ماذا نفهم برحيل شيرين؟
تاريخ النشر : 2022-05-14
ماذا نفهم برحيل شيرين؟


بقلم: بكر أبوبكر

 

لابد أن المتابع للاعتداءات الصهيونيةالتي لم تتوقف على فلسطين وأهلها منذ النكبة أي منذ 74 عاماً حتى اليوم لم يملّ منالنظر لجحافل الثوار الأفذاذ، والمقاومين والشهداء والأسرى والجرحى حتى مع طغيانوسائل التواصل الاجتماعي التي أُريد لها تفسيخ النسيج، وتنميط الناس، واللهو بعيدًاعن القضايا الكبرى.

 

إن المتابع للاعتداءات الصهيونية التيلا تتوقف في العقد الحالي من القرن21 يرى أن الشهادة أصبحت لدى الفلسطيني طريقةعيش، كما المقاومة والثبات في الأرض وذلك رغم تغير أسلوب النضال وتفرّق الفصائل أوتعبها،وانتحار الوحدوية البرامجية.

 

قلّما اجتمعت أمة على شخصية من خارجقياداتها السياسية أو العسكرية أو الفكرية الثقافية لأن هؤلاء هم من يصنعونالفلسفة والفكرة والبرنامج ويبنون العقول ويُدخِلون الصناعات لحيز التنفيذ فيُحبهمالشعب ،أو يسخط عليهم وينبذهم، وفي الحالتين لاينساهم.

 

عايش الكثيرون في التاريخ الحضاريالعربي الاسلامي-المسيحي الحديث احتفاءً عظيمًا بالقادة من السياسيين والرؤساءأمثال جمال عبدالناصر وبن بيلا وياسر عرفات والملك فيصل وصباح الاحمد وغيرهم.

 

كما رأينا الاحتفاء -بحياتهم أو موتهم-لقامات ثقافية أو فنية أو فكرية كبرى في عالمنا العربي الرحب والمتميز .

 

ولكن أن نجد على غير المعهود احتفاءًباعلامي أو إعلامية شرسة مثلما حصل باستشهاد شيرين أبوعاقلة فإني أظنها سابقة هامةتؤسس لمفاهيم جديدة، على صُناع الفكر والسياسة والثقافة ان يعُوها جيدا.

 

فماذا نفهم من استشهاد شيرين أبوعاقلة؟

 

لم يكن أحد يعلم أنها مسيحية أو أمريكيةأو حتى أنها مقدسية، وكان العلم الغالب هو أنها وطنية فلسطينية مقدسية تمسّكتبالجذور وتحصّنت بالثبات على أرض السرمدية فلسطين، وأبرزت للعالم بالصوت والصورةوالنموذج بهاء فلسطين واشراقة المناضلين الفلسطينيين دون ضجيج أو تنظير أو كلامكثير وممجوج يصاحب صُنّاع الانتصارات الفارغة من كَذَبة السياسة أو محبي كراسيهموالصور، ومأفوني الأحزاب الميتة.

 

شيرين أبوعاقلة ولمن لايعلم فاسمها منأصل شرقي فارسي أي من قلب منطقتنا المتميزة عن هيمنة الغرب التنميطي، ويعني اسمهاالحلوة أو العذبة. وهي كما قال عنها زملاؤها كانت كذلك ولربما ببساطة وصدق كلماتهاودون تنميق قد تكشفه القمره (كاميرا) أسَرَت قلوب الملايين.

 

لا ينكرُ أحدٌ أن لقناة الجزيرة فضلٌ فيأن تدخل شيرين كل بيت -رغم تحفظنا أو اختلافنا مع أو عن كثير من سياسات هذه القناةفي كثير من الأوقات-ولكن الأهم هو ما كان من وطنيتها النابضة وصمودها وبساطة ووضوحودقة طروحاتها فتربعت شيرين على عرش القلوب.

 

تحركت شيرين مصطحبةً فلسطين، فكانت فيكل مكان.

 

كانت نبيهة في نقلها للحدث ومنحازةللحق. فلا موضوعية مُدّعاة بتاتًا مع الحق، والانحياز للحقيقة واجب.

 

وما حقُ فلسطين وعدالة قضيتها إلا الحقالمُبين، والعدالة بعينيها المعصوبتين.

 

جذّابة في حديثها وفي نقلها للحدث، ومِقدامةوصادقة، فلم تحتج أن تنشد القبولَ الذي أسبغه عليها الناس بتلقائية وحفاوة ومحبةغامرة.

 

إن شعب فلسطين وكما كان يردّد الخالدأبوعمار أكبر من قياداته، وهي من هذا الشعب وكانت أكبر من قياداته، وأثبتت حيةوميتة أن بامكانها أن تصنع ثورة.

 

تعليقًا على الاعتداء على جنازة عروسفلسطين قال أحد الساسة الأوربيين وهو النائب البلجيكي سيمون موتكان: "لن أشارك صور الجيش الإسرائيلي وهو يضرب حاملي نعش شيرين أبوعاقلة، لن أقول هنا كيف يتحول اشمئزازي إلى غضب، وغضبي إلى غضب. سأتذكر فقط أن عنف الاحتلال والاستعمار والفصل العنصري هو الذي سمح لهمبتعنيف الفلسطينيين منذ عقود.

إنه أيضًا عنف صمتنا ، صمت حكومة بلدي،بلدي الأوروبي . أنا أشعر بالعار ، لقدمللت ، وعاشت فلسطين حرة".

 

قال المفكر العربي العراقي فاضل الربيعيمفتخرًا في وداع البطلة: "أعظم شعب ثوري في التاريخ البشري شعب فلسطين هذهانتفاضة شيرين".

وقال الاعلامي يوسف الريماوي ما قلّودلّ:"شيرين 10، "اسرائيل" صفر."

 

وكتب المفكر هاني المصري معلقًا علىاعتداء الصهاينة على جنازتها في القدس بعد أن أعدموها بجنين أن: "اعتداء قواتالاحتلال على جثمان الشهيدة شيرين أبو عاقلة من قوات النخبة في دولة نووية ومتقدمةاقتصاديا وتقانيا ولديها جيش تدعي أنه من أقوى جيوش العالم يدلّ على أنها تخشى منجنازة، و من رفع العلم، و من الهتافات، ما يعني أنها تخاف رغم كل قوتها، فشرعيتهامفقودة و جرائمها تلاحقها وتسبب لها كوابيس فظيعة، وخشية من أنها لن تفلت إلىالأبد من العقاب، فالشعب الفلسطيني الصابر المرابط المقاوم يقف لها بالمرصاد ولنيكلّ ولا يستكين إلا بانجاز النصر الذي يستحقه و طال انتظاره".

 

وكنتُ قد كتبتُ في جنازتها قائلًا:عندما يحتقرُ الاحتلالُ حتى الأموات فيدنّس جثمان الشهيدة شيرين أبوعاقلة ويمنعالمشيّعين بالهراوات داخل المستشفى فإنه يسجّل نقطة سوداء تكشف مجدّدًا عقم الفكروالتطبيق الصهيوني العنصري، ويكشف الوجه الحقيقي للاحتلال الزائل قطعًا، فماذاسيقول الرئيس الأمريكي القادم الى فلسطين؟

 

لا تقلقوا، فعلى الصهاينة أن يتلقّواكثيرًا من اللّطمات والصفعات القادمة، ولكن على قيادات وجماهير الفصائل أن تتأمل! وتفهم،أو تحاول أن تفهم!

 

على التنظيمات وقادتها إحسان فهم حركةالجماهير، وعليها التفكّر العميق بحالة المدّ الجماهيري التي ارتبطت بموت شيرين،فإما أن تهلّل أو تفزع! انطلاقًا من نظرتها للأمور ووضعها هي كفصيل في ميزانالشعب، فهي كشفت عورات كثيرة.

 

الشعبُ الفلسطيني لايحتملُ الكذابينوالمتسلقين والفاسدين، وإن صبرَ عليهم فليس لرضا، أو تعب،أو كسل، وإنما لأنهبمُجملِه يفهمُ أن القضية المركزية والتناقض الرئيس هو مع العدو الصهيوني محتلّالأرض فقط ،كما كان يقول ويطبّق القادة العظام صلاح خلف أبواياد وخليل الوزيرابوجهاد، ومنير شفيق وقبلهم هوشي منه والجنرال جياب.

 

في شهادة شيرين الصادمة للعالم الحرّعِبرة للعالم أن الشعب العربي الفلسطيني هو شعبُ الأبطال، شعبُ الشهادة،والنضالوالرسالة والمثابرة (الديمومة الثورية)، وهو شعب عربي أصيل من أب وأم أصيلة،لايقبل الضيم والجور أوالاحتلال أبدًا مهما طال الزمن واصفرّت أوراقه.

 

ونحن بالأصالة والإباء والربِاطوالرحابة جُبِلنا كما كان يتغنى المتنبي وأبوفراس والأنداد، ويرسم الطريق سيفالدولة الحمداني أو صلاح الدين الأيوبي أو صقر قريش أو ابن تاشفين فتميزنا حضاريًاعن عفن الغرب العنصري الاستعماري.

 

بعد النكبة والنكسة وعديد الكبوات، وإثرعديد الاخفاقات السياسية والحزبية العربية كانت الأمة وكان الشعبُ بحاجة للابطال،والنصر، وبحاجة النموذج العملي والقدوة مع بضع قطرات من الماء الزلال تعيدُ لهالأمل، فوثب الزعيم المِقدامُ ياسر عرفات يتقدم الرّكب وينتشل من معين لاينضب،معين الجماهير فصنع ثورة، حتى اعتلى مركب الشهادة.

 

وبعد دهر، وفي عصر الانحدار العربيالمُركّب اليوم، ومع ثِقل القدم الصهيو-أمريكية على الرقاب والصدور كانت مواكبالشهداء في فلسطين تترى لتُعلن البراءة من البطالة الثورية، وترسم حقلًا واسعاً منقمح العمل الصاعد نحو النصر بإذن الله.

 

في عصر التفوق الاعلامي والتواصلالاجتماعي والفضاء الرقمي المتعجّل علَا هدير الصورة النابضة والعبارة الموجزةوالكلمة المؤثرة، ووجد الهديرُ فرسانَه فكانت منهم وربما على رأسهم الفارسة أو أيقونةفلسطين الاعلامية كما أطلق عليها، أو عروس فلسطين شيرين.

 

في استشهاد شيرين وجب الفهم العميق حيثوقَع الفصلُ بين الغُلاةِ والمتطرفين في الدين الحنيف، أصحاب القضايا الثانوية،وبين أولئك أصحاب الاستقامة و القضية الرئيسية ومكنون السماحة والانفتاح.

 

وبموتها وقع الفصل بين المزاودين فيالوطنية، أصحاب القضايا الحزبية العصبوية، واستقر الفهم الوطني والشعبي العارموالقومي الجامع بما كان من 4 جنازات أقيمت لها، لم يسبقها عليها الا الشهيد الخالدياسر عرفات.

 

باستشهادها عبرات، بالمعنيين عِبرةوعَبرة ، وفي استشهادها آن للفصائل السياسية أن تصحو من غفوتها، وآن لها أن تتعلمأن بوابة فلسطين لاتمر من بين أيديهم هم فقط، فوراء الأكمة الكثير من الأفكاروالأجسام والنماذج والكلمات التي تتفوق، أوتنمو شيئا فشيئا الى أن تسود.

 

وحين يحين الوقت، وفي الموعد المحددتمامًا ستسقط الصهيونية ويزول الاحتلال والتاريخ شاهدٌ لا يُنكر، وسيجد المتوسّدونللأرائك في حديقة فلسطين، وشعبها البطل، أنهم فجأة أومباغتة قد سقطوا، أو أضحوا فيمهب الريح.