وداعًا مظفر النواب
تاريخ النشر : 2022-05-21
بقلم: خالد أبوستة




- كانت الدعوة مقدمة لي من أحد الأصدقاء لحضور أمسية شعرية للشاعر محمود درويش .
لم أتردد كثيرا ..
" حاضر .. سأصل غدا الى الشام ( دمشق ) "
دمشق عاصمة قابلة للعشق
مدينة صوفية أموية بجدارة...
عربية تركية رومية الملامح .
عاصمة تشعر معها بأنك على قيد الحياة رغم موت مشاعرك.
كلما مشيتُ في شوارع دمشق سرقتني الذاكرة وأفقد بين جدرانها بوصلة الوطن .
حين أسير في أزقتها الضيقة وبين بيوتها المتعانقة كعشاق أخر الليل أشعر أنني خارج التاريخ والتصنيف .
في دمشق أكون مجرد بيت شعر في قصيدة لم تكتب بعد .
كعادتي حين أزور دمشق أذهب إلى مكاني المفضل " مقهى الهافانا " في وسط المدينة صومعة الشعراء والثوار والمنفيين .
انتظرت صديقي و كعادته السيئة تأخر عن موعده ..
أخذت أقرأ كتاب " لا أنبياء لا شياطين " للصحفي التونسي الصافي سعيد ..
وبينما أتابع صفحاته شاهدته أمامي ...
وجه أسمر ذو جذور هندية. خطوط السنين قد غزت ملامحه إلا أنه يحتفظ بما تبقى من قامته الشامخة .
أعرف هذا الوجه !
ترى أين شاهدت تلك الجبهة ؟
أعرفه جيداً لكن من أين ؟
هل هو صديق والدي ؟
هل هو مدرس تتلمذت على يديه ؟
حاولت أن أعصر الذاكرة المليئة بأحداث عبثية لا قيمة لها ولم أستطع تتذكر هذا الرجل .
ارتبكت وأرتبك هو حين شاهدني أحدق فيه .
ابتسم وواصل شرب فنجان قهوته ولسان حاله يقول "هو مجرد أحمق يعرفني ولا يعرفني " .
لم أحتمل هذا الصراع ..
ناديت على (الجرسون) وسألته كأبله كي لا أثير الريبة وأنا أشير نحو الرجل الغريب ...
( هل هذا الرجل أيمن زيدان الممثل المشهور ؟ )
ضحك وقال لا يا أستاذ .. أنه مظفر النواب ... الشاعر العراقي المعروف .
حينها ضربت كفي على جبهتي التي تشبه الحذاء
انتفضت من مكاني متجها نحوه كتلميذ بوذي ..
لم ألقي التحية ...
فقط وقفت أمامه عاري من كل الذكريات مردداً تلك الجملة التي أذكرها تماما حتى هذه اللحظة ...
" سيدي وأستاذي مظفر ..
يا من لعنتنا أمام الصحراء العربية
وبكيت وأبكيتنا أمام خيمة مغتصبة
وعايرتنا على الصمت نحن أبناء القــحـ...
اسمح لي أن اقبل تلك الجبهة المنتصبة في زمن الجبهات المنكسرة ..
اسمح لي سيدي أن ارددت خلفك ....
"يا وطني المعروض كنجمة صبح في السوق
في العلب الليلية يبكون عليك
ويستكمل بعض الثوار رجولتهم
ويهزون على الطبلة والبوقْ
أولئك أعداؤك يا وطني"! .
وقبل أن انهي قصيدته استوقفني بإبتسامة غير مبالية
ورحل كناسك لا تغريه الكلمات .
لكنه في الحقيقة لم يرحل من الذاكرة