أعلى التلة بقلم ياسر رافع
تاريخ النشر : 2021-11-18
أعلى التلة

بقلم: ياسر رافع

في ليلة مظلمة تكسوها البرودة القارصة وزخات المطر المتلاحقة على الطرقات ، يمشى وحيدا مهموما مطأطأ الرأس يمسك بين يديه سيجارة شارفت نيرانها على أن تمس أصابع يديه، غير عابئ بقطرات المطر ولا الأرض المبتلة التي تحولت إلى طينيه موحله ، شارد في أفكاره المتسارعة والمتداخلة ، يكافح إحساسه بالكآبة والحزن ، يسرع الخطى ليخرج من حيز البيوت والمباني والتي يراها شهود لمقابر أموات أحياء ، وكأنه يهرب من قدرا ما إلى المجهول.

على مشارف مدينته الريفية الصغيرة وعلى تلة عالية تشرف عليها ، جلس في مكان يعرفه جيدا فهو قد إعتاد أن يجلس فيه كلما ضاقت نفسه واشتاقت روحه إلى أن ينفرد بنفسه بعيدا عن الناس ـ يحلق بأفكاره وتأملاته بعيدا ولا تحدوا أحلامه حدودا مانعه ولا أفكار قديمه صدئه . ولكنه اليوم لم يكن ذاك الشاب المفعم بالحيويه والأحلام والطموحات الكبيرة ، فقد ظهرت على قسمات وجهه تجاعيد اليأس والعيون الزائغه وآثار التدخين الكثيف تظهرعلى ثنايا أسنانه ، وبدأ وكأن كهلا قد خلع عن نفسه رداء الشباب من فوره.

فى هذة الأثناء توقفت زخات المطر وأنقشع السحاب وظهرت النجوم تتلألأ فى السماء ، يتوسطها قمر مكتمل بدد بنور كآبة الظلمه ومدد جسده على الأرض مستندا على صخرة ليريح جسده المتعب . ثم أخرج من بين طيات ملابسه علبة سجائرة الرخيصه وعلبة الثقاب ، ثم وضع سيجارة بين شفتيه المرتعشتين من آثر برودة الجو ، وبينما يشعل عود الثقاب وعلى نورلهب الكبريت وجد أمامه فجأة شخصا واقفا أمامه ، فخاف ورمى عود الثقاب المشتعل والذى إنطفأ سريعا ، ثم حاول أن يهرب من أثر الصدمه ، ليس لأنه إنسان خائف أو جبان ولكنه وجد فى هذا الشخص وكأنه ينظر فى المرآة ، أترى أيكون إنسانا أم شبحا ؟ فليس التشابه يصل إلى هذا الحد ؟.

لم يتحرك بعيدا حتى ناداه هذا الشخص بإسمه " على " فتسمرت قدماه فى الأرض وأصبح غير قادر أن يتحرك ، وناداه مرة أخرى أن إلتفت وأرجع وأجلس فى مكانك فلست شبحا ، هنا إطمأن " على" وألتفت ببطء ثم رجع إلى مكانه وجلس بجوارهذا الشخص الذى لا يعرفه ، وساد صمت لدقائق أعقبه أن قام هذا الشخص بإخراج بعض الخشب الجاف من بين طيات ملابسه ووضعه بينه وبين "على" على الأرض ثم قام بإشعاله ، وما أن زادت حدة النيران وزادت أنوارها ، حتى بدأت ملامح هذا الشخص تكون واضحه تماما.

يالهول إنه أنا ؟! هكذا صرخ "على" من داخله الذى ينتفض خوفا وهلعا ، ولكنه لا يستطيع الحركه أو الكلام ولا يدرى لذلك سببا ، ولكن هذا الشخص لم يتركه لخوفه وهلعه ، وضحك ضحكه خفيفه ....

الشخص : لا تخف منى ، فأنا أنت !!
ومع تلك الكلمات أحس " على" ببعض الطمأنينه التى أدخلته فى حيرة أكبر ، ولكنه مازال لا يستطيع الكلام ولا الحركه وكأنه مشلول بالكامل ، لكن عقله يشتعل بالأسئله التى يريد طرحها ..
الشخص : أعلم ما يدور فى عقلك ، تريد إجابه لما تراه أمامك

هنا خرج صوت من داخل "على" يخبرة بأنه فعلا يريد ذلك ، لكن هذا الصوت لم يخرج من فمه المغلق رعبا ، ولكنه هو صوته
الشخص : ماذا تريد أن تعرف بالضبط ؟!
الصوت : أريد أن أعرف من أنت ؟ وكيف تشبهنى إلى هذا الحد المخيف ؟
الشخص : أنا أنت ؟! نصفك الذى تخاف أن تقابله
الصوت : إنك شبحا بالتأكيد
الشخص : وهل الأشباح تشعل الأنوار
الصوت مرتعشا : فكيف إذا تشبهنى ولماذا جسدى مشلولا ؟
الشخص ضاحكا : لا زلت فى صدمتك ، ولكنى سأخبرك بما تريد !! أنا نصفك الذى تحاول قتله وراء أسئله لا طائل منها ، وأفعال تميت الجسد والروح ، تبحث فى وجوه الناس عن أجوبه ولا تجد ، أنا صمتك أنا صوتك أنا حركاتك أنا سكناتك . أن روحك المتقدة المختبأة فى جسد يتهالك وراء صوتك المرتعش
الصوت : أفهم من ذلك أنك أنا وجئت تحاكمنى
الشخص : لا يمكن للإنسان أن يحاكم نفسه حتى ولو كان عادلا
الصوت : فلماذا جئت أصلا
الشخص : جئت ألملم شتات الجسد والروح ، ما الذى أراه أمامى ، كومه من بقايا إنسان متعب ، مثقل بالهموم وهوعلى مشارف الحياة
الصوت : تلك حياتى وأنا حر فيها ! وإذا كنت شبحا وأراك كذلك ، فأنصرف !
الشخص : لا زال صوتك خائفا جبانا ! تخشى المواجهه ! تريد أن تتقوقع على نفسك ! تهفو نفسك إلى طرح الأسئله وتخشى الإجابات ! تريد تمردا وتخشى عواقبه ! ووووووووووو
الصوت متحديا : ممكن أن يحمل كلامك بعضا من الحقيقه ولكنها ليست كل الحقيقه ، فأنا أحلم وسط مجتمع خائف من الغد يكره الحركه ويعشق السكون ، أريد أن يسمعنى الناس ، أريد أن أكون مسموعا ، ليس ما أفعله أو أطلبه بكثير
الشخص : أراك قد بدأت تتخلص من خوفك ! تلك أزمتك " الخوف " ، تخلص منه وعندها ستتغير الحياة تماما أمامك ..

فى تلك الأثناء بدأت النيران المشتعله تخبوا شيئا فشيئا ، وبدأت صورة ذلك الشخص تتلاشى مع خفوت النيران ، وبدأ جسد " على" يتحرك وقام واقفا وهو يتكلم بصوتا عالى " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، أكيد أنا كنت بحلم " . ولكنه توقف وصمت ونظر للسماء التى بدأت تتلبد بالغيوم مرة أخرى وبدأ إنحسار ضوء القمر وبدأت تتساقط قطرات من المطر ، وتكلم وكأنه يحادث شخصا ما " لن أخاف بعد اليوم ، سأكون كما أريد ، سأبحث عن إجاباتى ، وسأظل أحلم وأحلم بالغد ، لن أستسلم لمجتمع يريدنى كما هو ..."
" يا من كنت تحادثنى ، إنطلق صوتى ، مات خوفى "
ثم نزل مسرعا من أعلى التله وكأنه ولد من جديد ، مخترقا الشوارع بسرعه رغم طرقاتها الموحله ، وأضواء خافته تخرج من بعض البيوت ، حتى وصل إلى الميدان الرئيسى فوجده مظلما خاليا من الناس ، فتسلق أحد الأعمدة لكى ينيرالمصباح المعلق فى الأعلى ، لينيرللناس فى هذه الليلة المظلمه الماطره .
وفجأة جاءه صوتا من أسفل " إنزل يا لص يا إبن اللصوص " .. فنظر للأسفل وقال " لست لصا أنا أريد أن أنير المصباح حتى يسترشد الناس بنوره فى هذه الظلمه " .
وبين شدا وجذب إستمر "على" فى عمله بالأعلى ، وزادت ثورة الرجل فى الأسفل ، لحظات وأضاء المصباح وبدأ فى النزول وما أن وصل إلى الأرض حتى لاحظ أن أعمدة الميدان قد أنارت فجأة وذهل عندما شاهد زملاء له ينزلون تباعا من على تلك الأعمدة ، وبحث عن الصوت الذى كان يصفه باللصوصيه فلم يجده وكأنه تبخر،

فنادى أحد زملاءه عن سبب مجيئهم وتسلقهم أعمدة الإنارة ، فقال له بأنهم كانوا يتسامرون بجانب التله ، حتى سمعنا صوتك تنادى على شخص لا نراه ، ثم رأيناك تجرى ناحية البيوت ، فجرينا وراءك لنتبين خبرك ، فوجدناك تتسلق عمود الإناره غير خائف من الصعق الكهربائى ولا الظلمه المحيطه بالمكان ولا صوت وشجار حارس الميدان معك ، فتشجعنا وزال الخوف منا وبدأنا نتسلق باقى الأعمدة ونفعل ما تفعله.

ومع نهاية الحديث خيل إليه أن كل زملاؤه على نفس شكله وكأنه ينظر فى المرآة ، فرجع للوراء وراح يفرك عينيه لعله حلما آخر ، ولكنه وجد أحد زملاءه يقترب من أذنيه " ليس حلما . أنا أنت هم .. أضئنا الميدان عندما تخلصنا من الخوف أعلى التله "
وتفرقوا على وعد بتنظيف الميدان غدا .