حوار مع الشاعر التونسي طاهر مشي
تاريخ النشر : 2022-05-18
حوار مع الشاعر التونسي طاهر مشي


حاوره الناقد التونسي محمد المحسن

حين يرتحل بك الشاعر التونسي الفذد-طاهر مشي إلى مجاهل الذات في مزيج من الشعر والسرد..


"النص الإبداعي في تجلياته الخلاقة-لا يتشكّل لديَّ إلاّ بوصفه استجابةً جماليةً بالغة التعقيد لعاملين متداخلين:لحظة الحياة ولحظة الشهادة عليها.ضغط اللحظة الواقعية،كونها الباعث الأول على القول،وضغط اللحظة الشعرية،بما تشتمل عليه من مكوناتٍ ذاتيةٍ وثقافيةٍ وفنية..(د-طاهر مشي)
*القصيدة المشتهاة هي التي تسكننا ولا تفارقنا مدى الحياة ،في كل مرة نكتبها نقول لا ليست هي ، ونبقى نبحث عنها بين طيات أفكارنا وذاكرتنا حتى ولو عشناها،القصيدة ” المشتهاة “هي نداء الروح العميقة التي لا تأججه إلا الكتابة،فهي تمنحنا الحياة للبقاء على ناصية الفرح،كلما ضاقت بنا سبل الدنيا،نبحث عنها بين طيات الحروف،ربما كتبتها ..لكنني أبقى أبحث عنها حتى لا أضيع بوصلة الفرح في حروفي.." (د-طاهر مشي)
*"الشِّعرَ لغةٌ في أَزهَى صورِها.الشِّعرُ حليبُ نهدِ اللُّغةِ" (روبرت كراوفورد).
يصاحب الحرف والقلم-في حله وترحاله،ليكتبَ للفرح والشجن..يصافح الورق بين بهجة وألم،في رحاب عشقه للأرض والوطن والمرأة والإنسان..حسن العبارة وينحتها فتستحيل تحفة فنية مدهشة..بالتحرر يحلم،لا يوقفه بطش ولا وهن.
تأخذنا عباراته نحو الأعماق،فنلمس الوجع و الأمل وكذا عشق الحياة والمرأة والإنسان،ومن إحساسه ننهل الحنين و الأشواق..
كلماته في عرض الوجع أطواق،تحملنا نحو اشراقة لا بد لها أن تكتمل-وحتما ستكتمل-،
هو الشاعر الشاعر التونسي الذي ذاع صيته في أرجاء الوطن العربي وخارجه-د-طاهر.مشي
يقول في حديث-مقتضب-معي،وأزعم أني-سرقت منه-بضعة كلمات مازال رنينها يداعب شغاف قلبي..فالرجل يسكنه الشعر،ويمتلكه-قسر إرادته-القلم-وتحكمه بالتالي إمبراطورية-عمياء-لا ترى النور إلى حين ينبلج صبح القصيدة..
*"بانتمائنا للمكان،بملامسة الحياة،سنجثوا على أثر ابتسامة ركبها المجهول في رحلة تفتيشها عن عنوان اطمئنان..باحتضاننا السماء،و تقبيلنا الأرض،سنواصل نحو ذاك الحلم..بتأبّطنا الحرية بنزفها المتهاطل،و الماسح لكل حزن،لن نبحث عن الصرخة الضائعة في غياهب الظلم،سيقطف وجداننا تربة الرحيل و سيحمل كل المسافات،عندها ستصغر أيها الألم،فما عاد العمر يثمله صهيلك،و ستبقى أيها الوجع تنتحب على أنقاض الأنين،فيعود الياسمين لحقول الوطن و جناحاته محمّلة بالحب والسلام والحنين الوقّاد لكل ماهو جميل في هذا الكون الفسيح..بحبر الرّوح ودم القصيدة..سنمحو هذا الخراب الذي يسكننا.. "
سألته-سؤال مخاتلا-:"كيف تنظر إلى خريطة الشعر العربي اليوم؟ومَن من الشعراء جذب اهتمامك وشعرت عبر أعماله بنكهة التجديد والأصالة والعمق؟
فأجاب دون تردد :
*"-خريطة الشعر العربي ما زالت واضحة المعالم على الرغم من محاولة بعض المتشائمين طمسها،فللخارطة رموزها وتضاريسُها الإبداعية،وهناك شعراء رواد شكّلوا قمماً إبداعيَّة لهذه الخارطة لا تطالها رياح التعرية المحملة بغبار العولمة،من أمثال السياب والبياتي والفيتوري والماغوط وصلاح عبد الصبور والجواهري.. وغيرهم."
ثم أردفت سؤالي بسؤال فأنا-بكل تواضع ودون نرجسية عمياء-لا يعتريني الكلل والممل حين أحاور قامات شاهقة في الشعر بحجم د-طاعر مشي:
-كيف يقيّم د-طاهر مشي-حركة الشّعر الحديث؟
*"هي حركة،كما التي نعرفها مسطرة في كتب التاريخ الروحاني للإنسانية،تشتمل على الجيد المُغاي،والسيئ الرديء،والزمن سيكونُ حاكماً عادلاً يفرزُ ويفصل،ويحكم بالإستمرار والخلود لكل ما يستحق ذلك،الجميل في الحركة الشعرية الجديدة أنها تنحى منحى تجريبي يُنتج أحياناً ما هو مُدهشْ،وقادر على التواصل مع روح عالم جديد،ومُستمر في تجدّدهُ،والشّعر كذلك."
- كيف تتصور آفاق المشهد الشعري العربي في المستقبل في ظل هيمنة التكنولوجيا،وكثرة التحديات؟
*"هناك أصوات شابة وقصائد جيدة في العالم العربي.وليس المشكل في المشهد الشعري، بل يكمن المشكل في المشهد النقدي فهو غير قادر على مواكبة كل المنجز الشعري، وحتى عند ما يواكب، فهو يكون نقدا صحفيا، وأحيانا يكون نقدا قطريا ضيقا يهتم بشعراء بلد معين دون تلك النظرة الشمولية التي تستحضر خصوصية الكتابة الشعرية العربية في كل الأقطار العربية.
وأحيانا يكون نقدا مخصصا للشعراء النجوم. وهذا لا يليق بالمتابعة النقدية الجادة. حيث إن هناك محاولات شعرية وشعراء مشتتين في العالم العربي، تستحق تجاربهم أن يعنى بها النقد ويواكبها دراسة وتحليلا وكشفا لخصوصياتها."
وبسؤال مغاير سألته علني أظفر منه بجواب يشفي الغليل..:
حين أنادي في هدأة الليل:”أيا شاعرنا القدير-د-طاهر مشي “أيكون في النّداء معان قويّة كتلك التي قالها الفلاسفة عن شعر هولدرلين؟-
وكان جوابه هذه المرة مربك وينم عن دراية عميقة بمفاصل الشعر العربي الحديث،إذ يجيب:
*"لأنني لازلت أجهل-د-طاهر مشي--لم يحدثْ أن فعلتها.ولكنني دائماً ما أقرأهُ بوضوحٍ على البياض،ذاهباً به نحوَ اعترافاتٍ أعمق،كي يتسنى لي قراءتهُ بشكلٍ أوضح.حينَ أعرفهُ تماماً،وقتها سوف أفعل،وأخبرك ما إذا كانت معانٍ قويّة كائنة في ندائي عليه،أم لا،دون تشبيهٍ بأيّ آخرْ."
-القصيدة امرأة غجرية مهذبة خائنة لجميع المواعيد المرتبة معها،كيف تلسع هذه الخيانة متخيلك بعد انتظار مخيب للأمل؟
*"جميلٌ وصفُكَ القصيدةَ أَنَّها امرأَةٌ غجريَّةٌ مهذَّبةٌ، لكنَّها لا تخونُ مواعيدَها معَ شاعرِها. صَحيحٌ أَنَّها تأْتي بتوقيتِ موعدِها الَّذي تختارُه دونَ تنسيقٍ مُسبقٍ مع شاعرِها،لكنَّها تأْتي.المُهمُّ أَنَّ على الشَّاعرِ أَن يكونَ جاهزًا لاستقبالِها في أَيَّةِ لحظةٍ، على الأَقلِّ لاستقبالِ إِشراقتِها،وإِلاَّ فإِنَّها ترحلُ سريعًا إِنْ لم تجدْهُ،وهذا طبعُها الَّذي لا يستطيعُ أَيُّ شاعرٍ مبدعٍ أَن يُغيِّرَه."
أذكّرك أيها القارئ الكريم بما يلي : حين أحاور شعراء معروفين على الساحة التونسية والعربية أمثال الشاعر الألمعي د-طاهر مشي،أستلّ قلمي من-غمده-أبسمل،ثم أشحذه جيدا،وأخوض بالتالي "معركتي" التي طالما أخرج منها خاسرا..لكن هنالك هزائم هي إنتصارات،كما هنالك أنتصارات أكثر إيلاما من الهزائم،وأعتقد-جازما-أنّ-طاهر مشي-أجبرني على -رفع الراية البيضاء..-
-يتشكّل -النص الإبداعي- لديك.انفعال،عزلة،انكسار،أم لحظات صفاء ؟؟
ردا على هذا السؤال يقول -محدثي-د-طاهر مشي-:
*"النصّ يتشكّل من مجموع هذا وذاك،بمعنى أنّ حالة الكتابة تكون تتويجا لإرهاصات تقدّمت عليها بصمتٍ بالغٍ،وترقُّبٍ مصحوبٍ بارتفاع تأمُّليّ.ما يهمُّني هو اللذّة التي تنتجُ عن هذا الكلّ،باتصالي مع عمق ذاتي والبُعد الإنساني اللذين تنصهرُ بهما الأشياء والأسماء والأفعال..إلخ جماليةً بالغة التعقيد لعاملين متداخلين : لحظة الحياة ولحظة الشهادة عليها.
ضغط اللحظة الواقعية،كونها الباعث الأول على القول،وضغط اللحظة الشعرية،بما تشتمل عليه من مكوناتٍ ذاتيةٍ وثقافيةٍ وفنية.
في اللحظة الثانية تتجلّى فاعلية التشكيل السردي-مثلا-حين يتلقّف اللحظة الواقعية،أو لحظة الانفعال بالحياة التي لا تزال مادةً خاماً،ليلقي بها في مصهره الداخليّ،ويعرّضها لانكساراتٍ عديدةٍ،وتحولاتٍ جمّة،حتى يخلصها من شوائب اللحظة ومن تلقائيتها الساذجة،أو غبار اندفاعها الأول المتعجل.
ويظل النص الإبداعي:شعر..نثر..قصة..رواية..إلخ في تشكله ملتقى كلّ رفيفٍ روحيّ أو لغـويٍ: اللذةُ وشحنةُ العذاب،الذاتُ والعالم،حركةُ الحياة ونضحُ المخيلة."
-كاد-د-طاهر مشي أن ينصرف بعد أن أرهقته-نسبيا-بأسئلتي الملحاحة لولا خجله النبيل ودماثة أخلاقه العالية،إذ استجاب للرد عن سؤالي الأخير..:
-أولا: ما هو رأيك بالنقد الآن،وهل واكب مسيرة الشعر التي نشهد فوراناً لها منذ سنوات قليلة..؟ ثم ثانيا :كيف تتجلّى صورة المرأة في قصائدك..؟
*"ما يثير الحزن حقا هذا التراجع والنكوص الذي يعرفه النقد الأدبي في جامعاتنا وأوساطنا الأدبية،فالمشهد اليوم يبدو فقيرا لغياب مدارس نقدية عربية حقيقية،في المقابل يمكننا الاستشهاد بالتجريدية الأوروبية والسريالية والبنيوية والتفكيكية وغير ذلك،أما التراث العربي القديم فإنه مليء بالشواهد التي ما زلنا نستنزف قواعدها..لقد أصبحت المناهج القديمة مستهلَكَة تكرر نفسها دون أن نجد نقدا حقيقيا للنصوص الشعرية مما شجع-كما أشرت-على انتشار الرداءة والإسفاف والشعر الهابط ،ومن ثم كان على النقاد (وأنت واحد منهم-قالها بإبتسامة هادئة) أن يقوموا بأدوارهم وأن يصطفوا جنبا إلى جنب مع الأدباء والشعراء لأن الشعوب المغلوبة في وطننا العربي تعول عليهم في قراءة الواقع ونقد مساراته،وهنا يبدو دور الجامعات المتخصصة في دمج الأدب المعاصر بالعمل الأكاديمي وتفعيل دور النوادي الأدبية والمؤسسات الثقافية المعنية لأن التغيير لا يحدث إلا بشكل جماعي.."
بخصوص سؤالك الثاني حول تجليات صورة المرأة في قصائدي أقول :
"أَعلى دَرجاتِ التَّجلِّي الشِّعريِّ أَن تكونَ المرأَةُ/ الأُنثى هيَ القَصيدة. في الكتابةِ الشِّعريَّةِ تكونُ هيَ في كلِّ شيءٍ؛ هيَ الحاضرةُ الوحيدةُ، حتَّى لو كانت كخلفيَّةٍ، أَو صورةٍ مائيَّةٍ، في القَصيدةِ.
تأْنيثُ القصيدةِ،أَو تأْنيثُ أَشيائِها،باتَ نمطًا/ ظاهرةً في شِعري،حيثُ أُحسُّ،دونَ عَمْدٍ،أَنَّني أَلجأُ إِلى تأْنيثِ الأَشياءِ لإِثراءِ مُحاورتِها،وفَتحِ مَغاليقِها الفاتنةِ،وإِشاعةِ الرُّوحِ الإِيقاعيَّةِ فيها، بوساطةِ لُغةِ الحواسِّ؛اللُّغةِ الأَكثر لياقةً وأَلَقًا للشِّعرِ، والمرأَةُ/ الأُنثى-القصيدةُ هيَ أَكثرُ ما تليقُ بها لغةُ الشِّعرِ هذهِ.
كثيرًا ما نعرِفُ من الشُّعراءِ أَنَّ المرأَةَ في قَصائدِهم هيَ الأُمُّ، الزَّوجةُ، الأُختُ، الابنةُ، الحبيبةُ... الخ. كلُّ واحدةٍ من هذهِ تدلُّ على دَورٍ لها في الحياةِ. في القَصيدةِ أَرى أَنَّ المرأَةَ/ الأُنثى، تكونُ في أَيِّ نصٍّ شِعريٍّ، ليسَ أَقلَّ من كَونِها حارِسةَ الجمالِ فيهِ، إِنْ لَمْ تكُنِ القصيدةَ ذاتَها، لذَا أَعمدُ إِلى أَن يكونَ التَّأْنيثُ،حتَّى في الأَشياءِ،لأَرَاها خارجَ دَورِها العاديِّ في القصيدةِ/ الشِّعرِ.
قلتُ ذاتَ قصيدةٍ :
في حضرة عينيك
قد بات قلبي في مداها واستقرْ
يهمى دروبي في روابيها انتشرْ
في مقلتي قد صابني سهم النوى
إذ ثار بركاني وبالنار استعَرْ
فتردد الأوصال من عزفي شذا
والشوق تؤويه الضلوع لمستقَرْ
يا بسمة الثغر الذي نطق الهوى
في حضنك الأيام تلهو والقدرْ
ومسافرٌ شوقي على طول المدى
أذروه دمعًا من عيوني ما انهمَرْ
في وصلك المشتاق ما رام الجفا
والنبض مبتور وأشقاه السهرْ
يا موطني فالزهر يسقيه الندى
تعلوه أشواق الغرام فما انكسَرْ
جئت المجير لحبنا أبغي الرضا
جئت السلام لعشقنا طول السفَرْ
ردي إلى قلبي السلام وصافحي
يكفي جفاءً فالهوى نبضي بترْ
بهذه الأسئلة أكون ربّما قد سلطت ضوءا أكثر على الشاعر التونسيالقدير د-طاهر مشي وجعلته أقرب إليكم..أرجو لشاعرنا المزيد من الإبداع والنجاح..
ولمزيد الغوص في هذه الشخصية الأدبية وأعمالها يمكن العودة إلى الموقع الإلكتروني الخاص بالشاعر الطاهر مشي.