم توقيعها الاسبوع الماضي كما اشرنا تأتي في هذا السياق, رغم انه تم تسويق هذه الاتفاقية في اطار رغبة اوروبا في التحلل من أعباء خضوعها لامدادات الغاز الروسي وما يتبعها من سياسات روسية قد تتعارض مع السياسات الاوروبية, وأوضح مثال على ذلك عدم استطاعة الدول الاوروبية فرض عقوبات على قطاع الطاقة الروسي (وان كان ذلك رغبة امريكية أساساً).
قد يبدو السلوك الغربي في هذا الملف مفهوماً في ظل العملية العسكرية الروسية في اوكرانيا واستغلال الولايات المتحدة لهذا الظرف الدولي الطارئ وحشد الكثير من قدراتها وتجنيد حلفائها والكثير من قدراتهم كذلك لاستنزاف مقدرات روسيا بهدف تقويض امكانيات موسكو الاقتصادية والعسكرية (على وجه الخصوص) بهدف كبح جماحها عن منافسة واشنطن في الهيمنة على العالم عسكرياً.
تجدر الاشارة الى ان العقوبات الامريكية الغربية على روسيا تسببت في ارتفاع اسعار الطاقة بصورة كبيرة مما عاد بالفائدة على الدول المنتجة للطاقة وفي مقدمتها روسيا التي حققت منذ بداية العملية العسكرية الروسية في اوكرانيا في الفترة من 24 فبراير الماضي وحتى اواخر هذا الاسبوع مبالغ اضافية نتيجة ارتفاع الاسعار الغاز والنفط تجاوزت 100 مليار دولار, في حين اضطرت الولايات المتحدة خلال نفس الفترة الى رفع سعر الفائدة 3 مرات (وهذه تعد سابقة تاريخية) في محاولة منها لكبح أعلى نسبة تضخم تشهدها منذ اربعة عقود تقريباً وهذه مؤشرات جلية الى فشل تلك العقوبات في تحقيق اهدافها.
ميدانياً, الازمة التي فجرها الكيان الصهيوني شرق البحر المتوسط بشروعه في علميات استكشاف بحرية في منطقة متنازع عليها بين الكيان الغاصب ولبنان أججت الاجواء في تلك المنطقة وتنذر ببوادر حرب (غاز) تلوح في الافق على الساحل الشرقي للمتوسط بعد التصعيد الاستفزازي بالبدء الفعلي بالتنقيب واستكشاف الغاز والنفط في حقل كاريش البحري المتنازع عليه بين لبنان والصهاينة وذلك بعد وصول سفينة تنقيب عن الغاز والنفط لصالح الصهاينة قبالة الشواطئ اللبنانية, مما اثار حفيظة الدولة اللبنانية ورئيسها العماد ميشال عون الذي استنكر وشجب وأدان ولم يعره الصهاينة أي اهمية, الى ان خرج حسن نصر الله أمين عام ابرز فصائل المقاومة اللبنانية (حزب الله) (بغض النظر عن اتفاقنا او اختلافنا مع سياساته) وصرح بكل وضوح ان حزبه لن يقف مكتوف الايدي امام سرقة الصهاينة للثروات اللبنانية وانه قادر على ايقاف هذه البلطجة الصهيونية...!!!! هنا اختلفت المعادلة صهيونياً ولبنانياً.
صهيونياً, قامت الدنيا ولم تقعد, فهدد كلا من رئيس الوزراء الصهيوني نفتالي بينيت وزير دفاعه بيني غانتس ووزير ماليته افيغدور ليبرمان ورئيس اركانه افيف كوخافي وغيرهم, ولكن كانت تهديداتهم كنباح كلاب الحراسة من بعيد لبعيد, ولكن ميدانياً, وردت تقارير من سواحل المتوسط الشرقية تفيد بتجميد او إبطاء في وتيرة العمل هناك وتزامن ذلك مع الاستنجاد بما يسمى الوسيط الامريكي عاموس هولشتاين الذي هرول الى المنطقة بعيد تهديدات المقاومة, وهذا الوسيط "عاموس" في حقيقته صهيوني حتى النخاع ويحمل جنسية الكيان الغاصب وخدم في جيش الاحتلال الصهيوني لعدة سنوات في التسعينات في قطاع غزة والضفة الغربية وما زال في الاحتياطي, أي انه وبهذه المواصفات يعتبر طرفاً وليس وسيطاً ولكنه زمن الهوان العربي, يفرض علينا اعداؤنا ما يرون وليس بمقدورنا الاعتراض.
سياسياً, عزز هذا التطور مكانة وشعبية حزب الله (بعد ان فقد الكثير منها اثر تدخله في سوريا واثر انحيازه للرواية الايرانية على حساب الرواية العربية) بعد ان ظهر بمظهر من يحرص على ثروات لبنان ومصالحه وانه على استعداد للذهاب بعيداً في سبيل ذلك,ونجح حتى هذه اللحظة في منع الصهاينة من سرقة الغاز والنفط اللبنانيين, في حين ان خصومه السياسيين لم يكن لهم مثل هذا الموقف القوي في هذا الظرف الوطني الحساس ولم يكن بمقدورهم القيام بما قام به.
الوضع الاقتصادي المزري الذي يعيشه لبنان ربما يضفي على ملف الغاز اهمية استثنائية, اذ يرى معظم المراقبين ان هذا الغاز الذي تقدر قيمته بحوالي 600 مليار دولار ربما يشكل الامل الوحيد لانقاذ لبنان من جميع ازماته الاقتصادية, وابرزها ديونه التي بلغت حوالي 100 مليار دولار في حين ان ناتجة القومي الاجمالي لعام 2021 لم يتجاوز 22 مليار دولار حسب تقرير للمرصد الاقتصادي اللبناني صدر في الخريف الماضي, هذا بالاضافة الى مشكلة الكهرباء والماء والبيئة والتضخم وانهيار قيمة الليرة وارتفاع الاسعار الحاد الذي عصف بجميع القطاعات.
هذا, ومن جهتها الولايات المتحدة ترى انه في الامكان ان يكون الغاز الفلسطيني المنهوب بديلاً للغاز الروسي وفرصة ثمينة لتخليص أوروبا من التبعية الجزئية لموسكو ولو في مجال الطاقة وترى ايضا ان تقليص إمكانيات التقارب الاوروبي الروسي الى ادنى مستوى ممكن هو مصلحة امريكية بامتياز, لان واشنطن تعتبر أوروبا بغربها (والى حد كبير شرقها) منطقة نفوذ امريكية, وأي تقارب روسي اوروبي سيكون على حساب النفوذ الامريكي بالضرورة.
الاحتلال الصهيوني من جهته يريد هو الاخر ايجاد مكانة عالمية له, ويريد تسويق نفسه انه رقم مهم في سوق الطاقة العالمي الفائق الاهمية بعدما اعتقد انه اوجد لنفسه مكانة اقليمية بعد توقيعه اتفاقيات تطبيع مع بعض دول المنطقة.
مصر هي الاخرى تعتقد ان هذا الاتفاقية ستدر عليها دخلاً كون اراضيها ستكون ممراً للأنابيب الناقلة للغاز الفلسطيني المنهوب والتي سيتم تسييله ايضاً ومن ثم شحنه من الموانئ المصرية الى أوروبا وفي الوقت نفسه ترى القاهرة ان ذلك سيعزز علاقاتها مع كلا من اوروبا والولايات المتحدة والكيان الغاصب.
روسيا التي راقبت ما يجري في القاهرة اعتبرته عملاً موجهاً ضد مصالحها في اوروبا وعلى الارجح لن تغفر لاطرافه بعد ان تضع عمليتها العسكرية في اوكرانيا اوزارها, وستكون عواقب هذه الاتفاقية غير مستحبة لاطرافها وخصوصاً اذا خرجت روسيا من تلك العملية العسكرية محققة كل اهدافها بنجاح وهذا هو المرجح حسب كافة المؤشرات.
الاتفاقية المشار اليها يشوبها الكثير اقتصادياً وسياسياً, اولاً اقتصادياً, لان تكلفة الغاز الروسي الى اوروبا اقل بكثير من الغاز الفلسطيني المنهوب, لانه يتم ضخ الغاز الروسي كما هو مباشرة عبر انابيب من مصادر استخراجه الى المستهلك الاوروبي وبدون أي تكاليف تذكر, في حين ان الغاز الفلسطيني المنهوب يحتاج الى نقل الى مصر ومن ثم الى عملية تسييل (تحويله الى سائل) ومن شحنه على سفن خاصة الى اوروبا ومن ثم اعادة نحوياه الى حالته الغازية قبل اتاحته للمستهلك وهذه تكاليف اضافية قد تتراواح ما بين 15% الى 25% على سعر الغاز الروسي, وهذا اقتصادياً قراراً غير صحيح.
سياسيأ, تهدف الولايات المتحدة وأوربا من تلك الاتفاقية الى الضغط على روسيا مالياً بوقف تدفق غازها الى اوروبا وبالتالي حرمانها من مئات مليارات الدولارات بهدف إجبارها على وقف عملياتها في اوكرانيا.
المقاومة اللبنانية كانت واضحة, انه لن يسمح للكيان الصهيوني باستخراج الغاز ما لم يتمكن لبنان من استخراج غازه هو الاخر, وكان ابرز فصائل المقاومة اللبنانية (حزب الله) واضحاً جداً انه لن يقف مكتوف الايدي حيال ذلك....اي ان قرار اندلاع حرباً بين لبنان والكيان المحتل مرتهن بالسلوك الصهيوني حيال ملف غاز حقل كاريش.
اخر الكلام:
الصهاينة يخافون ولا يختشون, وهم يدركون جيداً ان اول صاروخ من صواريخ المقاومة اللبنانية على منصات غاز شرق المتوسط كفيل بهروب كافة المستثمرين والمستكشفين, لذا على الارجح انه لن يتم تصدير أي جرام من الغاز الفلسطيني المنهوب قبل التسوية مع لبنان واسترضائه.
واخيراً, غاز قطاع غزة هو الغائب الاكبر عن هذا المشهد, لم يأتي أحد على ذكره لا من قريب ولا من بعيد, رغم ان هناك عقودا موقعة بين الحكومة الفلسطينية وشركات عالمية وعربية في هذا الشأن من بينها شركة بي جي البريطانية عام 1999 وأخرها في فبراير العام الماضي مع الشركة المصرية القابضة للغازات (ايجاس) لتطوير حقل مارين على شواطئ قطاع غزة.....!!!!, يبدو ان مصر فضلت التعامل مع الغاز الذي ينهبه الصهاينة على ان تشرع في تطوير غاز قطاع غزة....
كم هو مؤلم جور الشقيق...!!!
غاز المتوسط... صوت حرب وملمس سياسة
تاريخ النشر : 2022-06-21