إكليل الجبل بقلم محمد بوعنونوة
تاريخ النشر : 2021-11-06
قصة قصيرة تحت عنوان

إكليل الجبل                                  

بقلم محمد بوعنونو

لم يكن يدري أن الكلمة التي تلفظ بها في حق ذلك الظالم ستصل إليه مباشرة بعد تفرق المجلس، ولم يكن يعلم أن من بين خلّانه من لا شغل له سوى الوشاية والغدر مقابل ثمن زهيد، قد لا يتجاوز في أفضل الأحوال مد شعير أو صاع تمر أو مكيال ذرة ...

كان ذلك في خمسينات القرن العشرين بإحدى القرى المعزولة شرق المغرب، حيث كان ظالم يصول ويجول ويجوس القرية كيف يشاء، يهتك العرض ويسفك الدم، ويسرق غلة الفقراء، ولا من يتصدّى له أو يوقفه عند حده، فعلاقاته مع المستعمر الفرنسي أضفت عليه قوة وجبروتا، ولا من ينبس ببنت شفة.

   ثم حدث أن وصلته الوشاية وأخبر بالذي دار في المجلس، وانتهى إلى سمعه ما تلفظ به صاحبنا في حقه، فتميز غيظا ثم أقسم بأغلظ الأيمان ليسفكن دم هذا القروي الذي تجرّأ عليه واغتابه وسط القوم، وليجعلنّ قصته عبرة لكل من سولت له نفسه مجابهته أو أملى عليه ضميره تحديه.

وبالفعل قد سخّر بعض أعوانه ومقربيه وزودهم بالعصي والسلاح وأمرهم بتلقين الرجل درسا لا ينساه، وأن يجعلوا منه عبرة لغيره ممن يهم بالوقوف أمام غطرسته أو ينوي الدخول في حرب معه.

ثم أقبل المساء، وجرّت الشمس ذيولها عن القرية المعزولة، وآب كل رجل إلى خيمته يسوق أغناما هزيلة، وقد سيطر على السهوب صوت ممزوج بثغاء القطيع وحفيف إكليل الجبل تداعبه نسمات آخر النهار...

آوى صاحبنا إلى خيمته وهو لا يدري شيئا، أدّى الصلاة، ثم اتكأ على ساعده يداري أحزانه، وحوله أطفال نال منهم الهزال، عليهم أطمار بالية، مجتمعين حول نار هادئة عليها قدر ينفث بخارا تلعب به الريح المنبعثة من ثقوب الخيمة البالية فيهدهد أحلامهم وينسج آمالهم.

فجأة سمعوا نباح الكلاب، فأطرق الجميع في صمت رهيب، واشرأبت الأعناق نحو منفذ الخيمة، انتصب صاحبنا واقفا ثم خرج يتبين سبب هذا النباح المفاجئ، فما راعه إلا رجال ملثمون وقد أحاطوا بالخيمة إحاطة السوار لليد، فولّى مسرعا إلى الخيمة لا يلوي على شيء ولا يدري ماذا يفعل، فبينا هو على تلك الحال، سمع صوتا يأمره بالخروج وإلا هدم الخيمة على من فيها وأضرم فيها النار.

كانت أفئدتهم هواء، وقد تلبسهم الخوف وسيطر عليهم الرعب، أشارت عليه الزوجة بعدم الخروج، فأطرق هنيهة يفكر في وجل، ثم قرّر الخروج حتى لا يجعل من نفسه عارا على أطفاله ويقال إنه ماتا جبانا مربّا بعرسه وسط خيمته.

     حاولت الزوجة الإمساك به لكنه تجاهلها، وتجاهل صراخ الأطفال حوله، وخرج إليهم حاسر الرأس حافي القدمين متجردا عن كل سلاح، اقترب منه رجلان فربطوا يديه خلف ظهره، ودفعوا به إلى الأمام، متجاهلين صراخ أطفال أبرياء، وتوسلات امرأة ضعيفة بائسة لا قوة لها بهم.

ساقوا صاحبنا إلى شجرة أسفل التل، مرددين: "اليوم تتعلم كيف تحترم أسيادك"، إذ ذلك فقط انقدح في ذهنه سبب هذا الهجوم، وأدرك ما ومن وراءه، لكن الثبات قد حطّ على شرفات قلبه، فأوقد به سرج الأمان والطمأنينة فلا يبالي بأحد.

وجهوا إليه ضربة شجت رأسه، وترنّح على إثرها ذات اليمين، ثم هوى عليه آخر بضربة أقوى جعلته يميل ذات الشمال، ومعها نفث آلاف المواجع والجراح، بيد أن الألم كان لذيذا سرعان ما جعله يدخل غيبوبة ألذّ، ثم تتابعت الضربات واللكمات المشفوعة بكل ما تحمله القواميس من ألفاظ السب والشتم والاحتقار.

كان الدم ينساب من رأسه في سكون فيخضب لحيته ويجعلها حمراء اللون، في هذا اللحظة حيث كان صاحبنا بين الموت والحياة، انبرى له أحدهم وجعل يضرب عن يمينه تارة وعن شماله تارة أخرى، يلهج بكلمات السب والشتم ثم يضرب فوقه طورا وتحته أطوارا، وقد تميز بغضب وحنق مصطنعين موهما عصابته بأنه يضربه حقا، وما كان يضربه ولا يمسه بأذى، ذلك أنه كان أحد الشباب الذين تربوا في حجره ونشأوا في خيمته، وشاركوه الملح والطعام، فلم ينس خيره ولا أنكر فضله، ونافح ودافع عنه قدر المستطاع.

في الصباح وجده بعض الرعاة ممددا عند شجرة لوز، فحملوه إلى البيت بين الموت والحياة، واستمرت الحياة لا تلوي على شيء، وأشرقت شمس يوم جديد، وسيطر ثغاء القطيع على السهوب، ونفض إكليل الجبل الدجى عن نفسه واشرأب يتلقف أولى خيوط الشمس الذهبية مستمتعا بأصوات النساء الشجية تارة وغردا بضحكات أطفالهن تارة أخرى...